قراءات نقدية

أدب الشروح عند المغاربة من أشكال التلقي النقدي للأعمال الأدبية

mohamad shadadalharakإن الإقبال على تصنيف الشروح الأدبية لم يكن دائما ظاهرة صحية في الأوساط الثقافية، لأنه يشير في بعض جوانبه إلى حالة فتور حاد في نبضات النشاط الإبداعي وإلى توقف طويل في مسيرة الخلق الفني. وخلال ذلك يتم اللجوء إلى مغازلة النصوص الجاهزة وإلى الاكتفاء بقراءتها وفك شفراتها وكشف مكوناتها اللغوية والمضمونية لمقاصد تعليمية وتربوية في الدرجة الأولى. فإذا كان عمل الشرح، من ناحية، يدل على أسلوب معين في تلقي الأثر الأدبي وقراءة متنه ومعالجة إشكالاته ومواجهة قضاياه وظواهره، بتوظيف مناهج محددة وتقنيات إجرائية ووظيفية، تترجم رؤية نقدية خاصة وذوقا أدبيا معينا. فإنه، من ناحية أخرى، يعكس سمات مرحلة ثقافية عامة، عقيمة على مستوى الإبداع، تجمدت فيها دماء الابتكار والخلق، وتحنطت المشاركة العلمية في قوالب جاهزة وساكنة وثابتة، وبدأت تدور حول نفسها، وتعيد إنتاج خطابها بصور مكرورة ومتصنعة.

وعلى الرغم مما يمكن أن تطرحه مصنفات الشروح من نقاش حول قيمتها العلمية والمنهجية، فإنه مما لا شك فيه أن عمل الشرح ليس بالإنجاز الهين الذي يفتقد صفة الإبداع، أو يكتفي فيه صاحبه بحل ما استشكل من القول، وإيضاح الغامض منه، وتبسيط ما صعب إدراكه أو ما تعذر فهمه، ولكنه عمل متكامل نابع من رؤية ناضجة وواضحة، ومعبر عن تجربة خاصة في القراءة وعن موقع معين يزاول من خلاله الشارح عملية التحليل والشرح. إنه بصفة مجملة أسلوب خاص في معالجة المتن وتناول مادته. ولذلك تحظى الشروح الأدبية باهتمام خاص في باب الدراسات الأدبية باعتبارها مادة أساسية تزود الباحث بصورة عامة عن مناهج القراءة النقدية عند الأسلاف، وتبرز التقنيات الوظيفية التي استعملوها في مقارباتهم النقدية التطبيقية. ولهذا لا ينبغي الانجراف مع الأحكام الجاهزة التي تحاكم بعض الأصناف الأدبية بدون قراءتها وبدون إعمال النظر فيها، أو التي تحاكم أدب الشروح بمقاييس غريبة مستمدة من ثقافة نقدية مستوردة، أو تحاكم الأدب القديم بمعايير نقدية جديدة ومستحدثة. وعليه فإن العقلانية العلمية تقتضي دراسة الظواهر الفنية والإنتاجات الأدبية بمعايير عصرها وبالمقاييس النقدية التي تواضع عليها العلماء والنقاد في ذلك العصر.فلكل زمن أدبي أذواقه واختياراته ومعاييره التي تناسبه وتستجيب له.

لقد ساهم أدباء المغرب وعلماؤه، منذ وقت مبكر، في حركة تصنيف الشروح الأدبية والعلمية، وكانت مساهمتهم في غاية النضج والأهمية. وهي تمثل إحدى أخصب التجارب التصنيفية العلمية التي أثرت التراث التأليفي العربي. ويمكن أن نرجع تاريخ بداية تصنيف الشروح عند المغاربة إلى العصر المرابطي، وذلك بتجربتي كل من القاضي عياض، من خلال كتابه (بغية الرائد)1 وابن هشام اللخمي السبتي من خلال كتابه (الفوائد المحصورة)2.

وقد أظهر المغاربة اهتماما كبيرا بمقاربة المتون الأدبية والعلمية، فعكفوا على قراءتها وشرحها وتفسيرها بمختلف الأساليب والأدوات والتقنيات، وكانت استفادتهم كبيرة من انفتاح المغرب على الثقافات الوافدة من المشرق والأندلس، كما كان تأثرهم واضحا بمناهج الشارحين الأوائل وبأساليبهم القرائية وطرائقهم التحليلية. فجاءت أعمالهم تحمل نفس السمات والخصائص التي تميزت بها شروح المشارقة، مما يدل على طابع النمطية في التجربة المغربية في بدايتها الأولى.

وإذا استقرأنا الخزانة المغربية نجدها تحفل بمصنفات وافرة من الشروح الأدبية والعلمية، وكثير منها ما يعود إلى عصور متقدمة. وقد حظي جزء من هذا التراث بالتحقيق والدراسة، في حين ما يزال الجزء الآخر نسيا منسيا، أو غائبا عن الأنظار يئن تحت ركام الإهمال وغبار النسيان في الخزانات العامة والخاصة، ينتظر التفاتة رحيمة، لتخرجه من محشره السحيق إلى دنيا التداول والدرس.

والمتأمل المتمعن في تراث الشروح المغربية، يقتنع اقتناعا راسخا بأن مساهمتهم في هذا الميدان لا تقل أهمية عن تجربة المشارقة، سواء من حيث محتواها العلمي والمعرفي، أو من حيث بناؤها الفني وتصميمها المنهجي. فلقد أقبل المغاربة على مقاربة المتون الأدبية الشهيرة التي نالت حظا واسعا من اهتمام المثقفين في سائر البيئات الإسلامية، فأرادوا أن يسجلوا حضورهم وان يجربوا حظهم ويخطوا أسماءهم إلى جانب الشراح الآخرين. ومن أبرز النصوص التي اعتنوا بشرح متنها ومقاربة مادتها: قصيدة البردة للإمام البوصيري، ومقامات الحريري وغيرهما.

لقد حظي نص البردة، منذ العصر المريني، بعناية كبيرة من طرف الأدباء، ولم يكن قد مر على وفاة البوصيري آنذاك زمن طويل. فانتشرت في الأوساط الثقافية والشعبية انتشارا واسعا، وأصبحت وردا للعاشقين للجناب النبوي الشريف والمتعلقين بأهدابه والمتيمين بحبه، خصوصا وأن التصوف في ذلك التاريخ قد وجد سبيله إلى البيئة المغربية ومرتعه الخصب بين صفوف العامة والخاصة. وهذا ما تترجمه جملة من الشروح الأدبية التي تناولت هذا النص بالتفسير والدراسة3.

وكذلك بالنسبة لمقامات الحريري4، فقد كانت من أهم النصوص الأدبية التي اعتنى الشارحون بمقاربتها وتفسيرها. وأصبحت، بهذا الاهتمام، نافذة حقيقية أطل المغاربة، من خلالها، على عالم الأدب الرحب الزاخر بالجمال والمفعم بالمتعة. وقد ظلت مادة رئيسية لدرس الأدب زمنا طويلا إلى أن تم إقصاؤها من حلقات الدرس، وإصدار قانون الحظر وفتوى التحريم في حقها، مما يدل على هيمنة الرقابة الفقهية على الحياة العلمية ومحاصرتها للأدب ولرجاله. ولم يكن درس الأدب في المغرب يقتصر على هذين النصين الأدبيين فقط، وإنما كانت نصوص المديح النبوي كلها تقريبا مدار الدرس ومادة للأدب وفنونه، وهذا ما يفسره اهتمام الشارحين بنصوص أخرى، كالهمزية للبوصيري، وبانت سعاد لكعب بن زهير، ونبويات مغربية أخرى خاصة مقصورة المكودي5.

إلا أن أنظار الأدباء والمثقفين بدأت تتجه نحو نصوص مغايرة تماما للنماذج السابقة، قصد شرحها وتفسير متونها وتقريب مادتها للقراء والمتعلمين، وهو ما يدل على نضج العقلية العلمية، وعلى تنوع الاهتمامات الأدبية وتطور برامج التكوين والتعليم. وكانت العناية في بادئ الأمر تنصب على بعض المتون المشرقية والأندلسية، ثم ما فتئ أن اتجهت أنظار الأدباء إلى المتون المغربية، فخصوها بدورها بالشرح والدراسة.

فمن أهم المتون المشرقية التي حظيت بشرح أدباء المغرب حماسة أبي تمام6 ولامية العرب7 ولامية العجم8 وبديعية الحلي9 وغيرها. وأما أبرز المتون الأندلسية التي تناولها الشراح المغاربة، فنجد، قلائد العقيان لابن خاقان10 وموشح ابن سهل الإسرائيلي11 وغيرهما. أما النصوص المغربية التي أخذت حظها من الشرح والدراسة، فأهمها دالية اليوسي التي مدح بها شيخه محمد بن ناصر12 ورائيته التي رثى بها الزاوية الدلائية13 ثم هناك قصيدة النسيم العاطر للأديب أحمد بن موسى الناصري التي مدح بها الشيخ أحمد الخليفة14 وغير ذلك من النصوص والمتون الأدبية.

ونلاحظ أن عمل الشرح عند المغاربة كان أهم مظهر للدراسة الأدبية، وأبرز مجال يوظف فيه الأديب ملكاته القرائية ومناهجه الفنية لمقاربة النصوص الأدبية التي تستأثر باهتمامه، بصفة خاصة، أو باهتمام الشريحة المثقفة على وجه العموم. وكانت مقصديتهم في ذلك هي تربية الذوق الأدبي لدى المتعلم المغربي، وتنمية قدراته اللغوية والتحليلية.

وإذا تأملنا التراث المغربي المتعلق بالشروح الأدبية، نجد تنوعا كبيرا في اتجاهات الشارحين وفي مناهجهم القرائية، مما يمكن أن يعد ثروة فنية ومنهجية قيمة تحفل بها الخزانة المغربية. ولا شك في أن هذه الذخيرة، هي ثمرة جهود علمية ونتاج أذواق فنية ونظرات نقدية وحساسيات جمالية، يمكنها أن تكون واجهة عملية لحركية التأليف النقدي التطبيقي في المغرب، وقد تكون عاملا مساعدا على تأصيل النظرية النقدية عند المغاربة. فإذا كنا نلاحظ قلة التراث النقدي المغربي في جانبه النظري، فإن هذا يدل على أن اهتمام المغاربة انصرف إلى تذوق الأدب عمليا، واستخلاص القيم الفنية والجمالية من النصوص المدروسة، وارتكاز أعمالهم النقدية على الممارسة التطبيقية والقراءة التحليلية للآثار الأدبية. ولعل الشروح الأدبية الكثيرة هي أهم مظهر من مظاهر هذا التوجه النقدي التطبيقي في التراث المغربي.

وهذه الظاهرة يشترك فيها المغاربة والأندلسيون على حد سواء، نظرا لتكامل التجربتين المغربية والأندلسية وتناظرهما. وفي هذا الشأن يقول الأستاذ رضوان الداية: "وباستطلاع كتب التراجم الأندلسية، نلاحظ كثرة واضحة في كتب الشروح، من أوائل عهد التأليف المعروف لدينا إلى أواخر أيامهم في غرناطة ؛ فإذا لاحظنا قلة تراث الأندلسيين في الدراسات البلاغية والنقدية، وبخاصة من الوجهة النظرية، أمكننا تفسير هذه الكثرة ؛ فكأنهم انصرفوا إلى الشروح مكتفين بتذوقهم هذا واستخلاص القيم الجمالية من النصوص نفسها، وكأنهم أيضا مالوا إلى سوق الذوق والتذوق .. ونحن لا نعدم ملاحظات بلاغية ونقدية أغلبها تطبيقي..."15.

 

د. محمد شداد الحراق - أستاذ باحث في التراث

المغرب

................

هوامش ومراجع

1ـ بغية الرائد فيما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد: تحقيق مشترك، طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1975.

2 ـ الفوائد المحصورة في شرح المقصورة: كان تحقيقه محور رسالة جامعية من إنجاز محمد حامد الحاج بكلية الآداب الرباط 1985 ـ 1986، ويوجد مطبوعا ط 1، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، دار مكتبة الحياة ،بيروت 1980.

3ـ من شروح البردة في العصر المريني:

ـ شرح إبراهيم التسولي التازي، منسوب لابن أبي يحيى، ذكره محمد المنوني في ورقات عن الحضارة المغربية في عهد بني مرين، منشورات كلية الآداب الرباط 1399 ـ 1979. ص: 285،

ـ شرح عبد الرحمان بن محمد المديوني: ذكره ابن القاضي في جذوة الاقتباس دار المنصور 1973 ـ 1974. ج 2 / 404،

ـ شرح أحمد بن محمد القصار، ذكره ابن القاضي في الجذوة، ج 2 / 411.

ـ شرح سعيد بن سليمان الكرامي مخطوط رقم: 1372 / د،المكتبة الوطنية ضمن مجموع

4ـ من شروح المقامات الحريرية في العصر المريني:

ـ شرح موسى الزناتي الزموري (ت: 708): ذكره عبد الله كنون في النبوغ المغربي ج 1 / 230 وذكره ابن المؤقت في السعادة الأبدية في التعريف بالحضرة المراكشية طبعة حجرية 1336. ج 2 / 128

ـ شرح يوسف بن يحيى التادلي (ت: 628): ذكره أحمد بابا التنبكتي في نيل الابتهاج بتطريز الديباج ط 1 مصر 1351. ص: 352، وذكره حاجي خليفة في: كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون طبعة وكالة المعارف 1362 ـ 1943 ،ج 2 / 1790،وذكره ابن المؤقت في السعادة الأبدية ج 1 / 147 ـ 148.

ـ شرح محمد بن منصور بن جماعة (حمامة) المغراوي مخطوط رقم: 1090 / ق.المكتبة الوطنية

5ـ من شروح مقصورة المكودي:

ـ شرح المكودي نفسه، وهو في عداد المفقود.

ـ شرح عبد العزيز الفشتالي، وشرح عبد الواحد الفيلالي: ذكرهما عباس الجراري في الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه، مكتبة المعارف،الرباط،1979، ج 1 / ص: 151.

6ـ من شروحها: شرح محمد بن زاكور (ت: 1120) بعنوان (عنوان النفاسة في شرح ديوان الحماسة) حققه: ذ. مخلوف محمد عيسى في إطار رسالة جامعية بكلية الآداب ـ الرباط.

7 ـ شرحها محمد بن زاكور بعنوان (تفريج الكرب في معرفة لامية العرب) مخطوط 157 / د.المكتبة الوطنية

وشرحها سعيد الماغوسي (ت قبل: 1016) بعنوان (إتحاف ذوي الأرب بقاصد لامية العرب) حققه: ذ. محمد الأمين المؤدب في إطار رسالة جامعية بكلية الآداب ـ الرباط.

8ـ شرحها الماغوسي بعنوان (إيضاح المبهم من لامية العجم) حققه: ذ. محمد مسعود جبران في إطار رسالة جامعية بكلية الآداب ـ الرباط.

9ـ من شروحها شرح ابن زاكور بعنوان (الصنيع البديع في شرح الحلية ذات البديع) ميكرو فيلم: 169.المكتبة الوطنية

10 ـ شرح ابن زاكور بعنوان (تزيين قلائد العقيان بفرائد التبيان) حققه: ذ. بوشتى السكيوي في إطار رسالة جامعية بكلية الآداب ـ فاس 1985 ـ 1986.

11ـ شرحه الإفراني بعنوان (المسلك السهل في شرح توشيح ابن سهل) حققه: ذ. محمد العمري، في إطار رسالة جامعية بكلية الآداب ـ فاس 1981.

12 ـ شرحها اليوسي نفسه، بعنوان (نيل الأماني في شرح التهاني). طبعة مصر، مطبعة التقدم 1329

13 ـ شرحها محمد البكري الدلائي، مخطوط رقم: 248 / ك.المكتبة الوطنية

14ـ وهي القصيدة التي شرحها المكي الناصري بعنوان (البرق العاطر في شرح النسيم العاطر) مخطوط رقم 1864/د المكتبة الوطنية،

15- تاريخ النقد الأدبي في الأندلس، ص: 72.

 

في المثقف اليوم