قراءات نقدية

إسماعيل مكارم: القصيدة بشكل رسالة في شعر سيرغي يسينين

القصيدة بشكل رسالة عرفت كنوع من أنواع القصيدة في الأدب الروسي منذ القرن التاسع عشر، إذ بإمكاننا رؤية هكذا قصائد لدى الكساندر بوشكين (الرسالة المحروقة)، ولدى تيوتشيف (رسائل قديمة)، ولدى نكراسوف (رسائل تلك المرأة الغالية). أما في القرن العشرين فقد طوَّر الشاعران المعروفان سيرغي يسينين وفلاديمير ماياكوفسكي- طورا هذا النوع من القصيدة.

دون أدنى شك القارئ الروسي اليوم كما القارئ العربي كل منهما لا يثمن عاليا أهمية ودور هذا النوع من الكتابة، كون الرسالة وأهميتها الأسرية والإجتماعية غدت صورة من صور الماضي، بفضل ثورة الاتصالات، ووجود جهاز الهاتف المحمول.

في القرن الماضي لعب هذا النوع من القصائد في الشعر العربي بذاك الزمن دورا ذات أهمية نذكر من تلك القصائد قصائد الشاعر العربي الكبير نزار قباني، إذ أننا نرى في نتاج القباني قصيدة (خمس رسائل إلى أمي) التي دونها بعد سفره في منتصف الستينيات، والتي مطلعها

صباح الخير يا حلوة

صباح الخير يا قديستي الحلوة

ونجد لدى القباني (100 رسالة حب) دونت عام 1970

في إحداها يقول: أريد أن أكتب لك كلاما

لا يشبه الكلام

الذي يعنينا اليوم - رسائل قباني إلى أمه، كون موضوع حديثنا هو حنين الشاعر الى أهله وموطنه وكتابته ما يلامس خلجات الروح في نص قصيدة من نوع القصيدة بشكل رسالة.

لدى الشاعر الروسي سيرغي يسينين نجد قصائد تأخذ شكل الرسالة مثل

(رسالة إلى أمي)، (رسالة إلى إمرأة)، (رسالة إلى جدي). أولى تجارب الشاعر الشاب كانت عام 1910 حين دون قصيدته المعروفة (إلى الأصدقاء)، وفي عام 1911 كتب قصيدته (إلى الصديق). تلك كانت تجاربه الأولى في هكذا نوع للقصيدة. إنّ شعر يسينين كما أشار عدد من الباحثين الروس – هو شعر السيرة الذاتية، إذ أنّ يسينين كان يكتب ما يلامس خلجات الروح في لحظات السعادة وفي لحظات الشجن. لابد هنا من الإستشهاد بما قاله الباحث المختص بنتاج يسينين يوري بروكوشيف، إذ أشار "أنّ أشعار يسينين هي بمثابة قصة حياته" وأكد أنه قد وجد في نتاج الشاعر عددا كبيرا من الرسائل، أما القصائد التي كتبت فيها كلمة رسالة فهي قليلة(1). ويشير الباحث تينيانوف إلى أن أشعار يسينين كأنها رسائل استلمت من موزع البريد، فهي تحكي عن قضايا خاصة، شخصية، وبذات الوقت لها طابع إنساني عام. ويجمع النقاد على أنّ أشعار يسينين، التي جاءت على شكل رسالة قام بكتابتها في عامي 1924-1925، وإذا ما سألنا - لماذا قام الشاعر باللجوء إلى هكذا نوع من القصيدة في تلك المرحلة من عمره؟ فمن المؤكد أن المنطق سيجيبنا بأنه في اللحظات الحرجة،الصعبة والقاسية لجأت روح الشاعر إلى موطنه الصغير، إلى حضن الأسرة كي تشتكي، لجأت إلى مرابع الطفولة، إلى بيت الأهل.

إن هجرة الشاعر من ضيعته ومن موطنه الصغير الى موسكو، ومن ثم الى بطرس بورغ، ثم إلى خارج روسيا، هذه الهجرة أوقدت نار الحنين في نفس الشاعر، وهيجت مشاعر المحبة تجاه مرابع الطفولة في بلده، حيث النهر الجميل والسماء، والماء، والغابات الكثيفة والوسط الريفي الإجتماعي البسيط والصادق.

وإذا عدنا إلى شاعرنا القباني العظيم أليست الهجرة ومغادرة دار الأهل بالشام، أليس هذا ما أوقد نار الحنين وهيّج مشاعر المحبة والإلتصاق بكل ما تركته فترة الطفولة والفتوة في الذاكرة: البيت، والدار، والبركة والزهور في فسحة الدار، وعلاقته بأمه وأبيه... .

أليس هو من قال في (خمس رسائل إلى أمي):

أنا وحدي

دخان سجائري يُضجر

ومني مقعدي يَضجر

وأحزاني عصافيرٌ

تفتش بعدُ عن بيدرْ.

ويضيف

صباح الخير من مدريد

ما أخبارها الفله ؟

بها أوصيك يا أماه..

تلك الطفلة الطفله

فقد كانت أحب حبيبةٍ لأبي

يدللها كطفلته

ويدعوها إلى فنجان قهوته

ويسقيها

ويطعمها

ويغمرها برحمته

ومات أبي

ولا زالت تعيش بحلم عودته.

ويضيف

سلامات ...

سلامات...

إلى بيتٍ سقانا الحب والرحمة

إلى أزهارك البيضاء..(2)

***

سوف نكتفي بهذا القدر ونستمر في عرض أشعار يسينين المرسلة إلى الأهل بشكل رسائل.

***

إعداد وترجمة إسماعيل مكارم

في المثقف اليوم