قراءات نقدية

قصيدة "الديك" للراحل نزار قباني والمسافة بين ذاكرة الخطاب الشعري وآفاق النبوءة

ahmad alshekhawiعاش ظاهرة صوتية ازدانت بها منابر الإلقاء كما نصا أكثر شعبية ومقروئية،وتجربة نموذجية راوحت في بصمة المنجز ما بين رسائل الحب والحزن والغنائية والقصائد العارية والسياسية المحظورة، ليرسم ملامح خلود أعمق تجدرا في وعي وذاكرة الإنسان.

نقديا تعدّ هذه أول مرة أزور فيها بيت أحد عمالقة المشهد الشعري العربي المعاصر وأبرز رواده دون منازع.أحد الفحول الذي خاض في مفهوم القصيدة العربية الفصيحة الصرفة بأبعادها الثلاثة العروضي والتفعيلي والنثري، مجرّبا خمرة انتشاء النفس في تلكم المحطات الثلاث، لو أنه لم يزل على قيد الحياة ،لما توانى وهلة واحدة عن مواكبة الركب،ولما عارض أو جادل أو عكس قيد أنملة وجهة بوصلة تأبى التوجه إلى غير ما يشير إليه مستقبل التطور البشري الصارخ.

ولأدهشنا بروائع متسربلة و زاهية ورافلة في حلل الهايكو مثلا.

في حضرة شاعرة المرأة بامتياز، الراحل نزار قباني المتربع على عروش قلوب الملايين من عشاق الكلمة المعسولة الهامسة النافرة في ألوان الأنوثة الطاغية، من المحيط إلى الخليج، والذي مهما غلونا أو توغلنا في تقديم تعريفات له هو غني عنها بالطبع،لن نوفيه حقه كرمز ازدهرت بنتاجاته الكريستالية الدسمة ،الصناعة الشعرية العربية.

في هذه الورقة ستقتصر مقاربتنا على قصيدة الديك المكتوبة لحافظ أسد أنذاك،والدرر المتوارية والغائرة جدا من معان ودلالات ثمينة قابعة في ثنايا ما بين السطور المنقوشة بدم الأفئدة قبل غضب الحناجر وشدوها،المنقوشة في الذاكرة الإنسانية،وما حاكاها من كنوز معرفية وجمالية ،نحاول اقتناص البعض منها بغية تبسيطها ومن ثمّ إتحاف المتلقي بها وتقريبه من عوالم رجل خطير جدا جعل الشعر فوق الحياة وطلّق المنصب متفرّغا لشعر الإدمان والجنون.

في حارتنا ديك سادي سفاح..

ينتف ريش دجاج الحارة كل صباح..

 

ينقرهن يطاردهن يضاجعهن ويهجرهن..

ولا يتذكر أسماء الصيصان..

 

في حارتنا ديك يصرخ عند الفجر..

كشمشون جبار..

يطلق لحيته الحمراء ويقمعنا ليلاً ونهار..

 

يخطب فينا..

ينشد فينا..

يزني فينا..

فهو الواحد وهو الخالد وهو المقتدر الجبار..

 

في حارتنا ثمة ديك عدواني ..

فاشستي..

نازي الأفكار..

سرق السلطة بالدبابة...

ألقى القبض على الحرية والأحرار..

 

ألغى وطناً ..

ألغى شعباً..

ألغى لغة ..

ألغى أحداث التاريخ..

وألغى ميلاد الأطفال

وألغى أسماء الأزهار..

 

في حارتنا ديك

يلبس في العيد لباس الجنرالات..

يأكل جنساً..

يشرب جنساً ..

يسكر جنساً ..

يركب سفناً من أجداث ..

يهزم جيشاً من حلمات..

 

في حارتنا ديك من أصل عربي فتح الكون بآلاف الزوجات

في حارتنا ثمة ديك أمي يرئس إحدى الميليشيات..

 

لم يتعلم إلا الغزو

وإلا الفتك

وإلا زرع حشيش الكيف وتزوير العملات..

كان يبيع ثياب أبيه ويرهن خاتمه الزوجي

ويسرق حتى أسنان الأموات..

 

في حارتنا ديك كل مواهبه

أن يطلق نار مسدسه الحربي على رأس الكلمات..

 

في حارتنا ديك عصبي مجنون

يخطب يوماً كالحجاج

ويمشي زهواً كالمأمون..

يصرخ من مئذنة الجامع

يا سبحاني يا سبحاني

فأنا الدولة والقانون..

 

كيف سيأتي الغيث إلينا..؟

كيف سينمو القمح ..؟

وكيف يفيض علينا الخير وتغمرنا البركة

هذا وطن لا يحكمه الله ولكن تحكمه الديكة..

 

في بلدتنا يذهب ديك..

يأتي ديك ..

والطغيان هو الطغيان..

يسقط حكم لينينيٌ..

يهجم حكم أمريكيٌ ..

والمسحوق هو الإنسان..

 

حين يمر الديك بسوق القرية مزهواً

منفوش الريش وعلى كتفيه تضيء نياشين التحرير

يصرخ كل دجاج القرية في إعجاب:

يا سيدنا الديك ...يا مولانا الديك ...

يا جنرال الجنس وفحل الميدان

أنت حبيب ملايين النسوان ..

هل تحتاج إلى جارية ..؟

هل تحتاج إلى خادمة ..؟

هل تحتاج إلى تدليك..؟

 

حين الحاكم سمع القصة

أصدر أمراً للسياف بذبح الديك..

 

قال بصوت غاضب:

كيف تجرأ ديك من أولاد الحارة أن ينتزع السلطة مني

كيف تجرأ هذا الديك

وأنا الواحد دون شريك...

خلفية النص يهيمن عليها صوت الهم المحلي، لتنطلق بعد متلبّسة اتجاهات شتى وبحمولة سياسية تتعاظم وتغلظ عبرها خطابات الإدانة القوية والكوميديا السوداوية اللاذعة و الساخرة من الساسة الدمى، وقد وظفت لهذا الغرض لازمة/في حارتنا ديك... و أيضا تيمة المانوية والشهوانية في حقولها الدلالية الموحية والرامزة إلى إمبراطورية اللقطاء/ الصيان، كإفراز مشين وعار لديكتاتورية و دوغمائية سدنة الحل والعقد من زعماء وجنرالات وحاشية عموما، من حديد قبضتها على الشعب الرازح تحت نير مجمل مظاهر التردي و الانحطاط ، فيما مفاهيمها تجاه الحكامة والسلطة مختزلة في الإقتداء بزيز البشرية الأول واقتفاء خطاه الملوثة بملابسات الاغتصاب وتأليه جسد الأنثى وتفريخ لقطاء وصولات وجولات في كواليس وحتى عراء العربدة والمجون.

إننا إزاء سرديات قصيدة ماكرة ومراوغة متماهية مع تقنية السهل الممتنع حد الانصهار فيه، ومترعة بالتشبيهات تتصدر قائمتها العنونة وما يتناسل عنها من إيماءات جمالية تجذب الذائقة إلى مستويات فنية بحيث يسهل التلقي وتذوب المسافة بين الموضوع والذات ليتشكل التجاوب التكامل والامتداد المطلوب.

بيد أن ما المقاربة هاهنا معنية بتلكم الدينامية مشتعلة بحمى ديمومة وسرمدية صلاحية الكلمة الراقية العصية على النسيان أو السهو أو بقية صنوف ما يلغي نبض ماهيتها بما يمنحها الاستثناء ويجعلها ذاكرة مستنبتة في المستقبل ضاربة فيه و مشرعة على آفاق النبوءة.

يكفي أن نتأمل راهننا وما آلت إليه مصائر عدد من أوطاننا لنلامس مغزى ما صمتت ـ ربما ـ عنه قصيدة الديك كصيحة إنسانية طفحت بأهداف الثورة المقموعة، ودقّت ناقوس الخطر منذ زمن ليس ببعيد.

 

أحمد الشيخاوي / شاعر وناقد مغربي

في المثقف اليوم