قراءات نقدية

عبر مجموعته: مزمار للوقت.. مزمار الشاعر خليل الأسدي

1045 obaydiثمة في حقيقة الأمر، مسألة تتضمن أهمية ما، في ما يتعلق بالإصدارات التي كانت تدأب على إخراجها دار الشؤون الثقافية في ظل النظام السابق، فهي وعلى الرغم من إنها كانت بمجملها تصب في خدمة أغراض وأهداف النظام، غير إننا نستطيع أن نتلمس أيضاً، انه ومن خلالها، قد تمّ إصدار العديد من الكتب والمطبوعات المهمة، والتي تضمن بعضها انتقادات لاذعة ومبطنة للسلطة ذاتها، الأمر الذي يشير الى أن "بعض" المثقفين الذين أتيح لهم أن يتسنموا مناصب قيادية في هيكلية وزارة الثقافة والإعلام السابقة، لم يكونوا يلتزمون حرفياً بما كانت تمليه عليهم إرادة السلطة، وانهم في كثير من الأحيان كانوا يمررون نصوصاً وكتباً تصب في غير صالح توجهات السلطة التي كانت تسعى إلى تكريس ثقافتها وإيديولوجيتها فحسب، وان كنا لا نعدم ان السلطة ذاتها، كانت بين الفينة والأخرى تتأرجح بين الانفتاح والانغلاق، بحسب ما تمليه عليها أوضاع دولية أو إقليمية بعينها .

نحن إذن، بإزاء ديوان صغير الحجم (56) صفحة، بعنوان "مزمار للوقت"، وهو للشاعر نصف المخضرم خليل الأسدي، الذي يتضح ومنذ الوهلة الأولى، إنه كان يتمترس خلف لغته الشعرية، وإيماءاته بمواجهة وطأة الواقع المرير وفداحته، فنراه يقول، وفي مفتتح قصيدته الأولى المعنونة (أمير كلام):

إني أمير كلام

ما زال بيتي ليس يُعرف

والبحارُ بعيدةٌ عني

ومملكتي الغمام

ثمة ما يقف في وجوهنا، ضمن إشكاليات محددة كانت تتمحور حول ذات الشاعر المأزومة، ففي قصيدة (أوقات ضائعة) نقرأ:

كلُّ أسلحتي لم تزل في مشاجبها

والجنود الذين قضوا في حروبي القديمة

ما زلت أسمع دقات ساعاتهم !

في هذه النقطة بالذات، بوسعنا أن نلاحظ رمزية الساعات التي تدق في أيدي الجنود الميتين .. إذ تقف البزات المثقبة بالرصاص، بمواجهة تلك المزدانة بالنياشين والأوسمة، ولسوف نرى في القصيدة ذاتها، الإحالة التي تحملها إلينا جملة "الأسلحة التي لم تزل في مشاجبها تنتظر"، حين يبتدئ الشاعر بالحديث عن أنثاه التي هرمت وشاخت، وما يزال هو متشبثاً بها رغم كل ذلك :

لا تقولي ولا كلمة

لا تقولي التجاعيد تغزوكِ

لا تقولي بأنك في الأربعين

إنما أنت أجمل من أيّ وقت مضى

وعلى هذا الإيقاع المنغم والمؤسي معاً، يمضي بنا الشاعر متحدثاً عن عشيقته، إذ سرعان ما تذكرنا بقصة الحب الهائلة، تلك التي كانت نسجتها بخيوط من ذهب، أنامل ذلك الكولومبي المذهل ؛ غابريال غارسيا ماركيز في رائعته (الحب في زمن الكوليرا

فالوقت يصدأ في ثيابك

في غموضك … في السرير الرثّ

في الشعر الذي عبثت به ريح المواسم

وحيث نقرأ أيضاً في قصيدة أخرى " ثمة ما يذكر باللهاث":

ثوبها ملقى على الكرسي

رائحة الأنوثة والبخور

تخالطت فيه، وآثارٌ من الأعشاب

والأشنات تراقب عريها مبهورة الأنفاس

هل حرّكت شفتين إلاّ كي تموء كقطةٍ في الركن منعزلة

تمسّد عريها وتموء ثانية، فتفوح رائحة الجسد

ثم ليصل بنا إلى رسم صورة فوتوغرافية غاية في الدقة ؛

وبطيئة تنساب حبّاتُ العرق من إبطها العاري

فينضح دافقاً من جلدها العاري الشبق

غير أن الشاعر، وفي بعض الأحيان لا يملك إلاّ أن يعترف بفداحة ما يتركه الوقت من آثار مروعة على جمال الجسد الأنثوي؛

… وتمثالها الأنثوي تآكل تاريخه وعلاه الصدأ

هزمتها التجاعيد واختتمت حبها بالتضرُّع

ومع إقراره بمثل هذه الوقائع المرة، ما يلبث أن يستدرك مع نفسه، ولاسيما في أوقات الثمل؛

مسراتنا لم تشخ هكذا

والأصابعُ لم ترتعش

كنتِ رائعة وأنا أتجول في جسدكِ

و … عريكِ فوق البياضات

نحن إذن بإزاء روح شاعر لا يرغب بالإقرار بالهزيمة، فما يزال بمقدوره أن يستحلب عناصر الجمال حتى من خلال الحطام ذاته :

العجائز خبّأن بعضاً من النار

داخل أكواخهنّ

وسرنَ على الرمل

يجمعن للنار بعض الحطب

لكنه في نهاية المطاف، لا يملك سوى الإقرار بالحقيقة التي لا مفر منها ؛

في نقطة لا ترى

يتفسخُ في موته

جسدُ الأرملة !

في قصيدة أخرى، بعنوان " أحياء "، وهي قصيدة احتفائية صغيرة، مهداة الى الراحلين رشدي العامل وجاسم الزبيدي :

كانزو الأحلام

مبتكرو طفولةِ عالمٍ هرم …

وأغنيةٍ تدبُّ على بقايا من عصا

كهّانُ هذا العصر

من شرفاتهم، ما زلت أنظر للبعيد وأسكر …

سنلحظ أيضاً، أن ثمة نوازع ومشاعر متناقضة تتلبّس ذات الشاعر، الذي سيكون بمقدوره أن يفلسف لنا تمظهرات سلبية عديدة ليجد فيها ضالته .

في قصيدة " تجاعيد " نقرأ:

لا تقودي يدي نحو هذي التجاعيد

إني تورّطتُ في حبِّ هذا الخراب

كما أن هناك قصيدة لافتة في الديوان، وهي تلك التي شاء الشاعر أن لا يضع لها عنواناً، واكتفى بوضع علامة استفهام (؟) مكانه، ونرى أن العنوان الذي اختاره لها في سره هو "المخبر"، إذ نقرأ:

ما زال خلفي

كلما أمشي مشى

وإذا وقفتُ

وقف !

ونحسب انه لو كان الشاعر الأسدي، بمثل الحصانة والحظوة التي كان يتمتع بها سامي مهدي لدى السلطة مثلاً، لأمكنه أن يتصرف على هواه وسجيته، فيقول ما يقول، دون أن يخشى عاقبةً ما، لمضى بنا نحو نقاط حمراء أكثر بعداً، ولأنتج لنا نصوصاً أخرى تصوب سهامها الحاذقة نحو جبروت السلطة، على غرار ما فعله سامي مهدي عبر مجموعته ما قبل الأخيرة اللافتة " الخطأ الأول "، والتي تضمنت بوحاً غريباً واعترافاً ضمنياً بتفسخ السلطة التي هو جزء منها، مثلما احتوت نبوءة واضحة باقتراب زوال سلطة الحزب القائد واندثار أحدوثته .

وكما هو معروف ومعلوم، في كل وقت وزمان، فان بعض الأشياء والثيمات والكائنات والمعاني، تتوفر على غواية من نوع خاص لذائقة وأخيلة الشعراء، ومن ضمنها، البحر الحصان، الليل، الجنون، الحب، الخيانة، الوفاء، المطر … الخ، ولعل مفردة " القط "، وهو ذلك الكائن الصغير المُلغز، الذي استطاع أن يفرض وجوده بمعية الإنسان، كواقع لا مفر منه، سواء رغب في ذلك أم لم يرغب، خير مثال لنا على المفردات المستحدثة التي أضافها الشاعر الحديث الى قاموسه، ولعب عليه خياله، في قصيدة " مواء " يقول الأسدي :

الليل عاد مرة أخرى

ونارنا تموء في الشتاء

مثل قطة كسولة

أفسدها الحنان

ليصف في نهاية القصيدة حال "أرملة" عبر لقطة كاريكاتيرية مؤسية :

ترفو ثياب الوقت

نهداها خراب شامل

وروحها دخان

في قصيدة " رماد "، والتي هي مرثية الى أبيه، نلمس الوجع الإنساني بأبهى صورة وأكثرها نبلاً :

غير أن بقيةً من نومه القلق، العذب

ستظل فوق سريره

من أجله … من أجل خطوته التي انسلَّتْ

وغادرت الأمكنة خلسة

من دون ضجة

بقي أن نقول، إن المجموعة هذه، وإن تضمنت بعض الترهلات في صورها الشعرية، والتي تصل أحياناً الى حد التقريرية والفجاجة، واحتوائها على الكثير من الأغلاط الإملائية والمطبعية، غير المقصودة من قبل الشاعر الضليع طبعاً، إلاّ انها استطاعت أن تثبت قدرة الشاعر وبراعته في صوغ جمله الشعرية المكتنزة بالمعاني والمواربات والدلالات الجميلة، إذ أتضح أن المجموعة برمتا يمكن أن تُعد بمثابة رثاء للذات المنكفئة داخل قوقعتها قبل كل شيء .

 

أحمد الحلي

 

في المثقف اليوم