قراءات نقدية

سنفونية الأحزان: الدّلالة والتّـركيب.. قراءة في رواية لمحمّد صلاح الدّين بن حميدة (2)

hasan salimiجدليّة الحكاية والرّواية: أعتقد أنّ التّحدّي الذي واجهته هذه الرّواية هو انفصالها عن الحكاية والابتعاد عنها مسافة مّا، لتشيّد عالمها الخاص. الحكاية التي حدثت بين دفّتي الواقع تظلّ المادّة الخام للعمل الرّوائي، والملهم لإنجازه. بيد أنّه ليس ملزما باستنساخها حرفيّا، وبإعادة نسخها كما هي. الرّواية لا تؤرّخ للشّخوص حتّى تلتزم برصد حركتها وفعلها وقولها فلا تحيد عنها قيد أنملة. هي تؤرّخ للفنّ قبل كلّ شيء. ثمّ هي تؤرّخ للظّاهرة بأطيافها وألوانها بعد ذلك. ومن ثمّ فإنّ وظيفتها تستوجب التحرّر من الحكاية قبل أن تحلّق في سماوات الإبداع. من هنا يكون السّؤال: إلى أيّ مدى استطاعت سنفونية الأحزان أن تتجاوز الحكاية إلى الرّواية؟

اللغة... ذلك السّحر

ما ألاحظه هو تعدّد الأمواج الصوتيّة، التي تشكّلت منها لغة الرّواية. فهي حينا تقترب من القطع الشّعريّة. وحينا تستعير من القرآن بعض ألفاظه وأسلوبه. وحينا تقتبس نَفَسَها من الأدب القديم، ألف ليلة وليلة، والمقامة على وجه التّحديد. وحينا ترصّع زينتها بالشّعر عامِّيه وفصيحه. وقبل البرهنة على ذلك، أحبّ أن أشير إلى التّالي:

تعدّد الأمواج الصوتيّة وما يترتّب عليها من تعدّد النّغمات وتباين في الأطوال والمدى، فلتة من فلتات الإبداع ولا شكّ. وهو منجم غير مشهود أرضه بكثير وطء. غير أنّ سؤالا هنا يطرح بشدّة: هل تعدّد هاتيك الأمواج الصوتيّة جاء عفوا؟ نبع من سعة اطّلاع الكاتب ومعافسته للدّروب التي جاءت منها، فكان مثَلُه كمَثَل النّحلة يجيء عسلها بحسب المرعى الذي ترعى فيه؟

قد يقال ما الفرق؟ وما علاقة هذا بالنّوايا؟

الكتابة العفوية معناه أنّ النّصّ كتب خارج دائرة الوعي، لم يستند إلى إرادة بصيرة مسيطرة على العالم الذي صنعته. وهي بالضّرورة فاقدة إلى الذّخيرة النظريّة التي لا مناص منها لبناء عالم متفرّد يغري بالبحث والتنّقيب، فضلا عن تشكيلها لمناجم إبداعيّة زاخرة، دافعة إلى تطوّر المشهد السّردي في عمومه.

واللّغة ليست استثناء من ذلك نظرا لأهميّة موقعها من الرّواية، وهي الواجهة الزجاجيّة الأولى التي يستشفّ منها القارئ عوالم السّرد وأبعادها. فضلا عن أنّها جلد العمل وعتبة جماله والرّحى التي يدور حولها شكل النّص. والمشتغل عليها أقرب ما يكون إلى ملحّن الموسيقى ولو كانت نثرا.

والواضح أنّ الرّوائي محمّد صلاح الدّين بن حميدة كان واعيا بهذه النّقطة، مستثمرا إيّاها في سبيل اكتساب أبعاد جماليّة تسهّل على القارئ النّفاذ إلى عالمه من غير كلل ولا ملل، لا سيما إذا وضعنا في الاعتبار حجم الرّواية الكبير نسبيا. بالإضافة إلى أن التّنويع من روافد اللّغة شكّل مراوحة بين ثنايا النّص، أسهمت في يسر هضمه والعيش معه في حالة من التّشويق لم تنقطع من أوّل الرّواية إلى آخرها. بيد أنّ تعدّد روافد اللّغة لا يعني تعدّد مستوياتها، فلقد اعتمد الكاتب في خطّته على الصّوت الواحد المهيمن على أجواء الرواية كليّا. وكان بالإمكان نظرا لوفرة الشّخوص في العمل وما نجم عنها من أحداث ووقائع ومصائر ومشاهد أن تتعدّى بنية النّصّ إلى تعدّد الأصوات وما يمكن أن تحدثه من زخم فنّي لا فت، منها تعدّد مستويات اللّغة.

وإتماما للفائدة أسوق بعض الأمثلة الدّالة على تعدّد روافد اللّغة:

• أنظر الفقرة الأولى من الفصل الأوّل ص(5): كانت موحية معبّرة رقيقة كقطعة شعرية. رغم ما تحمله بين طيّاتها من أوجاع وآلام.

• ص(15) "ولما رأيت تعففّها، تركتها لنفسها، ولدراستها بيضاء من غير سوء". جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: "واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء."

• أنظر الفقرة الأخيرة ص (25): "فاشترى لها ما زانها(...) الناظرين شأنها(...)درّة الحاضرات. وأميرة الزوجات(...) تحدّق بها الأنظار كالسوار(...) وكذلك الزوّار". وانظر ما جاء في كامل الصفحة (85): "الجميلات (...) متعثرات(...) نشيطات (...) الحاضرات (...) المباراة (...) مجموعات (...) في قمة الجمال (...) فوق الخيال (...) وإنها في الحسن مثال مثال (...) الخبال". هنا يتّضح نفًس ألف ليلة وليلة. أمّا الاهتمام بالقفلة عند نهاية كلّ مقطع من الجملة، فهو يذكّرنا بالمقامة.

• أنظر ص (5) الفقرة الثانية في الفصل الأوّل: "كَتِّيتْ مَا كَتّْ الجِّمَلْ بحِمْلَهْ * نَا انْفَرِّغْ يَا قَلْبْ وِنْتَ تَمْلَأ". كذلك ورد في ص (40):"هيفاء ما في البرايا من تشابهها * في بهجة الحسن أو في رونق الخلق". فكان للشّعر عامّيه وفصيحه نصيب.

الرّاوي.. الموقع والوظيفة

ابتداء لا بدّ أن نتفّق على هذه النّقطة. الضّمائر التي تعود إلى الرّواة، لا يمكن أن تلعب الدّور ذاته. فالضمير المتكلّم والضّمير الغائب والضّمير المخاطب، زوايا نظر تقتضي استقلالية كلّ راوٍ يمثلّها. وتميّزه الأدوات والإمكانات التي تخوّل له القيام بعمله، دون أن يؤدّي ذلك إلى إرباك السّرد، وإيقاع الخلل بالمساحات التي تكوّن النّص. الرّواة سلطات مختلفة، تتباين وتتمايز فيما بينها، تتحرّك ضمن مساحات خاصّة لا يجوز لها أن تجتاز إلى غيرها.

ولأنّ زاوية النّظر تقتضي مجالا محدّدا للرّؤية لا يمكن -منطقيّا-أن تغطّي كلّ الفضاءات بمفردها، فإنّ الأمر عينه ينطبق على الرّواة. من هنا كان تعدّدهم في العمل الروائيّ بحسب ضمائرهم المختلفة، ضرورة فنيّة -متى اقتضى الحال ذلك-تضمن الإحاطة الشّاملة بفضاء الرّواية وتفاصليها دون الوقوع في المطبّات والمآخذ.

الرّاوي في سنفونية الأحزان، كان متكلّما وإن طغى على روايته الضّمير الغائب. ومن هنا يجوز له أن يدقّق ويفصّل في الأحوال التي تتعلّق به، باعتباره الأولى بالحديث عن نفسه. أمّا إذا كان الأمر يتعلّق بغيره. فلا يقف إلاّ على ما ظهر له منهم، من حيث العلاقة بهم قربا أو بعدا. أمّا سبر أغوار نفوس غيره، والدّخول إلى غرف بيوتهم ومكاتبهم، والخوض في أخصّ خصائصهم، فذلك يستحيل عليه بداهة، فيبدو من الناحية الفنّية ضعيفا فاترا. كذلك يبدو من النّاحية الموضوعيّة مخالفا للحقيقة منزاحا عنها. فمهما اتّسم مصدر النّبَإِ بالصّدق، تظلّ تلك الأغوار عصيّة على غير أصحابها. ولعلّ هذا ما أدّى إلى دكتاتوريّة الرّاوي وانتحاله أدوارا ليست له. فلقد صادر حرّية الشّخّوص وخنق حركتها وجعلها مكبّلة في قبضته. وكان لزاما أن تتحرّر منه. على الأقلّ الشّخوص الأبطال. كان الأولى أن يتولّوا الرّواية عن أنفسهم بأنفسهم، مادامت الأحداث أحداثهم، والأحزان أحزانهم، والأقوال       والأفعال والحركات والسّكنات تصدر عنهم.

الشّخصية في الرّواية كالشخصية خارجها. من حيث المبدأ، هي حرّة، مستقلّة، مريدة، فاعلة، من حقّها أن تعبّر كما تشاء، وتفعل ما تشاء، وتتصّرف بحسب منطقها، وبحسب خصائصها وأفكارها وأهوائها. لا سلطان عليها إلّا سلطان الفنّ.

وعلى فرض أنّ الرّاوي في رواية سنفونية الأحزان كان غائبا عليما، ومن ثمّ هو يكتسب الإحاطة بالأشياء والقدرة على العلم بخفاياها فإنّ ذلك لا يعطيه السّلطة المطلقة. فليس من حقّه فنّيا الوعظ والإرشاد والتّقرير والتّعليم. ليس من حقّه كتم أنفاس الشّخوص، وحرمانها من النّطق والكلام في أخصّ خصائصها، منوّبا نفسه عنها.

تتمثّل سلطته أساسا في التّنسيق والتّرتيب والتّنظيم والتّأليف والتّقديم والوصف والتّصوير. وحريّ به أن يتّصف بالعدل والحياد، فلا يغلّب جهة على جهة ولا فكرا على فكر، ولا هوى على هوى. باعتبار أنّ الفضاء الذي ينسجه لا مكان فيه لتصفية الحسابات الضيّقة مهما كانت عظمتها أو هوانها. ذلك دور أكبر من أن يتحمله الرّاوي العليم وإن كان يمكن من الناحية الفنية أن يلعبه غيره.

برقيـــّـات.

• كان يمكن لبعض فصول الرّواية أن تندمج مع بعضها، دون أن يؤثّر ذلك على الفواصل التي بينها. لا سيّما وأن السّرد يتحرّك في نفس الفضاء ويتناول الشخوص عينها. أنظر على سبيل المثال الفصل(15) والفصول التي تليه.

• في بعض مراحل الرّواية كان التّداول بين الفصول يشكّل بعدا تنظيميا وجماليا، ويسهم في خلق نسق متسارع مليء بالتّشويق. أنظر على سبيل المثال الفصل(15) والفصل(16).

• الوصف كان دقيقا وعميقا وموحيا بالكثير، يستطيع أن يشكّل في الذّهن صورا ومشاهد ناطقة. ولكن هل يمكن أن نفجّر في هذا العنصر إمكانات وصياغات أخرى؟

• في النّص ورد تعريف للحبّ ولأصنافه ص(41) كذلك تحدّث عن مخترع التّصوير الشمسي ص(86) وتناول الأجواء في النّزل، وفصّل في طريقة التعامل مع الحريف ص(82). السّؤال هنا: ما دلالة ذلك فنّيا، وحينما يستوي غيابه وحضوره في النص، ألا يشكّل حشوا؟

• جاء في ص(116): "فما أبسط أن تدار أعناق الرّجال، وأن يخضعوا إلاّ من عصم الله من المتّقين الصّالحين وما أندره في هذا الزّمن المأزوم". هذا كلام يخرج عن طبيعة الشّخصية المتحدثّة (نضيرة) ويحمّلها ما ليس لها. كان يمكن أن يدلي بهذا الرأي شخوص أخرى من مثل شخصية راضية أو أمّها.

• ورد في ص(74): "وقبل أن يقرّ قرارها على أيّ الموضعين تطفئ أوارها، رأت وكأنّ الدّم انبجس من كلّ مكان في جسدها، من رأسها وفمها، ومن عنقها وقلبها، جرى، ضمّخ الأغطية البيضاء فصارت قانية حمراء(...) "هنا يكمن الإبداع الخالص والتّصوير الفنّي الرّائع للمشهد الذي أضاءت بعض جوانبه هذه الفقرة وما يليها. الإشارة السّريعة والانتقال من موضع إلى موضع ومن شخصيّة إلى شخصيّة ومن فضاء إلى فضاء. كان فعلا ينمّ عن حالة إبداعيّة متميّزة.

• ما مصير الرّاوي وصديقه (الرّاوي المخبر) وقد كان لهما في النّص مساحة زمانيّة. الرّاويان هنا شخصيّتان من شخوص الرّواية فهل تقتصر وظيفتهما على الإخبار؟ وهل يجوز إهمالهما وسلخهما فجأة عن دائرة الأحداث؟

ختاما

تظلّ رواية سنفونية الأحزان، مهما اختلفت أو اتّفقت معها، تمثّل وجهة نظر كاتبها. له الحقّ كلّه في أن يبنيها، وينسج عالمها حسب ما يراه ويؤمن به. وهي تمثّل صوتا روائيّا يتّسم بطابع مميّز، وبصمة تدلّ على صاحبها مهما اختلطت بغيرها من البصمات. ولا ينبغي لأحد مهما كان شأنه أن يمحو بصمات الآخرين. أو يمنحها صكّا لا تجوز إلى جنان الإبداع إلّا به. السّماء أوسع من أن تحتلّها نجمة واحدة.

بقلم: حسن سالمي

 

في المثقف اليوم