قراءات نقدية

ليلى تبّاني: قراءة في رواية "عائد إلى قبري" للروائية الجزائرية زكيّة علاّل

ديستوبيا العيش في وطن يسير نحو حتفه

عندما نفجع بالفقد تُثقب أرواحُنا ونغدو ذوي قابلية خرافية على أن نواصل الدّهشة بسذاجة متناهية، ونعيد اجترار ذات السؤال.. كيف يمكن للحياة أن تكون قاسية هكذا؟ أحداث تدمي القلوب ترويها الروائية المتمكّنة ذات النّفس السّردي الطويل " زكيّة علاّل" ضمن روايتها " عائد إلى قبري "، رواية الوطن المفقود والألم المسرود، ترويها بنَفَس واحد، وبنبض نصّ متّصل لا يتوقّف عن السريان حتّى النّهاية.حكاية بمثابة رسالة في ثوب ملحمة تراجيدية ذات شجون، توجّهها لكل عربي بل لكلّ إنسان، متّخذة من بلاغة اللّغة بطولة، وأسلوب الإمتاع والهدهدة ملاذا، لترتدي ثوب الرّواية وتعيش الأدوار مناصفة مع أبطال قصّتها ليكتشف القارىء في الأخير أنّها روائية بخلفية علمية ذات بعد نفسي إنساني.

من هي الكاتبة الرّوائية "زكيّة علاّل"؟

أيقونة ميلة الأولى التي يتدلّل الحرف بيدها، فيبدع القلم بصدق بوحها، كاتبة من الطراز الرفيع، مذيعة ومحاورة تخاطب بأسلوب بديع، بدأت الكتابة في منتصف الثمانينات، ونشرت في عدّة صحف وطنية منها النصر، الشروق، المساء، صوت الأحرار.. وفي مجلاّت عربية منها مجلة المنتدى بإمارة دبي. فازت بعدة جوائز وشهادات تقديرية أهمّها الجائزة الثانية للقصة عن مديرية الثقافة لولاية بومرداس سنة 2000، وجائزة القصة لوزارة المجاهدين سنة 2003 وجائزة كتامة للقصة سنة 2005، ونشير إلى أهمّ إصداراتها المدوّنة ما يلي:

وأحرقت سفينة العودة: مجوعة قصصية.. لعنة المنفى (مجموعة قصصية).. رسائل تتحدى النار والحصار، وأهمها وأمتعها الرواية قيد الدراسة " عائد إلى قبري ".

مسحة على غلاف الكتاب:

لا تُخْتَزَلُ الصورة ـــ كما النص في سميائيات ما بعد الحداثة وفي منطق الميتابنيوية ــــ في تفسير أحادي القطب بل تتجاوز إلى أبعد ما نتصوّر وفقا للحرّية التكفكية سواء تعلّق الأمر ببنية النّص أو رمزية الصورة والمشهد، لتقنعنا بأن ملكيتها تعود إلى الجميع، إلينا نحن وإليك أنت، فليس هناك من واسطة بينها وبينك.

الروائي المتمكّن من فنون الكتابة يلزمه قارىء متمكّن من فنون القراءة والتأويل، لذا بات من واجب القارىء أن لا يهمل قراءة الشّكل والغلاف قبل ولوج مضمون النّص، فالصّورة والإطار والمنظر تشكّل مقاربة تفسيرية للعلاقة الوطيدة بين المفاهيم العامة المؤطرة لحقل المرسلة البصرية، فلا بدّ أن يكون ناظرا ثاقبا، لا مبصرا عابرا، يعمل الفكر بعد البصر ممتطيا سرج السميائية الانثروبولوجية السيكولوجية لتحليل الصور المرافقة، فيدرك جزءا كبيرا من دلالات العنوان والنص على حدّ سواء. ذلك أن صورة الغلاف مركبة من لقطة تم اختيارها وتوليفه بلمسة فنية وبعين احترافية عملت بكل براعة تقنية ومهْنية على المشهد والألوان المتشابكة الممتزجة، فعلى يسار الغلاف وضمن كامل الصّفحة كُتِب تعريفا وافيا بالروائية وأعمالها ليختم في أسفلها بصورة صغيرة لدار النشر والناشر. أماّ على يمين الغلاف ـــ وهو اللاّفت عادة ــــ يتوسط إطار مساحة متدرجة اللون الأخضر الذي يسم الغلاف عامة، تشوبها لطخات دم حمراء، المعروف أن اللون الأخضر بكل درجاته رمز للخصب والجنان، ودليل الطاقة والقوة والحيوية، وفي هذا تجهيز وذخيرة لتنفيذ التنبيه الذي انذر به العنوان وأوجزه محتوى الإطار وهنا تكمن حساسية التوصيف اللوني، ومن جهة ثانية أُعْلَن ضمنيا بالتجاور مع الألوان الأخرى أن خصوبته ستكون ملاذا ومنتهى لأرواح مرهقة تتوق للفوز بتلك الجنان أمّا تركيز محتوى النّص فيكمن في الإطار الذي يحتوي شخصين بائسين يحتضنان بعضيهما وسمهما اللون البني والأصفر الشاحب الحاضر بكامل دلالته ليتواصل بذلك مع دلالة الخواء والتوقف عن الحياة التي قدّمها تشابك اللّونين البني والاصفر ذاتي سيميائية تدلّ على وطن غارق في تخمة الأحزان والخذلان.

المقاربة الاستراتيجية للعنوان:

بات العنوان خطوة مهمة في نجاح أي عمل ما باعتباره العتبة الأولى التي يرتبط بها المتلقي ويعبر من خلالها إلى المتن، وقد برعت وتفرّدت الكاتبة في انتقاء عنوان أكثر عمقا ودلالة على مضمون النص، يفضي بها إلى القول على لسان بطل الرواية مجازا:

عائد إلى قبري.. ما بين صدري وقبري، علاقة اسم ومعنى.. دفن ومحنة، الفرق هو أنّ القبر يدفن ميتا، وأنا دفنت أشياء بالصّدر حيّة. أراني سأبتدئ أيامي من آخرها فإني لا أقصّها عليكم، وهي تولد بل وهي تموت بعد أن تركتني كالنّجمة الآفلة، فرغ النور من حشوها وترغب في أن تشعّ لكن هيهات أن تفعل، أَلَا ويحك أيها القبر ألا تأتي إلا في الآخِر؟ أم أنك الحاضر الغادر؟ ولا تضع حدود معانيك بين الأحياء بعضهم من بعض، حتى يقوم بين الضّعف والقوة حدُّ المساواة. تحضر في ظلمتك حينا بعد حين إلى ميّتك الذي لم يمت! بل هرب من شيء تركه وراءه،وقدر الميت قبر، وحتمية الموتى قبورهم بل الأحياء الأموات، فلا يهربُ أحد منك إلا وجدك أمامه، أنت أبدا تنتظر غير متململ، هل القادم إليك فعلا شفي من مرض الحياة؟.. أم وقف التراب المتكلم يعقل عن التراب الصامت، ويعرف منه أن العمر على ما يمتدُّ محدودٌ بلحظة، وأن القوة على ما تبلغ محدودة بخمود، وأن الغايات على ما تتسع محدودة بانقطاع، وحتى القارَّات الخمس محدودة بقبر. إن هؤلاء الأحياء يحملون في ذواتهم معانيهم الميتة وأنت أبدا متقدّم إليهم غير متراجع، لا أحبّ أن يشطرني أي شيء في أي شيء إلى نصفي شيء، لكنّني وجدت نفسي نصفين، من حيث لم أتوقع ولم أسع يوما، لا أحبّ الأنصاف، ولست مع أي أحد يؤمن بنظرية الأنصاف، أنصاف الحلول وأنصاف العشّق وأنصاف الموت وأنصاف الحلم، لكنّني لم أحلّ إلاّ نصف المشاكل، ولم أصل إلاّ إلى أنصاف الحلول، ولم أحلم إلاّ نصف حلم(حلم على متن الطائرة بين حكمة الرشيد وسيف الحجاج )، كما لم أحبّ إلأّ نصف حبّ، ولم أمت إلاّ نصف موت، أنا نصف قادم من النار ونصف قادم من الجنة، في برزخ الوهم أقبع، ومن رحم النّكبات أولد كل يوم. ترى أيّهما هو الصّدق في حقيقته، ما نفرحُ به أو ما نحزنُ له؟ أما إن في الحياة مُرّا وإن في الحياة حلوا وكلاهما نقيض، فليس منهما شيء إلا هو ردّ للآخَر أو اعتراض فيه أو خلاف عليه، وتجدهما اثنين ولعلّ سبب الموت أنّك لا تجد إنسانا يعيش في حقيقته الإنسانية وضمن أوهام الحياة ونحو يقين اللاّحياة، يحيا بنصف مشاعر ونصف أحاسيس ونصف أحزان، نصف ضعف ونصف قوة ونصف نسيان ونصف ذاكرة، لا لشيء سوى أنّ الأنصاف للجبناء والمهزومين، لمنّ يكره اليدّ التي تصفعه ثم يقبّلها، ولأنني نصفٌ من حيث لا أريد ولا حيلة لي فيه، صفعني وطني وعدت إليه أقبّل يديه، أنا نصف حي ونصف رجل عائد إلى وطني لاتخذه قبري، وموتي فيه هو صحوي، ودونه رحيل طويل مفعم بالغياب فإمّا النهوض.. أو الخراب.

ديستوبيا العيش ضمن وهم الأمة العربية:

هي رواية من 288 صفحة صدرت عن "دار الاوطان " الجزائرية للنشر والطباعة، ظهرت في طبعتها الأولى سنة 2015، تروي الحب والتاريخ والمأساة، تنطوي على نقد عميق لأوضاع الأمّة العربية في قالب تراجيدي مفجع، وما شهدته من أحداث دامية وأحزان خلال فترة أواخر التسعينات، وهو نقد ينطبق على المنطقة العربية برمتها في مرحلة يطبعها العنف والانتقام،. يتولد هذا النقد من خلال الفضاء الروائي الذي يعدّ أحد المكونات السردية ذات الدينامية الخاصة في هذه الرواية، فبقدر ما تتجذر الشخصيات في الأرض، تتميّز مساراتها الوجودية وتأخذ أبعادا أكثر فرادة. في الفضاء الروائي تلتقي الشخصيات، وتتبلور العلائق التاريخية والجغرافية بين شعوب الامة العربية،التي تتقاسم الألم وتتنوع من حيث الأسباب، وتتقاطع التجارب والمصائر الفردية والجماعية. وتعود بالكاتبة إلى مأساة العشرية السوداء في الجزائر، حيث تصل خيبات الجزائر وجراحها بنكبة العراق بعد سقوط بغداد.. تتجسّد المأساة على يد صحفي جزائري عايش ألم الحرب والدّمار بين بغداد والجزائر. "يوسف" العائد إلى وطنه الذي يراه قبره بعد ما خلّف جزءا منه في بغداد إثر التحاقه بالعراق من أجل تغطية إعلامية، لإسقاط نظام صدّام حسين.. " نجوم سمائي تهاوت على قدم مبتورة خلّفتها ورائي ترقد في أرض بيني وبينها مسافة وجع.. أرض عاشرت فيها النار والخوف. وأحلاما رأيتها مشروعة.. لكنني رجعت منها مهزوما".

فيقدم هذا الصحفي على نبش قبر أبيه، للكشف عن سرّ طالما بحث عنه. وقد غادر القبر وترك فيه رأس أبيه المغدور دون جثّة، ينتقل هذا الشاب الصحفي من قريته التي خلّف فيها أمه الأرمة وأخته الوحيدة بعد أن فجعوا في مقتل والده مع جهل الأسباب، جمع يوسف كل ما في عينيه من الدموع وما فى قلبه من الأسى.ورحل نحو العاصمة لاستكمال الدراسة الجامعية، وهناك حصل على وظيفة في جريدة مرموقة كصحفي محترف، وقع في حب " سعاد" التي يرى فيها ضعفه الإنساني الذي أخرجه من سجن العقل وعاد به إلى رحابة الفطرة الأولى بكل عفويتها وصفائها ونقائها، سعاد التي يرى فيها تاريخه الحاضر وحبه الغائر، ليذهب بعدها في مهمة صحفية لتغطية الأحداث في العراق وهناك يقف شاهدا على سقوط بغداد، فيشهد معه حبا جديدا أخلط أوراقه وهو على محك الموت. " إنعام" المرأة المصرية الطاغية في الجمال الآتية من مدينة طاعنة في التاريخ، يعيش صراعا فهو رهين امرأتين إحداهما مدين لها بالحب والأخرى يرى فيها معنى الانتماء، حب هنا، وانتساب هناك، ألم هنا، ورعب هناك أيضا، فيقف مشدوها عصي الراحة ليتساءل: هل يمكن للرجل أن يجمع في صدره بين صورتين لامرأتين برائحتي حب مختلفتين دون أن تختلط رائحة الأولى بالثانية؟ هل يمكن أن يلتقي وجهان مشرقان في كف رجل واحد دون أن يخمش أحدهما الآخر.. ؟ لكن، لا هذا الحب ولا ذاك شفع له أمام قدره.. لينتهي به الأمر رفقة زملائه إلى ما كان يحسّه ولا يراه، فقد استشهد عمار الفلسطيني الذي كان يحمل بذور الشهادة في دمه، ورجعت انعام بعين واحدة لتضيف فجيعة أخرى إلى جملة فجائعها، أما يوسف بطلنا فيفقد رجله ليعود إلى وطن وهو نصف رجل، يجر رصيدا إضافيا إلى بنك أوجاعه فلا يرى في وطنه سوى قبرا ينتظره.. "مبتور حلمك، أيها العائد من حرب قذرة.. موؤود نهارك أيها الآتي من أزمنة الموت المعلب، والحب الذي بات يمشي بيننا على استحيا، مسكون صدرك بكل الانكسارات التي أوجدتك داخل خرائط مفتوحة على تضاريس لا تشبهك.. ".

وقفة تأمّلية:

تحيلنا الكاتبة "زكية علال" إلى التساؤل والحيرة في كلّ وقفة مع الأحداث، هذا التاريخ الذي توارثناه والجغرافية التي ترسم حدوده،كيف أسميناه وطنا؟! هذا الذي في كل قبر له جريمة، وفي كل خبر لنا فيه فجيعة؟ وطن؟ أي وطن هذا الذي كنا نحلم أن نموت من أجله.. وإذا بنا نموت على يديه، فعندما يستباح الوطن تصبح الدنيا سوق كبير للنخاسة وتصبح حياة الانسان فيها أرخص من التراب فلا أجد أبلغ مما قال فاروق جويدة: " الآن يا وطني أعود إليك، توصد في عيوني كل باب.. لم ضقـت يا وطني بنا؟ قد كان حلمي أن يزول الهم عني‏ عند بابك، قد كان حلمي أن أرى قبري على أعتابك، الملح كفّنني وكان الموج أرحم من عذابك، ورجعت كي أرتاح يوما في رحابك، وبخلت يا وطني بقبر يحتويني في ترابك، فبخلت يوما بالسكن، والآن تبخل بالكفن، ماذا أصابك يا وطـن..؟

***

بقلم الكاتبة: ليلى تبّاني من الجزائر

في المثقف اليوم