قراءات نقدية

جمال العتّابي: مظفر النواب.. عصمة الشعر في انحيازه للإنسان

لا يكتب مظفر النواب قصيدته حسب القوانين السائدة في كتابة الشعر الشعبي، بل هي تفرض منطقها الخاص بالشعر، القصيدة الجديدة لمظفر لا تبدأ بالموضوع، انما الموضوع أحد مكتشفاتها، إحدى منصاتها للتوغل عبره نحو الموضوعات الكبرى، نحو (القضية)، وهي الكينونة التي تنبع من خصوصية النواب، من تجربته الحياتية، وشخصيته الاستثنائية.

في شعره أشياء عديدة، مثل الأبواب والدفاتر والمحطات والشبابيك، الناس، النهر والهور، أشياء كما هي، ومع ذلك عندما تدخلها في دينامية الحقل المغناطيسي للنص، تأخذ أبعاداً أخرى، مما يعيدنا الى فكرة السيميائية في الشعر، لا التقليدية منها، انما الاشياء والمفردات نفسها، تتحول الى معادن، والقصيدة الى مختبر.

قصيدة (لابد يردّون باچر)، من القصائد التي كتبها مظفر النواب في سنوات عمره الاخيرة، لم يكن النواب فيها مستعداً للتخلي عن أناه، أو تذويبها لم يعد في العمر متسعاً، كي يواجه المشكلات الصعبة في تجربته الحياتية،

گاعد بشباچك من اسنين واتنه

وهالدفاتر تركض تشيل الجنط

والحزن إلمن

ناس ما منهم گمر

ناس مايسوون خاشوگة شكر

احساس عميق بالخيبة، وفقدان الأمل، حتى صار الألم السمة البارزة لقصائد مظفر الأخيرة، وصارت الغربة والاحباط أهم سماته، التي تكشف عن طبيعة مكوناته، كيف يكون حال الشاعر وهو يواجه حالة الانفصال، عن اؤلئك الذين يتناسون، أو يدعون النسيان، الشاعر أمام هذا العقوق مطالب ان يفعل المستحيل ليخترق سكونه، في خضم الألم الذي يعيشه من اجل ان يتوازن ويكتب:

والناس الردتهم

نسوا من اسنين اسمك والمحطّة،

وخلّوا ادموعك نهر

يحسّ ان كل ما عنده لم يكن كافياً لكي يصرخ، لكي يعبر عن هذا الذهول، بالشعر، لكن ليس بشعر المأساة، انما بشعر كأنه ينعى نفسه:

أدري بيك تريد تبچي

ابچي وحدك، آنه ساكت

بس أحلفك ياگلب يا چبير

لا ينخطف لونك لو شفتهم

النواب يكفيه صوت يصعد من كعب قدميه إلى رئتيه، فيقيء صراخاً ودماً، هكذا كان الصمت، يتضمن الصراخ الذي لا يكاد يسمعه عند نفسه،

لم تكن القضية خاضعة للمزاد، والدم ليس حمّالة قصائد إلى صفحات الجرائد والمجلات، ذلك خارج لعبة الشعر، كان مظفر يتوهم انه حسم امره مرة واحدة مع الماضي والمكابدة على الجرح، واذا به يكتشف الحقيقة بانه مازال ينزف، فيما يعنيه انه ربح كل خساراته، لانها رأسماله الرمزي، قوامه خسارات مركبة، واذ لا بيت يخاف عليه، ولا ثروة يسعى اليها، ولا حبيبة تفتك فيه، يجد نفسه في أحسن حال مقتصداً في النكد، يحتفل بمن أحب على طريقته:

اثكل شويه يگلبي

مرّة خلّيهم محطة

وانت سافر

كان النواب مزيج كأسه، من صداقات، الى اشراقات، الى عناوين عتب، وقراءات في عذابات الانسان، الى الغور في عمق الذات، (الذاتي)، فالانساني، لذا حين يهدأ موكب الندب، يعلن انه وحده يحمل عبء الراية الحمراء، ولم يكن النواب حامل راية، انما كان مقاتلاً في خط النار، على مراحل، وبحسب مزاج، ثم بصراحة كان ذاك التشاكي المتشاكس، العنيد، الكاشف، الصاخب مرات، في هدوء عجيب. وحنين غير منقطع، الغريب في مظفر هذا الحياء، فما أقرب ما يحدو به الشوق لأفيائه الأولى، حينما يمتلىء قلبه حنيناً يستدر العيون، رغم جروح الأساءات، وثقل الرزايا:

لاينخطف لونك لو شفتهم

سلّم بسرعة

ولو نشدوك

تعرف واحد يگص التذاكر

گلهم الشباچ گصلهم شهر

فتنطلق نجواه على البعد الى الوطن، عندما تختلط الغربة بالليل، يطل الوطن الأم يناجيه، فيصحو على بصمات خطواته الاولى فيه.

تجليات مظفر الأخيرة، تبدو وهو يحاور الموت الذي يدنو منه، كأنها حدوس الراحل، اذ يهاتف صحبه، في الشام، وعمّان، ولندن، كدّسَ خبرة شعره وحياته للناس الذين أحبهم وانتمى اليهم، على حافة الوطن سار، والمساف البعيد قطع، ببصيرة نفذ الى آفاق وآماد، أوصلت مقلته إلى (العدسة) المكّبرة لينشد، فامتاز بتلك القدرة على الكشف، واثارة الأسئلة، كأن الحادثات والعوادي تتكشف قبل أن تقع، أمام تلك البصيرة،

منح الشاعر العصمة لشعره في انحيازها للانسان، واتخذ من جمهوره صحبة ضد زمان النكد، وبرغم جمهرة المعارف، وحشد المتأثرين والمتلقين، كان النواب يخاف العزلة والوحدة، وهكذا اعتاد أن يطرق باب قلبه بيمينه، وباليسار ينظر الى تاريخه يرفع راية الفقراء والثورة، والكلمات التي لا تموت، وأسى شعبه، فمازج بين جيفارا والحلاج، ثم ابن المقفع وصويحب، ليصنع نموذجه في بطل عصره والأزمنة، لكنه بحسرة يقول:

شگد خطيه

اليفرش عيونه درب

للماله جيّه

لم يلذ بالصخرة مقيداً، بل انطلق واثقاً يشعل تحت أقدام الطغاة، بارود شعره، أولئك اللائذين بالمصالح والمنافع، وبنار شعره أيضاً أضاء كهوف اللصوص والمتسلقين، وسخر من الموت المجاني، وباستحقاق الصداقة، ورفقة المجالدة، والضنى المزمن، ناقشه محبوه، فاختلفوا، واتفقوا على الاختلاف لانه عافية حضارة العقل، والضمير الذي لا يخون. طبيعته ان لا يتطابق، وإن جامل أو انحنى للريح بهدوء، حتى يعبر هو من عاصفة الاختناق والقسر، الى رحابه، حريته.

منذ البداية أرادوه على وفق المواصفات متطابقاً مع الشروط، فتمرد، لم يتردد في شدّ قوس الهجاء لكل من يحاول إغلاق نوافذ الأمل، يصادر حريته، ويكبّل معصميه بالقيد، أويمدّ حباله لشنقه، ينفي وجوده، فكان أول العارفين بالمنزلق، ليتساءل هل يزرع الشعر ليتناسل، أم يتيه في المغارة؟ فاختار الأول.

***

جمال العتّابي

في المثقف اليوم