قراءات نقدية

ثامر الحاج امين: نهران من الشعر العذب

يتمتع الشعر الشعبي في عدد من البلدان العربية بجماهيرية واسعة ويستحوذ على اهتمام عدد من الكتاب والادباء الذين يكتبون باللغة الفصحى حتى ان بعضهم يلجأ في كتاباته السردية الى الاستعانة بالعامية لإيصال فكرته بشكل أسهل وأدق، وليس هناك شهادة ذات قيمة وانصاف بحق الشعر الشعبي توازي قول الأب الروحي والمنظر لحركة الشعر الحديث الدكتور لويس عوض عندما وصف شعراء مصر العاميين البارزين بأنهم الأخطر في الشعر المصري، فهم استطاعوا ان يؤسسوا لنمط جديد من الكتابة يقوم على كسر اللغة الرسمية والأخذ بالذائقة الى فضاءات اكثر بلاغة وجمالا من أمثال جاهين والأبنودي واحمد فؤاد نجم وسيد حجاب وغيرهم، وهذا الرأي باعتقادي ينسحب على جغرافيات اخرى ومنها الساحة العراقية التي افرزت تجارب مهمة ومؤثرة وفي مقدمتها تجربة الشاعر مظفر النواب التي تعد من التجارب القليلة التي حققت انتشارا واستقطبت جمهورا واسعا وتمكنت من تخطي المحلية الضيقة الى العربية الواسعة لما اشتملت عليه من ميزات فاقت في بعض جوانيها ما قدمته الاجناس الأدبية الاخرى من حيث جمال الصورة وكثافة المعنى والجرأة في التعبير والتحدي.

ان ساحة الشعر الشعبي في العراق قدمت اسماء شعرية مهمة وباحثين ودارسين افذاذ للأدب الشعبي وهذا العطاء لم ينقطع طيلة عقود من الزمن بل ظل الشعر الشعبي ارثا انسانيا متواصلا قد لا تكفي هذه الصفحات لاستعراض اسمائه وفرسانه، ومن بين المدن العراقية التي اسهمت بشكل ملحوظ وفعال في هذا العطاء هي مدينة (الديوانية) التي يشهد لها في هذا الميدان حجم الاسماء الشعرية الكبيرة التي قدمتها لساحة الشعر الشعبي العراقي ومن اجيال متعددة، لذا ليس بالمهمة السهلة التصدي للكتابة عن هذه المدينة المعطاء التي عُرفتْ بإرثها الثقافي والاجتماعي ذلك من الصعب الإحاطة بكل ما قدمته هذه المدينة من عطاء فكري وأدبي عبر أجيال وأسماء مهمة ومؤثرة في مسيرة الإبداع العراقي، وما تزال إلى اليوم ترفد الساحة الإبداعية بعطائها المتميز في جميع الحقول الإنسانية والمعرفية حيث لم يجف او ينقطع عن الجريان نهر الشعر النابع من الديوانية المتخمة بالطيبة والشعر والابداع، فما ان يمضي جيل من المبدعين حتى يظهر جيل أخر يتولى إكمال المسيرة بهمة وأمانة كبيرتين. فعلى صعيد الشعر أجد الديوانية منجم شعري اينما تضرب بمعولك على أرضها تقدح بوجهك قصيدة.

فبعد الثراء الإبداعي الذي تميز به المشهد الشعري الديواني خلال عقدي الستينات والسبعينات وتعدد التجارب الغنية والأشكال الشعرية المتعددة، ظهرت أصوات شعرية جديدة  حاولت الحفاظ على ألق وتفرد ذلك المشهد، إلاّ ان الكثير من منجز هذه الاصوات وللأسف غاب وسط دخان الحروب ولم يوثق بالشكل الذي يتيح للدارس التعرف عليه عن كثب باستثناء تجربتي الشاعرين (عباس رضا الموسوي) و(عماد المطاريحي) حيث عمل كل منهما على توثيق منجزهما بدواوين شعرية، فالشاعر الموسوي الذي كان مغتربا في سوريا اصدر هناك ديوانه الأول تجوال عام 2001 ثم أصدر في العراق ديوانه الثاني أغاني الجن عام  2008.

في ديوانه الأول " تجوال " نقرأ الموسوي شاعرا حمل بين جوانحه هموم المنفى، حيث تهيمن على قصائد ديوانه المذكور أوجاع الحنين الى ارض الوطن ومرابع الطفولة والصداقات النبيلة ويصور شراسة الغربة واوجاعها بالوحش الذي ينهش بجسده ويحاول النيل من صبره وثباته واقتلاعه من جذوره ولكن بالأخير يأبى الشاعر الهزيمة ويخرج من النزال منتصرا ثابتا على مبادئه:

بالغربة داهمني الحزن

كشر بوجهي نيابه

حسباله

اطيحن بالعجل

ثاري غلط بحسابه

وندرك ان الحنين عاطفة انسانية صادقة يرتبط بتجربة الغربة ويزداد وقعا على النفس كلما امتدت المسافات وطال الزمن، وهو ما جسدته اغلب قصائد الديوان التي كُتبت معظمها تحت  تأثير ظروف المنفى حيث ظل ملمح الغربة والاغتراب واضحا ومهيمنا عليها، حتى انه في بعض القصائد تشعر بالخدوش التي حفرتها الغربة على خارطة الروح، وفي اخرى تعيش معها اللوعة المقرونة بالحزن التي يهمس بها الشاعر الى ليل الشام يشكو فيها حالة التمزق التي يعيشها نتيجة مرارة البعد عن الوطن والاحباب:

مجبورة روحي اتعنتك.. والوكت فايت

.......

لا يروحي

عمر الاصبّي من تذوگه الغربة

طعمه يصير باهت

.........

.........

الليلة من ثكل الحزن

جن روحي متوزعه ليالي

اسطورة مكتوبة على دروب الدرابين الغريبة

والقصيدة عند الشاعر "الموسوي" تمتاز بالبساطة المستندة الى جمالية الوضوح وصدق الانتماء، فهو لا يميل الى استخدام الاقنعة والرموز في التعبير، انما تتدفق المشاعر من اعماقه سلسة، خالية من التصنع، تكشف عن طبيعة ذاته المبدعة لذلك تخرج كما هي صافية مشحونة بالثبات والتحدي:

علمتني لو حرگ عيني الدمع

ارفع الكأس واغني

علمتني اشلون اضمن

روحك ابروحي واگولن هذا مني

كما نقرأ في قصيدة " أحوال " الاثار النفسية التي تركتها الغربة على حياة الشاعر في المنفى حيث القلق والسهر المضني والشعور بالضياع والخوف من المجهول بانتظار الفرج الذي يراه بعيدا:

من كثر السهر البعيوني

شفت الفجر الأبيض

ليل

مجرور وي النجم الداير

صافن.. حاير

ما من فرحه تجول افكاري

غير الوحشة وحزني الدايم

غير الغربه

وسطوات الخوف من الجاي

وفي قصيدة " واحة ندى " يحاول الشاعر الخروج من شرنقة الاحزان والتخلص من هموم الغربة الى فضاء ينعش الروح ويمنحها دفقة أمل لمواجهة واقعه المر، فضاء يحلم فيه بالورد والأمل بالغد الأجمل فيعمل في هذه القصيدة على احداث كوة في جدار احزانه من أجل ان يتسلل منها نور التفاؤل، لكن يجد نفسه أسير ظلمة واقعه المر حيث سرعان ما يطل من هذه الكوة شبح اليأس ليطرد كل أمل بالتغيير:

اعصر لي خمرة من ورد

خليني اسكر بالورد

حد السكر

ولا تستحي من الفجر

وين الفجر ؟

جذاب كلمن حدثك عن الفجر

لو جان بالدنيا فجر

ما نام ليلك ع الصدر

ان الموسوي في قصائده التي ضمها ديوان " تجوال " فجّر سنين غربته بأشعار تنضح حبًّا، وشوقًا، وحنينًا، وتكشف عن محاولة جادة وناضجة لتقديم تجربة شعرية مميزة.

أما الشاعر عماد المطاريحي الذي ظهر مميزاً منذ أول إطلالته على المشهد الشعري مطلع 2001 والذي أصدر ديوانه البكر (المأذنة والبحر الأخضر) عام 2008 فإننا يمكن ان نصفه بشاعر الجوائز وذلك لكثرة ما حصد منها خلال مشاركاته المتعددة والتي أستحقها عن جدارة لما تميزت به أشعاره من مهارة في اقتناص الصورة الشعرية المقرونة بنبل الأفكار إضافة الى لغته الشعرية التي حاولت بشكل ملحوظ تقليص المسافة ما بين العامية والفصحى فهو يتعامل مع اللغة بدرجة من الرهافة دون ان يسقط في المباشرة والسطحية متجاوزا بهذا التفرد انتاج الأنساق القديمة حيث قدّم تجربة شعرية تحتكم الى وعي جمالي مغاير وأفق معرفي يشير الى رؤية مبدعة للواقع:

آني احس روحي نبي هذا الزمان

معجزاتي ثيابي بيض بوسط عالم ثوبه غيم

رغم تاريخ الدوائر.. والخطوط الجانبية

والارقام المستحيلة

وانا عايش مستقيم

المطاريحي يحاول في شعره ان ينفض عن كاهل القصيدة كل ما هو ثقيل على اللفظ وإدراك عمق النص وذلك عندما يختار في خطابه الشعري وعيا مغايرا، خطاب يتجه نحو تقويم الاعوجاج في المفاهيم لدى الاخر فهو لا يسعى الى تحديث اللغة كأداة للكتابة فحسب انما يحاول ايضا  احداث هزة في الوعي تجاه عدد من التقاليد المغلوطة والراسخة في اذهان الكثير وذلك من خلال الهزة في المسلمّات الذي تحدثها جملته الشعرية المكتنزة بالدلالة والاثارة والدهشة والبعيدة عن الأنساق المتوارثة، ومن بين افكاره اسبقية تحرير الفكر من قيود الجهل والخرافة عند الشروع ببناء الأوطان :

انريد نبني وطن؟

نحتاج نبني فكر.. يستوعب المطرقة

بعدين نبني جسر!

هكذا نجد انفسنا أمام شاعر مرتبط بالواقع والتاريخ والمعطى الاجتماعي، شاعر يحرث في الوعي والوجدان ويسعى من خلال هذه اللغة المهذبة والفكر الانساني النير السمو بالشعر الشعبي الى مستوى خطاب النخبة ويقاوم الاسفاف الذي يسود بعض نماذجه، يضاف الى ما تحمله روح الشاعر من أحلام بريئة هي الاخرى تنشد الدعة وترفض الخنوع والخرافة:

اتمنى عدنه شعب ما يقبل بموته

وأتمنى عدنه

كمر ما تاكله الحوته!

كما انطوت تجربة المطاريحي على مواقف إنسانية ووطنية ترفض التعالي المقيت والنيل من كرامة الإنسان، فهو يؤمن بالعدالة والمساواة  وينبذ التفرقة الاجتماعية وكل هذه المعاني والقيم الانسانية النبيلة تتدفق عبر خطاب شعري هادئ يكشف عن الروح الشفافة التي يحملها هذا الشاعر المنذور للجمال والحب والذي يناصر المظلوم ويقف بوجه محاولات استلاب حريته:

ما أحب بالمدرسة ينادون وين ابن الوزير

ما أحب قصر الامارة يشيل خشمه عله الفقير

آني كائن من حرير ينذبح عصفور أموت

ينولد عصفور أطير

المطاريحي شاعر يعيش واقعه وينصهر فيه حتى يصبح الواقع جزءا من وجدانه اليومي، كما هو شاعر تحريضي بذكاء يدعو الى التغيير ورفض مظاهر القبح والعنف ليس بالهتاف العالي ولا بالشعارات الرنانة انما بطريقة ناعمة من خلال طرح قيم الجمال واحلامه البريئة بواقع أجمل للإنسان وبعلاقات افضل بين الناس:

أحلم وطن بلون الناس

ما بي ناس تموت اعله بعيرة جساس

ما بي واحد يهدم بيته

ويعمر بيت الترباس

احلم بيت لكل مسكين

بطعم الماي

احلم وطن بلون الناس

بي باجر احلى من اليوم

وطن ترابه نجوم

اطفاله نجوم

تبقى الديوانية مدينة ولادّة للإبداع والمبدعين من خلال ما نشهده من حركة شعرية شبابية تواقة لتقديم الأفضل لمسيرة الشعر الشعبي العراقي.

***

ثامر الحاج امين

في المثقف اليوم