قراءات نقدية

قراءة سيميائية لقصيدة "الزلزال" للشاعر د. جمال مرسي

الحقيقة بهرتني الشاعرة المغربية الكبيرة بهذه القراءة النقدية الرائعة لقصيدتي (الزلزال) فكان من واجبي أن أنشر هذه الدراسة القيمة ليقرأها الأصدقاء الأعزاء والتي تثبت أن الأستاذة نبيلة حماني ناقدة متمكنة بالإضافة لكونها شاعرة جميلة.

أولا: القصيدة:

الزلزال

شعر: د. جمال مرسي

(بعد الزلزال المدمر في سورية وتركيا في السادس من فبراير لعام 2023م والذي راح ضحيته الآلاف ما مبين شهيد ومصاب.. ندعو للشهداء بالرحمة والمغفرة وللمصابين بتمام الشفاء):

بــالأمـسِ كـــان لـنـا بـيـتٌ يُـجـمِّعُنا

والـيومَ سـالتْ على الأطلالِ أدمُعُنَا

أشـلاؤنـا انْـتَـثَرَتْ فــي كــل نـاحـيةٍ

لــم تَـبـقَ غـيرُ ريـاحِ الـفقدِ تـصفعُنا

نُـشـيِّعُ الأهـلَ والأصـحابَ فـي كَـدَرٍ

فــمــن تُــــراهُ إذا مُــتـنـا يُـشَـيِّـعُـنا

بــالأمـسِ كُــنَّـا هُـنـا نـلـهو بـحـارَتِنا

الـشمسُ تـرمُقُنا، والـنجمُ يسمعُنا

يَــمـوءُ فـــي بـيـتِـنا هِـــرٌّ، نـلاعِـبُهُ

ويـصـدح الـبـلبلُ الـشـادي فـيُـمْتِعُنا

يـبـدو الأثــاثُ سـعـيدًا لــو نُـجالِسُهُ

و يــزدَهِـي بـجـمـالِ الـزَّهـرِ مـربَـعُنا

كـانـت تُـقيمُ عـلى الـجُدرانِ مـكتَبَةٌ

نـغـوصُ فـي عُـمقِها عـصرًا فـترفَعُنا

وكــان جِـيـرانُنا مِــن نـفـسِ طـيـنتِنا

مـا كـانَ عـن وصـلِهِمْ أشـياءُ تَمنَعُنا

كـانـتْ لَـهُـم طِـفلَةٌ، إبـنٌ، وخَـادِمَةٌ

وربَّــةُ الـبَـيتِ فِـي الأحـضانِ تَـزرَعُنَا

كـأنَّـنَـا بَـعـضُـهَا، لا شــيءَ يَـفـرُقُنا

عـن "بـاسمٍ"، و"صـبا" لـما تُـوَدِّعُنا

وحِـيـنَ تُـقـبِلُ أُمِّــي بـعـدَ مـطبَخِهَا

نَـلتَفُّ مِـن حَـولِهَا جَـوعَى فَـتُشبِعُنا

يــا لـلـمساءِ الـذي يَـأتِي بِـنُورِ أَبِـي

تُـحِـيطُهُ فِــي ظَــلَامِ الـلَّـيلِ أَذرُعُـنَا

يَـجِيءُ، فِـي يَـدِهِ حَـلوَى لِـيُسعِدَنا

وحَــــولَ تِـلـفَـازِنَـا يَــحـلُـو تَـجَـمُّـعُنَا

حَـدِيـثُهُ الـعـذبُ يُـشـجِينَا ويَـمـنَحُنَا

مِــن فَـيـضِ خِـبـرَتِهِ مَـا كَـانَ يَـنفَعُنَا

والــيـومَ نـجـلـسُ والأنـقـاضُ بَـاكِـيَةٌ

مِــن تَـحتِنا، وسِـيَاطُ الـمَوتِ تَـلفَعُنَا

يـا مـوتُ كـيفَ أتـيتَ اليومَ فِي سِنَةٍ

تـخـتارُ مِــن بـيـنِنَا الآلافَ، تَـفـجَعُنَا

تتلو: "إذا زُلزِلَتْ"، هل حَانَ موعدُها

يَـا مَـوتُ، أم جـئتَ مُـختالًا تُـرَوِّعُنَا؟

وتُـنـذرُ الـخـلقَ أَنْ أشـرَاطُهَا ظَـهَرتْ

نَـعَـم.. ومــا كــانَ يُـنـجِينَا تَـضَـرُّعُنَا

أقـــدارُ رَبِّـــيَ قَـــد فَــاقَـتْ تَـصَـوُّرَنَا

و الـهَـدمُ نـَحوَ جَـليدِ الـمَوتِ يَـدفَعُنَا

يـا مـوتُ رِفـقًا بِـنَا، صِـرنَا بِـلا سَكَنٍ

وراحَ تــحـتَ ثَـــرَى الــزِّلـزَالِ أَروَعُـنَـا

فَـمَن سَـتَشرَبُ بـعدَ الـيومِ مِن دَمِهِ

و هَـل هُـناكَ، هُـنا، أم أيـنَ مَصرَعُنَا

4876 جمال مرسي ونبيلة حباني

ثانيا: القراءة النقدية:

يظل الشعر لغة الروح والقلب، ودفق الأعماق وخلجات الروح، ذلك الزلال الذي يتدفق من الدواخل وينسكب فيها، الشعر هو ذلك الشلال الهادر المريء الذي ننهل منه في كل الحالات ومع كل الظروف، حزنا كانت أم فرحا، تعبا أم ارتياحا، وجعا أم شعورا بالرضي، حبا أم خذلانا...

الشعر يسع الإنسان وامتداداته اللامتناهية في الوجود، يسع كل ما يعتمل في النفس الإنسانية، لذلك أقول: إن الشعر هو الصدق الإنساني والحقيقة التي لا تظهر إلا فيه وبه ومنه، وما المجازات والانزياحات والتحليق في الخيال إلا حقيقة ذلك الصدق الذي لا يرى إلا في الشعر بكل أشكاله..

ففي زمن استشرى فيه الوجع، وتفصمت العرى، وأحس الإنسان بوطأة الحياة وثقلها، بغربة عن نفسه وعمن حوله، تصبح القصيدة دفقا وشلالا من المشاعر المعبرة عن واقع مر، وحياة مليئة بالمتناقضات والمشاعر المتباينة...

من هذا المنطلق أعرض في قراءة انطباعية عاشقة لقصيدة الشاعر المصري الكبير الدكتور "جمال مرسي" والتي عنونها ب " الزلزال"

من خلال القراءة الأولية للعتبات الخارجية للنص،يكون أول ما يثير الاهتمام ويلفت الانتباه هو هذا العنوان "الرمز"، العنوان الكبير حجما والمقتضب حروفا "الزلزال" هذا الزلزال الذي هو علامة دالة قوية صادمة تحل بالمكان فتدمره وتهدمه، وتغير معالمه تماما، وتحل بالزمان فتسمه وتطبعه، ليكون التغيير المنذر.. الآتي بالشتات والفقد والموت والوجع الشامل، سواء بالنسبة للذي عايش هذا "الزلزال" ونال من ويلاته موتا وتشريدا، فقدا ومرضا، فقرا وعوزا،ضياعا للماضي والحاضر، تكبدا لحسرات لم تكن في الحسبان.. أو بالنسبة للذي سمع عنه ورأى صوره المفزعة فظلت مشاعر الهلع والخوف مسيطرة عليه، باعتبار ما كان وما قد يكون، وما قد يسلط عليه من مآسي محتملة أينما كان وفي كل أنحاء الأرض..

الزلزال فضلا عن ذلك، يحمل دلالة السرعة لفاجعة لا منتظرة، فاجعة لا تبقي ولا تذر، لا تترك فرصة لأخذ الحيطة والحذر...

من هذا المنطلق يكون لعنوان القصيدة " الزلزال " دلالة رمزية إيحائية وواقعية معيشة..

تتمثل في أن العالم يعيش زلزالا فضلا عن الزلزال الواقعي زلزالا من نوع أخر، زلزالا طال القيم والفكر والثقافة، طال المجتمع والاقتصاد والسياسة والقيم، طال كل مجالات الحياة فأصبح الإنسان يعيش أزمة لا قبل له بها، توازيها سرعة التغيير مع الاغتراب والذهول والحيرة..

إذن هو زلزال التغيير.. هذا التغيير الذي ليست لنا به قابلية والذي لم يكن متوقعا ولا خطط له سلفا.. الزلزال كان مباغتا مس أمن وسلامة وطمأنينة الفرد والمجتمع..

فالزلزال حدث حقيقة ومجازا، طال أوطانا بأكملها، دمر وشتت وشرد وأغرق المدن في ركام من الثرى والغبار، في ركام من المواجع والأحزان.. مس كل جوانب الحياة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا فكانت الفاجعة كبرى، والكارثة لا قبل لأحد بها حتى من يعتبرون أنفسهم من عظماء هذا الكوكب..

استمرارا في استقراء العتبات الخارجية للنص من عنوان وبداية ونهاية نجد الشاعر يستهل قصيدته قائلا:

بالأمس كان لنا بيت يجمعنا

واليوم سالت على الأطلال أدمعنا

أشلاؤنا انتثرت في كل ناحية

لم تبق غير رياح الفقد تصفعنا

فالبيت الأول ومن خلال شطريه "يُجْمِلُ" القصيدة ومضمونها..

يستهل الشاعر قصيدته بالحديث عن "الأمس" في إشارة إلى الزمن الماضي، هذا الزمن الذي ولى وانتهى، تاركا في نفسه كل الأثر الجميل، ما جعل الشاعر يتوق إليه ويتمنى عودته، ويستشعر مرارة الفقد لهذا الزمن من أول شطر في القصيدة، فكان الحديث عن "الأمس "الذي تنعم فيه بالأمن والأمان والطمأنينة والسكينة والود والمحبة والدفء..وكل معاني الانسجام والارتياح والحميمية والألفة بين من كان في هذا الزمن وهذا البيت...

وقد يكون البيت هنا رمزا وإشارة إلى الروابط التي تجمع بين أبناء الوطن أو بين الأوطان العربية، والسلم والأمان الذي تنعمت به، فكان التعاون والتكافل بين الشعوب، وكانت الطمأنينة التي يشعر بها الإنسان العربي سواء داخل وطنه أو خارجه..

فدلالة "البيت" لها إيحاءات، تمثلت في أن البيت كان مبعث الطمأنينة والسكينة والبشر والفرح، وكل معاني الصفاء والود والشعور بالدعم والسند.. واليوم غدا البيت شتاتا وخرابا وأطلالا نقف عليها فنبكي ماضيها وحاضرها، ونفزع حين التفكير في غدها الآتي، كل ذلك هو رمز ودلالة لما أصاب الكثير من الشعوب العربية من تشرذم وانكسار وفقر وانهزام وشتات فوق وطأة الزلزال الحقيقي..

إنه "البيت "العربي،الذي طاله الهدم والانهيار إثر زلزال تصدعت له الأوطان، وانهدمت به الأمجاد، وضاع الحق في الكرامة والحرية..

بتعبير أوضح إنه زلزال "الربيع العربي"، بل وما قبل الربيع العربي في مخطط مدروس من قبل قوى الهدم والاستبداد..

الفارق الوحيد هو أن الزلزال ظاهرة طبيعية، وكارثة بيئية لا دخل للإنسان فيها، لأنها ابتلاء من الله عز وجل، واختبار لمدى الرضا والصبر والإيمان..

أما الزلزال الذي طال الوطن العربي، فقد كان زلزالا من صنع البشر لأجل هدم حضارة عمرها مئات السنين، والاستيلاء على الثروات والحد من المد العربي الذي كان يبشر بصبح قادم وحلم يتحقق..

إذن هو "زلزال" الهدم للبيت الذي جمع هذه الأسرة الموحدة تحت لواءات عدة، أهمها الدين والعرق واللغة والقيم والعادات والتقاليد والثقافة والأعراف، زلزال كسر القلوب وأهان وأدمى قبل أن يقتل..

هدم البيت فبكينا على أطلاله، وسالت أدمع الأمة حسرة وألما، بؤسا وعوزا، انكسارا وحسرة على ماض هيهات أن يعود..إنه البكاء على أطلال هذا البيت الذي تشظت أشلاؤنا منه إلى كل الأنحاء، فعم الشتات والتشرذم والبؤس وأصابنا هول الحقيقة المرة، وصفعتنا أيدي الأسى ولاحت رياح التغيير في الأفق صاخبة مرعدة مزبدة، ولم نكن قد حسبنا لها أي حساب.. ولم نتوقع مرارة ولا هول الدمار الداخلي والخارجي الذي طال كل شيء فينا..

لتأتي خاتمة القصيدة كآخر العتبات الخارجية والتي هي استمرار لفكرة فقد "البيت" والسكن إذ القصيدة تنحو في وحدة موضوعية تامة وانسجام متناهي، وتراص للبناء والفكرة، ما يمنحها قوة ووحدة موضوعية، وما يجعل القصيدة تنمو أفقيا وعموديا لتمضي في الغرض الذي كتبت له وهو في اعتباري غرض "الرثاء" رثاء النفس ورثاء البيت الذي تعرضت لرمزيته ودلالته ورثاء الأهل وكل ما بالحياة من أحياء وأشياء..

إذن هو رثاء البيت الكبير رثاء "الموروث الثقافي والحضاري" ومن هم جزء منه وأعمدة أساسية ينبني عليها البيت، ليستمر الشاعر في الحديث عن شبح الموت الذي هو رمز للنهاية، نهاية حقبة من تاريخ الأمة، ونهاية زمن كانت تنعم فيه بكل مقومات الحياة الكريمة المستقرة،التي كانت في نمو وصعود وتسامي... إلى أن انقلبت الموازين وحل ما قد نسميه زمن الموت الذي يشرب الدماء، فيتعاظم ويطغى ويتمرد، يعيث في الأرواح قتلا وتنكيلا، لدرجة وصل فيها الأمر بالشاعر- والذي هو رمز "لوجدان الأمة "وصوت لصرختها، ولسان ينطق بحال واقعها -.. أن يحدث الموت ويسأله ويخاطبه في أسى وحزن وألم..إلى أين؟ وأين سيكون مصرعنا؟..على اعتبار انه ما زال في الأمة أحياء سيقاومون ويناضلون لأجل الخروج من الأزمة وتجاوز الدمار وتحقيق النصر.. لكن بأمل ضئيل واستشعار للرعب من هول الفاجعة.. ومع ذلك لم يفقد الأمل فمازال هناك إصرار على التحدي والمقاومة..

لازال هناك إنسان رابض في الأعماق، وأركز هنا على لفظ "إنسان " على اعتبار أن الإنسان هو أصل القيم، وبانيها والمحافظ عليها بخلاف كلمة" بشر" هذه الكلمة التي تحمل معاني القسوة والسوء والضرر والانتهازية وغيرها من المعاني الخالية من معنى الإنسانية.

إضافة إلى ذلك هناك دلالة أخرى هامة في النص ومن الثيمات الأساسية في القصيدة إنها ثيمة "الأم " ورمزيتها.

" الأم" هذا الكائن الملاك الذي يضيء حياة الإنسان، الكائن المتفرد في عطاءه، الكامل في محبته، الوفي الأمين المضحي، الذي لا يستمرئ الحياة إلا بالتضحية والبذل والاحتضان، إنها الأم تلك الشجرة الوارفة الظليلة المثمرة الدانية القطوف، التي هي عماد البيت والأسرة والتي يجتمع حولها الكل، فتكتمل البهجة، من إليها نعود في الفرح والحزن، من تدثرنا وتمسح على رؤوسنا ونواصينا..وبذلك تكون "الأم" هنا رمز "للوطن " هذا الوطن الذي لا يمكن إلا أن نحتمي به ونعود إليه مهما ساءت الظروف والأحوال..

يقول الشاعر "جمال مرسي" في البيت الحادي عشر من قصيدته "الزلزال":

وحين تقبل أمي بعد مطبخها

نلتف من حولها جوعى فتطعمنا

إذن هي "الأم " مصدر القوت والشبع،مصدر الرعاية والعناية والاهتمام، الأم نبع المحبة المطلقة اللامشروطة، لتكون الأم هي "الوطن" الذي يحمي ويظلل ويأوي ويسامح..

إضافة إلى ذلك هناك دلالة "الأب " في القصيدة، فهو رمز الحماية والرعاية والدعم النفسي وقد شبهه الشاعر ب"النور" الذي يضيء فيزيل العتمة، الأب نبع الخير ومن نتكئ عليه فيدعمنا، ويتحملنا،الأب المثل الأعلى، رمز السلطة والقوة والاستقرار والإعالة، إنه الضمير والوازع الأخلاقي الذي يملي شرائعه وقوانينه، إنه رمز الحب الخالص وعباءة نحتمي بها ليعم الأمان.. للأب دلالة اقتصادية أيضا فهو الكافي وهو المانح وهو من يحقق الاكتفاء، المرشد المعلم المدلل الهادي.. هذا الأب الذي له موعد للعودة ألا وهو "المساء"

من هنا نستشعر رمزية الأب في القصيدة ورمزية الزمان أيضا " المساء" الليل مبعث العتمة والظلمة والرهبة والخوف من المجهول.. إذن هو "الأب" بعودته يجلي النور، ويحقق فكرة البطولة لدى الأبناء، يمد بالعطف والإرشاد فيكون الحماية والسد المنيع أمام كل المخاطر.. وبحلول "الزلزال" فقد السند والمدد والطمأنينة والأمان الذي كمن في رمزية غياب "الأب" و"الأم "..

و تصادفنا في القصيدة الإشارة إلى المنحى الديني الاعتقادي الذي يطبع النص بمسحة إيمانية قوية لدى الشاعر، ويظهر بشكل جلي في المقاطع الأخيرة من القصيدة

إذ يقول الشاعر في البيت السابع عشر من قصيدته

تتلو "إذا زلزلت" هل حان موعدها

يا موت، أم جئت مختالا تروعنا؟

كذا البيت الذي يليه

وتنذر الخلق أن أشراطها ظهرت

نعم..وما كان ينجينا تضرعنا

إذن هذا التناص الذي وظفه الشاعر انطلاقا من النص القرآني والآية الكريمة من سورة "الزلزلة" يقول عز وجل "إذا زلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان مالها.." (سورة الزلزلة)

أذن يمتح الشاعر من معين القرآن الكريم الذي هو حاضر في نصه بشكل جلي والذي يبين عن الإيمان القوي، والعودة إلى الله في المواقف الحرجة وغيرها لدى الإنسان المسلم

الإيحاء القرآني هنا لسورة "الزلزلة " هو تأكيد على عظمة الخالق وقدرته التي لا حد لها، وتأكيد لحقيقة المآل الذي سيصير إليه الكون والوجود في قيامة حتمية لا راد لها...

على هذا يكون الجانب الإيماني أساس في كيان الشاعر وسند عند اشتداد الأزمات ومآل وملاذ،

وإن حانت الساعة فلا مُوقف لها، مهما تضرعنا وتوسلنا فزمانها محدد عند الله عز وجل وهو وحده من يعلمه..

أقدار ربي قد فاقت تصورنا

والهدم نحو جليد الموت يدفعنا

إيمان قوي في قدرة الله عز وجل وفي النهاية المحتومة لكل الخلق

واستشعار لجلال الموت وسطوته في هذه الظروف الصعبة لدرجة أصبح فيها جبارا ماردا مع هذا الزلزال العملاق الذي ذهب بكل شيء إلا الأمل الكامن في عمق كل الشاعر وكل من ظل على قيد الحياة ما يجعل الشاعر يخاطب الموت، ويسأله رفقا بالخلق الذين سامهم الوجع والعذاب والتشرد والبحث عن مآل

ويستمر في مخاطبة الموت وسؤاله، تراه الدور على من؟ وإلى أين..؟

تظل القصيدة مليئة بالإشارات والإيحاءات المتواترة التي لها دلالاتها في القصيدة "كالجيران" و"القطة" التي تموء و"البلبل الشادي" و"الأثاث" الذي يسعد بلمة الأسرة فيزداد ألقا وجمالا..

إلى حين الوصول لرمزية "المكتبة"..

هذه "المكتبة " التي هي إشارة من الشاعر للفكر والعلم والمعرفة والتنوير..

يقول الشاعر في البيت السابع من قصيدة "الزلزال "

كانت تقيم على الجدران مكتبة

نغوص في عمقها عصرا فترفعنا

إذن هناك رمزية "المكتبة" التي هي علامة هامة في القصيدة،تتعلق بالفكر والعلم والأدب، هذه المكتبة التي ضمت كتب "ابن رشد "و"ابن خلدون" و"ابن طفيل" و"الجاحظ "و"المتنبي" و"ابن المقفع" و"البيروني" و"شوقي" و"ابن عربي "وغيرهم..المكتبة التي صارت في خبر كان، فقد نهب الفكر وترجمت الكتب العربية ثم أحرقت بعد ذلك قلم يبق لها اثر.. وما بقي ما هو إلا النزر اليسير،الذي يدل على ما وصل إليه الفكر العربي من علو وسمو ومجد، فنسب الفكر لغير أهله والعلوم لغير مكتشفيها..

فضلا على العقول العربية التي تهاجر فتسهم بشكل كبير في التقدم العلمي والتكنولوجي الغربي والتي لا يشار إلى أثرها وعبقريتها ودورها المهم والأساسي.. والنماذج كثيرة على ذلك.

كانت تلك رمزية المكتبة في القصيدة فانهيارها وجدرانها لاشك علامة موجعة وقوية، هذه المكتبة التي صانها الفكر العربي عبر الزمن، لكنها انهارت وضاعت في هذا "الزلزال" وظلت أطلالها شاهدة عليها ليوصف الفكر العربي بالتخلف والرجعية دون إنصاف أو إحقاق للحق..

إذن هل ضاع الحلم الكبير الذي هو رابض في كل منا؟ هل حقا خيم الموت والأسى لحد الخنوع والاستسلام للموت؟ هل وهل...؟ تلك تساؤلات عدة طرحها الشاعر في مناحي مختلفة من القصيدة المغمسة بالحزن والأسى بأساليب متنوعة للاستفهام أذكر منها قوله:

يا موت كيف أتيت اليوم في سنة..؟

هل حان موعدها؟

أم جئت مختالا تروعنا؟

من ستشرب بعد اليوم من دمه؟

وهل هناك هنا، أم أين مصرعنا؟

والسؤال هنا هو لم يطرح الشاعر تساؤلاته؟ لم الاستفهام؟ لم هذا الكم من الأسئلة..؟ هل حقا فقد الشاعر الأمل؟ ووصل إلى تقبل الموت والدمار والخراب الذي أصبح عليه العالم، رامزا له ب"الزلزال" الذي حل موتا مظلما، غيب المباهج وأرخى سدول الدمار والأسى؟

من خلال استقراء القصيدة نجد أن "الزلزال" مهما كان قويا فإنه لابد فيه من ناجين، ومن نور ينبعث بين الركام، فالأمل لم تخب شرارته بعد، وتلك الجذوة المشتعلة تحت الرماد حتما ستكبر لتؤكد أن هناك أمل وحياة وناجين من هذا الزلزال..

إذن طرح السؤال في اعتباري هو انتفاضة داخلية في عمق الضمير الإنساني، والوعي الفردي والجماعي لدى من مسهم الزلزال.

فالكبوة لا تعني الموت، أو السقوط الدائم، بل تعني أن هناك ناجين سيبحثون عن منفذ من تحت الركام، سينهضون ويحيون ويقاومون الموت والدمار، سيحيون ويبنون ويقاومون لأجل تحقيق الحلم الذي لن يخبو ولن يندثر..

وهنا أحب إن أقف عند رمزية الأبناء ورمزية الأسماء

فالأبناء هم رمز الاستمرارية والبقاء ومقاومة الفناء وتحدي الزمن والإصرار على الحياة.

ليكون الطفل والطفلة في القصيدة من يختزلان الجنس البشري الذي لا يمكن أن يستمر إلا بكليهما.

فهما وأقصد بذلك الطفلين "باسم" و"صبا " شتلات الحياة الآتية،وبرعما الأمل ويقين الاستمرار مهما كانت العواصف قوية والموت مستأسد جبار..

يقول الشاعر في قصيدته الزلزال البيت العاشر من القصيدة"

كأننا بعضها، لا شيء يفرقنا

عن "باسم" و"صبا" لما تودعنا

ف"باسم " هو رمز المستقبل المنشود، الذي نأمل وننتظر أن يكون باسما، مبهجا،قادما بكل ما نأمل من رخاء ونماء وتطور، "باسم" المستقبل الواعد للأوطان،الآخذ إلى مدارج السمو والنمو والتطور الحتمي الذي لابد وأن يكون...

أما "صبا" فهي الطفلة الرمز، التي تهب بنسائم الخير، والخصب والعطاء والنماء، صبا المرأة المستقبل الواعد، التي يزهر بها الوطن فيكون جنانا وارفة ظليلة وقطوفا دانيات،" صبا" دلالة الخير التي ستعم كل المجالات فكرا وعلما وأدبا واقتصادا وغيرها..

"باسم" و"صبا" لم يكونا اختيارا اعتباطيا من قبل الشاعر، وإنما هما عمق الدلالة المختزلة في القصيدة والتيمة التي تبرز خيط النور والضياء في للقصيدة..

فمع " الزلزال " وانهياراته وما ضاع خلاله، ستكون "صبا" و"باسم" من نجا من هذا الزلزال ومن أخذ المشعل وبني من جديد، يتأكد ذلك من خلال التساؤلات العديدة التي طرحها الشاعر في النص.. والتي تعني الأمل في غد أفضل، رغم ما خلفه الزلزال من دمار وموت ووجع..

النص زاخر بالدلالات والإيحاءات التي تحكي واقع الأمة بمنتهى الدقة والرمزية والإيحاء وكذا بمنتهى الشاعرية والعذوبة والروعة والانسياب، والجمال اللغوي والتعبيري شكلا ومضمونا، فالقصيدة محكمة السبك قوية البناء، تنساب انسيابا وتنهمر من القلب والوجدان

عاطفة الشاعر فيها صادقة متأججة فياضة بمشاعر الأسى والحزن لسبب هذا الانهيار، وهذا الزلزال الذي طال كل شيء ومحا كل شيء واغتال الحياة وجمالها.

عاطفة بات الحزن رداءها، والوجع مصدرها، والأسى على ماض ولى، وحاضر لا ينذر إلا بالحزن والوجع.. هو جرح مأتاه ما حل بكل شيء جميل في العالم، مأتاه هذا الانهيار في كل شيء ومأتاه آمال وأحلام لم تتحقق، لكن المفارقة هنا تمثلت في خيط الأمل الرفيع الذي ظل صامدا والذي تجلي من خلال توالي الأسئلة، هذه الأسئلة التي كانت أسلوبا بيانيا، له دلالاته العريضة منها استمرار الأمل والتشبث بالحياة والبحث عن فرصة للنجاة، واستعادة الماضي الذي كان كل البهجة في مشاعر وأعماق الشاعر..

من حيث بناء القصيدة نجد الشاعر قد وظف معجما دلاليا تراوح بين الحزن والفرح، فهناك الماضي السعيد، وهناك الحاضر المأساوي الموجع، وهناك انتظار الآتي والتساؤل حوله..

ومن الحقول البارزة في نص قصيدة الشاعر الدكتور جمال مرسي "الزلزال" هناك حقل الفرح والذي تشير إليه العبارات التالية:

بيت يجمعنا – كنا نل هو بحارتنا –الشمس ترمقنا –النجم يسمعنا-يموء في بيتنا هر –نلاعبه –يصدح البلبل الشادي- فيمتعنا – يبدو الاثاث سعيدا – يزدهي بجمال الزهر مربعنا –نغوص في عمقها عصرا – فترفعنا –جيراننا –ما كان في وصلهم أشياء تمنعنا –تقبل أمي –تشبعنا – نلتف حولها –يأتي بنور أبي –تحيطه أذرعنا – في يده حلوى –ليسعدنا – تزرعنا -.....

ثم هناك المعجم الدال على الحزن ويتمثل في قول الشاعر:

سالت على الاطلال ادمعنا –رياح الفقد – تصفعنا – في كدر –يفزعنا –تودعنا – جوعى – ظلام الليل –الانقاض باكية – الاطلال – تروعنا –بلا سكن – اروعنا – تنذر – سياط –...

المعجم الدال على الموت في قول الشاعر:

أشلاؤنا في كل ناحية – نشيع الأهل – إذا متنا – سياط الموت – يا موت – تفجعنا – الزلزال –جليد الموت –مصرعنا – أشلاءنا –إذا متنا – تشرب من دمه...

أذن هناك تراوح بين الماضي السعيد المليء بالحياة والحاضر التعيس الحزين الذي سطا فيه الموت على كل شيء ولكن هل ضاع الأمل؟

كما أشرت تبقي لغة الشاعر في القصيدة قوية متينة منسابة فصيحة بعيدة عن الغموض والغرابة سهلة الألفاظ، واضحة تميزت بجمال الأسلوب، وقوة البناء والتركيب، موحية شفيفة تنساب بعذوبة في اللفظ والمعني قوية التعبير مع انزياح مكن من رمزية عالية وتكثيف للدلالات..

قصيدة يمكن أن ندرجها ضمن ما يسمى بالسهل الممتنع وذلك في اعتقادي أكثر قوة وإبداعا وإيصالا..

وظف الشاعر في قصيدته كما من المحسنات البديعية التي أضفت على النص حلة من الروعة والعذوبة والجمال شكلا ومضمونا نذكر منها

الطباق

اليوم - الأمس

بيت – أطلال

طفلة – ابن

امي – ابي

العصر الليل

جوعى – تشبعنا...

الترادف

يلهو – نلاعبه

يصدح – الشادي

تقيم – نجالسه

تودعنا – تشيع

الموت – الفقد

بيتنا - سكن

التكرار

زلزلت – الزلزال – إذا زلزلت

الأمس – الامس

بيت – بيتنا

متنا -الموت -يا موت...

بهذا تكون القصيدة الشعرية المعنونة ب"الزلزال " لصاحبها الشاعر الدكتور "جمال مرسي" هي كم من الدلالات الإيحائية في من أول العنوان إلى آخر القصيدة..

تظل قصيدة "الزلزال " فياضة بالجمال وأناقة الإبداع وصدق الفكرة والإحساس وبلاغة اللغة وجمالية الصورة الشعرية ورمزيتها فضلا عن قوة البناء والقالب الذي صيغت فيه ما يخلق الانسيابية والعذوبة التي لا تشعر معها بأي انقطاع أو فصل بين وحدات القصيدة وبخاتمة يتساءل فيها الشاعر عن المآل؟

بنيت القصيدة على بحر البسيط وتفعيلاته هي

مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن

مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن

هذا البحر الذي لا يكتب عليه إلا المتمرسون في علم العروض..

لا يسعني إلا أن أقول في خاتمة هذه القراءة الانطباعية لقصيدة "الزلزال " للشاعر الدكتور "جمال مرسي "إلا أنها قصيدة من أجمل ما قيل في الشعر الإنساني، وفي التعبير عن مواجع الأمة وعن الضمير الإنساني في لحظات الحزن والوجع، إنها في غاية الشاعرية والعذوبة وصدق التعبير فهي انهمار فياض لدواخل المبدع الذي يعبر عن خلجات الإنسان لغة وتصويرا وأسلوبا وبناء

وما الأسئلة في اعتباري إلا جذوة الأمل الكامنة خلف كل الأوجاع، فبعد الزلزال لابد من إشراقة أمل بغد أفضل، ولم لا ونحن نحيا بالأمل..فلا بد وأن ننتظر الآتي، والآتي هو حتما نور الصباح وخروج "باسم" و"صبا "من تحت الأنقاض وبناء مستقبل مضيء

***

نبيلة حماني

 

 

في المثقف اليوم