قراءات نقدية

بوابات الجحيم ورحلة الضباب

رحيم الغرباويقراءة في قصيدة (بيت العنكبوت) للشاعرة الفلسطينية هيفاء محمود السعدي .

ليس من شك أنَّ الشعر يمثل حقيقة وجود الإنسان؛ كونه يعبر به عما يعيشه من استلاب للذات أو الموضوع، وكثيراً ما يكون الاستلاب موضوعاً؛ لأن الشاعر وهو يعيش مع المجموع يستشعر معهم معاناتهم، فيعبر بما يختلجه عن مشاعر المجموع .

 ولما كانت الأمة العربية تعيش الاستلاب بمختلف أصنافه من طريق الصراعات التي تنخر في جسدها منذ زمن بعيد، فكان الغزو والحروب، وكانت الثورات ضد المستعمرين، ومن ثم ارتدادها مرَّة أخرى من قبلهم بوسائل شتى، وقد صدح الشاعر منذ بداية النهوض العربي متحدياً ومعلنا الكفاح من أجل نيل الحرية وتحرير الأرض من قبضة مغتصبية .

 ولما اغتصبت أرض فلسطين أمام أنظار العالم في منتصف القرن العشرين، حدثت المواجهة الكبرى بمعارك أثبتها التاريخ بما فيها من غوائل أودت بأهدافها وطموحاتها التحررية .

 وظلَّ الحس العربي بأقلامه وهتافاته يقرع الطبول، وما إن دخلنا الألفية الثانية توجهت الإمبريالية الغاشمة مرَّة أخرى؛ لاحتلال البلدان العربية وإشعال الفتن فيها لاسيما العراق وليبيا واليمن وسوريا، واستطاعت أن تموِّع القضايا الكبرى ومنها قضية فلسطين، ولكنْ على الرغم من ذلك لم تستطع القوى الغاشمة إسكات صوت الشعر الذي ظل ينافح مجاهراً؛ ليعي من تغافل عن قضيته، ويواجه من آثر المواجهة لاسيما في العراق وسوريا وفلسطين ولبنان من المجاهدين الذين ليس لهم سوى التضحية في سبيل الأرض والعِرض، ومن بين الأصوات المجاهرة صوت الشاعرة الفلسطينية الدكتورة هيفاء السعدي التي أنارت لنا في نثريتها (بيت العنكبوت) مايعتملها من لواعج الأسى والأسف لما يجتاحه المدنس من أرض المقدسات أرضنا العربية الطهور، فنراها تقول:

تتراكم الحروف على بوابة روحي ...

ليتني أغسل ذاكرتي من ليالي الجحيم،

كل شيء يوحي بالرحيل،

لاحبيب لاصديق،

ضباب يبتلع الصباح ..

أضواء الوعود كاذبة في صمت عميق !

دروبنا بلا قرار... .

أضعنا ملامح الطريق... .

اخضرت الفتن،

والقصيدة تصفِّق على خيباتنا .

 نجد شاعرتنا تعيش اغترابا نفسيا من خلال بوحها بألفاظ تكاد تكون محور قصيدتها: (الجحيم، الرحيل، لاحبيب، لا صديق، يبتلع، وعود كاذبة، صمت عميق، بلا قرار، أضعنا، الفتن، خيباتنا) فجميعها تشير إلى الضياع واليأس، بينما تصف حروف قصائدها بأنَّها تتزاحم على بوابة روحها؛ متمنية أن تغسل ذاكرتها من ليالي الجحيم التي مرَّت وما زالت تمر؛ لذا فليس هناك من وقت لنسيانه؛ لأن المأساة ما انفكت عجلاتها تدهس أحلام شاعرتنا وأحلام أبناء جلدتها.

 ويبدو أنَّ الرؤيا النفسية لدى الشاعرة تتطلع إلى مشاهدات عيانية عبر لغة الشعر وتصويره الفني وتشكيلاته من خلال إيقاع الكلمات " إلى سبر أغوار الرؤى الأخرى كالرؤيا الوجودية المعبِّرة عن حالات اغتراب الإنسان وإحساسه بالمرارة وعبث الوجود وسر المصير.. كذلك تتجه الرؤيا النفسية إلى الواقع بوصفه مناخاً أصيلاً وتربة عريقة أنبتت الأحلام والأوهام، والأمن والضجر، والقلق، مثلما تتطلع الرؤيا النفسية أيضاً إلى فتح آفاق الوعي العالي صوب ميتافيزيقا الأشياء والوجود والكون والإنسان " (1)، فالشاعرة أخذت جانب الاغتراب؛ لما أنبته الواقع من ضجرٍ وقلق تجاه الوضع الراهن والمستقبل المجهول .

ثم نراها تردف قولها بالتساؤلات:

هل يهدأ إعصار السنين؟

كيف وعشرات الأشياء مشتتة؟

بنينا بيوتنا بخيوط العنكبوت !

إلى أين تحملنا نبوءة السفر؟

وألوان الفصول في رحيل؟

إلى متى تبقى حناجرنا تشبه حشرجة المشنوقين؟

إلى متى نحلم بوطن وإنسان؟

نسير في صحراء حبلى بالغموض ..

 فهي تستعمل أسلوب الاستفهام؛ لتدلل على حيرتها بـ (هل، و كيف، و إلى أين، وإلى متى) موظِّفةً معاني الحال والمكان والزمان الذي يكشف لنا حالة قلقها ويأسها بدلالة تساؤلاتها عن (إعصار السنين، حال الأشياء مشتتة ، ألوان الفصول في رحيل، حناجرنا تشبه حشرجة المشنوقين، صحراء حبلى بالغموض) فجميع التساؤلات تومئ إلى عدم الاستقرار والخوف والضياع، فضلاً عن ذلك وصفت البيوت بأنها واهنة كبيت العنكبوت في إشارة إلى أن بلداننا أصبحت واهية ونفوسنا غير قادرة على التصدي، إذ ليس فيها من قوة تقف بوجه الإعصار المدنس الذي يجتاح آمالنا وأحلامنا في وطن كانت تسوده أواصر المحبة وعرى السلام .

ثم تقول:

 كبرتْ اللعبةُ .

وتضاريس العمر مازالت في زحام المستحيل !

حملنا ثقيل،

عزوتنا متعبة،

تحاصرنا الدهشة،

أرواحنا ظامئة لمواسم التلاقي،

والرحى العنيدة مافتئت تستبيح الشعوب،

لم يتبق سوى ركام ماضينا السحيق .

 فهي تكابد العناءات و في شوق إلى مواسم التلاقي مع أحبتها في وطننا الكبير الذي صار حلمنا؛ لأنَّ المؤامرات والدسائس التي وسمتها بالرحى تستبيح الشعوب ولم يبق من تذكارنا سوى ماضينا الذي ما فتئت قوى الظلام والضلالة تدس فيه السموم من خلال زرع الطائفية والعرقية في كل مكان .

 ولعل شاعرتنا استعملت في قصيدتها الاستعارات التي منحت النص مجالات للتأويل، وفتحت آفاق التلقي؛ كي يقرأ المتلقي ما في النص من معان تشير إلى رؤاها التي فسحت المجال؛ لتعبِّر عن كنه ذاتها؛ لإيصال قدر كبير من المعاني ومنها: (بوابة روحي، ليالي الجحيم، ضباب يبتلع الصباح، اخضرَّت الفتن، إعصار السنين، نبوءة السفر، تضاريس العمر، تحاصرنا الدهشة) وأنَّ أغلب تلك الاستعارات رمزت في النص إلى الضياع والتشتت، وليس من أمل سوى البكاء خلف بوابات الروح على واقع مليء بالضباب .

 

  بقلم د. رحيم الغرباوي

........................

(1) الرؤيا والتشكيل في الشعر العربي المعاصر، د. سلام الأوسي: 134

 

 

 

في المثقف اليوم