قراءات نقدية

ملحمة الحياة والموت على الواقع المعاصر

رحيم الغرباويقراءة في المضمون والرؤيا لقصيدة (الآن) للشاعر المصري عصام عبد المحسن.

الحياة ملحمة طرفاها الضوء والظلام، فالضوء يستعار للخير والهدي بينما الظلام، فهو ما يمثل الكفر والضلالة ومايتفجر منها من معان للشر والجهل والرذيلة، ولعل الاستعارات هي موئل اللغة العالية (لغة الأدب) لاسيما الشعر منه، والمدلولان العامان للضوء والظلام، هما من يتطوفان عالمَ الشعر بل عالم الإنسان عبر أزمنته وأمكنته إلى يوم الناس .

فالصراع بدأ منذ نشأة البشر، وقد أخبرتنا الكتب السماوية بقصة خروج آدم من علياء فردوسه، ثم مقتل أحد ولديه على يد الآخر، ثم جاءت الملاحم الأسطورية ما قبل التاريخ؛ لتخبرنا عن الصراعات الدموية التي كانت فيها تراق النفوس، ثم التاريخ الحافل بأحداثه المريرة من أجل البقاء، في صراع الخير مع الشر كونهما ضدان لايلتقيان؛ لما لعالمنا الكوني من حياة مستمدة من تلك التناقضات التي نشاهدها ونستشعرها كل يوم كظاهرة الليل والنهار، الظل والحرور، الحياة والموت، الداخل والخارج ... الخ .

والشعر هو عالم الإنسان الداخلي، وهو يستوحي صورته من العالم الخارجي فيترجم مؤثرات الأحداث بكلمات لاتشبه الواقع المباشر إنْ كانت تلك الكلمات مستوحاة من عوالم الشعري بوصف الشعر ميداناً رامزاً للأحاسيس والمشاعر تجاه الأحداث والرغبات والطموحات التي لاتأتي بسهولة، لما ينتابها من عسر بسبب الصراعات المزمنة بين القطبين و التي مازالت توكز بعصاها جسد البشر؛ لذا لايأتي كل شيء سهلاً لاسيما ستراتيجيات الإنسان الكبرى كالحرية والاستقلال فضلاً عن الطموحات التي تبتغيها الشعوب لكن كثيرا ما تطغى عليها العتمة بمدلولها المعنوي حينما ينحسر الضوء في سمائه .

وشاعرنا المصري عصام عبد المحسن قد وظَّف فكرة الثنائية في قصيدته  (الآن) خير توظيف، والمنطقة العربية في تقلبات سياسية مستمرة بأحداثها العصيبة من دون امتلاءات لفضائها بالضوء بل على العكس نرى اجتياح الظلام بقواه وأجندته له، فلا مساحة للضوء لدى العربي؛ لأنْ يقرر مصيره أو يجابه المدى الشاسع لآفة الظلم بتقييد الحريات أو استغلال الشعوب واستعمارها، فنراه يقول :

الآن

تسلخون وجه البحر

من عيوننا

تقيمون سوراً آخر

بطول إطلالة السماء

علينا

فلا ترانا الملائكة

الرافضين قدومنا

فشاعرنا يستعمل إحدى تقنيات الشعر الحداثي وهي الترميز، فقد نراه يرمز بالبحر للذبيحة التي عادةً ماتسلخ أمام مرأى ومسمع من يراها، ولما كان للبحر مدى واسع كسعة آمال الناس، فالشاعر يرى أنَّ وأدهُ هو وأد للطموحات وانتهاك لحرمة المستقبل الذي تترجاه القلوب سعادةً لها، ومطمحا لكدِّها وشقائها الآني، كما أنه يعزز الصورة الشعرية من خلال انسلاخ البحر؛ ليعضد الدلالة بصورة أخرى، وهي امتداد السور الذي حجب السماء عن الأنظار؛ مما جعل الملائكة ترفض قدوم أيٍّ منهم؛ لأنهم احتجبوا عن بركاتها من دون رفضهم لتلك الحُجب . ولعل السماء حين أقرَّت الشهادة للعباد من خلال الوقوف بوجه الظلام والظلاميين، كي ينتعش النور بدلاً من الظلمة التي تخزي من يغذيها أو يرضى بها إنما هي من أجل حث البشر للدفاع عن مقدساتهم وأوطانهم وكرامتهم .

ثم يعدل عمَّا ذكره ليتحفنا بصورة ضدية للصورة الأولى بقوله :

ونحن

نقاوم الموج

بالسير حفاةً

فوق الرمال المتجمِّرة

نحمل

على ظهورنا

العواصف

قالعة الجذور

من الداخل

للداخل

نفتِّت النواة

بشباك الصيد

ونقذفها للشعاب

فتصير أحجاراً كريمة

وللنوارس

أسماك !

نحن المطرودون

مانزال

نبني على الأرض

جنةً أخرى،

نقطف ما نشاء فيها

من ثمار

نستطعمها

ونطعم أولادنا

بلا خوف

من وقوع الخطيئة

مرة ثانية .

فيما يبدو أنَّ الشاعر عصام عبد المحسن يبين في سطوره السعي تجاه النور مستعملاً الأفعال المضارعة: (نقاوم، نحمل، نفتت، نقذف، نبني، نقطف، نطعم) فجميعها تدل على المقاومة والبناء والإعمار وهي جميعها تدلل على غرس الخير لبناء مستقبل واعد أمام جبروت الظلم والاضطهاد، ثم يشير إلى الخطيئة التي وقع فيها ابن آدم مستوعباً درسها بأن لاتتكرر مرة أخرى، والخطيئة هي مَن حملها الإنسان منذ ولادة تكوينه ممثَّلة بأبينا آدم، ومازالت تتكرر إلى يومنا هذا وهي من تتفشى وتسد الطرقات على البشر حين يرومون القدوم إلى السماء .

كما أنَّ شاعرنا يمنح من ألقى بنفسه في التهلكة نصائحه بأن يعتبر من شرور نفسه لئلا يقع مصيدة للشياطين وفريسة للمتآمرين مرَّاتٍ ومرَّات، فإن صلاح النفس بالعمل والسعي للخير والكفاح والمثابرة من أجل بناء حياة حرة كريمة يسودها العدل والإنصاف .

ويبدو أنَّ الشاعر يقارن بين صورتين هما صورة الكفاح، والأخرى التقاعس والخذلان؛ لما يورده في نصه، وهو يعيش الحيرة إزاء الواقع المؤلم حين دهمت الشرور بلادنا العربية، لا سيما بلده وحال كذبة الربيع العربي الذي استغله الفاسقون وهم يبددون أحلام الشباب في المنطقة، وعلى الرغم من الجهاد والكفاح والعمل من أجل الحرية والسعادة من لدن شعوبنا، نرى كل ذلك قد صودر من الانتهازيين والعملاء وتبع الاستعمار، فهو يقول :

فكيف تغللون

قواربنا المنطلقة،

تلملم الشعاعات المبعثَرة

قبل أنْ يقتلها الغروب؛

لتشعل الفنارات

على حدود الغرق،

فتحلق الفراشات

على الشواطئ

بلا صواعق ؟

وكيف

للطائرات الورقية

أنْ تطلقها النوافذ،

فتأخذ

أحلام الأطفال معها

وكيف تعود أمالنا

المحمَّلة بالحقائب

و كل الموانئ باتتْ

بلا أرصفة ؟

لماذا الآن

تجبرون البحر

على الرحيل

خارج صدورنا

ضاحكين جميعا

لأنَّهم حاصرونا؟!

فقد استعمل اسم الاستفهام (كيف) ثلاث مرات، و(لماذا) مرة واحدة؛ لتدل جميعها على تعجبه من لؤم وسفاهة من أراد السوء بالطفولة وأحلامها وهو يذكر لنا الطائرات الورقية التي تعبر المدى، وآمال الناس المحملة بالحقائب إشارة إلى فرط الآمال التي كُبتتْ وأُجهضتْ، بينما الموانئ ظلَّت بلا أرصفة، والبحر يُجبَرُعلى الرحيل، وهو من يمثل الخير العميم لما في داخله من كنوز، وعلى متونه تنطلق الطموحات، بينما الظلاميون يضحكون فرحين لانتصاراتهم بحجْبِ الضياء عن بركات الأرض التي ادخرت خيراتها لنبع الضياء الصافي اليقين .

وبهذا يمكن أن نوسم قصيدة الشاعرالمصري عصام عبد المحسن من أنَّها مثَّلت ملحمة الحياة والموت وأسبابهما على الواقع العربي المعاصر .

 

بقلم د. رحيم الغرباوي

 

 

في المثقف اليوم