قراءات نقدية

هجرة النوارس قراءة في قصيدتي: أفق التلاقي وغنج ودلال

رحيم الغرباويللشاعرة اللبنانية نوره حلَّاب

الشعر هو الميدان الأرحب للبوح عن المشاعر حين تُترجَم إلى كلمات تبعث في المتلقي مثلما يستشعره صاحبها من رضى أو سخط، فرح أو حزن، أمل أو قنوط، وإنْ كان الشعر هو جمال فني يستكمل نقص الطبيعة؛ لبلوغ حالة التناغم بين الواقع والخيال، فإنَّ الشاعر يعيش تجربة حياتية واقعية وهو يعالج نقصها لكنْ بعاطفته وعقله؛ ليظهرها برونق جديد تتعافى به النفوس المتلقية ونفسه أولاً؛ من خلال خلق صور لما فوق الواقع معتمدا على ماتوحيه له الأشياء وما ترسمه المخيلة، وبما يُفعل فيه من مواقف حياتية إنسانية (1)، فالفن إذن هو عمل " وإنتاج ينتجه الإنسان؛ فيصوغه صياغة خاصة، إذ يعيد تنغيم مادته وتشكيل عناصره حتى تتخذ هيأة لاتتخذها في وجودها الطبيعي " (2) وإنْ كان هدفه هو التعبير عن الواقع واستحصاله على التوافق معه بوصفه جزءً من متطلبات الخبرة الجمالية (3).

و الشاعر حين يعبِّر عن شعور ما، لابدَّ أن تستوحى صور ذلك الشعور من الطبيعة من طريق الخيال؛ مما يمنح النص فنيَّةً لأجل بث التأثير في نفوس متلقيه؛ إذ أنَّ " جوهر الفن أو أساسه يقوم على التعبيرعن عاطفة الإنسان وموقفه الوجداني تجاه الوجود " (4) .

و لعل الشعر صار همَّاً للنساء الشاعرات الذي شاع في عصرنا الحاضر شيوعاً لافتاً، فأصبح يشغل مساحة واسعة بسبب تقنيات التكنلوجيا لاسيما صفحات التواصل الاجتماعي، فنجد الكثير منهن بتنَ يعزفن على وتر البوح الشعوري؛ ليترجمن ما ينتاب مشاعرهن وأحاسيسهن إزاء مؤثرات الحياة بما فيها من مظاهر ذات أثر واضح وكبير؛ لما يدهم حياتهن من قلقٍ وضياع وتشتت واستلاب، والشاعرة نورا الحلاب واحدة من بين تلك النوارس اللاتي حلَّقن في عالم الشعري؛ لتصوغ لنا من أجمل قلائد الكلمات قصائد تعبر بهن عن تطلعاتها تجاه الكون والوجود، فنراها تقول في قصيدتها أفق التلاقي:

تخيّل يا سيدي ....!!!

لم نَعُد الفدائيات المستبسلات

للذود عن موطن عينيك ....

ولا العاديات الظامئات

لسُندس المروج

في مراعيها ....

فنجد الإكبار والشمم الذي يختلج القصيدة؛ فهي تنضح بما فيها من دلالات معبِّرة لاسيما رفض الاستسلام للآخر (الرجل) فنراها تخاطب رجال العصر بل ورجال الزمن العتيق الذين ما انفكوا يمتهنون المرأة، فيتعاملون معها كالجارية التي تعيش بين حدقتيه وتذود عن حياضهما فدائية مستبسلة لاترضى إلا ببريقهما وتدافع عنهما من غلواء المُنافِسات، فما عادت امرأة العصراليوم أنْ تقتات من مروج عينيه ما يروِّي ظمأها حسب الرؤية العصرية لواقع المرأة، فشاعرتنا قد استعملت (ألف المد وتاء التأنيث) في الألفاط: (الفدائيات المستبسلات و العاديات الظامئات)؛ لتجعل من منطلقها بعيد الأثر، طويل الزمن، إذ أنَّ الشاعرة وهي تبوح بمشاعرها بهذه الفكرة آثرت أنْ تستعمل في نصها جمع الأناث بمد الألف أربع حركات متتالية، مما يحدث لنا استطالة في الصوت؛ وذلك لتعمق دلالة النص المرجوة، ولتمنح في الزمن الصوتي المستطيل دلالة النأي والبعد اللذين يمثلان الرفض للواقع المقيت من لدن المرأة وهي تحاول أن تبتعد عن ذلك الرجل، وقد أكدت حالة الرفض التي رصدناها من خلال ظلال الكلمات لاسيما في أداة الجزم (لم) التي نفت الفعل  (يعود)، ثمَّ عززت دلالة النفي بـ (لا) في قولها: (ولا العاديات الظامئات)، كذلك تكرار حرف العين خمس مرَّات وهو الذي يدل على اللوعة والألم .

ثم تقول:

صِرنا الناجيات

من حروقِ الشمس

المشرقة بين شفتيك ..

من تلك الإبتسامة

الطاغية في تدانيها ...

اليوم

نحن نجمات

تتلألأ بعيداً

عن وصاية مَدَارك

ولا مواسم لتلاقيها ...

ويبدو أنَّ شفتي من توجه له الكلام حارقة، ولعل السياق لايدلل على المعنى الظاهر، وكأنَّ القارئ لأوَّل وهلة يقرأ أنَّ الشفاه التي قصدتها الشاعرة هي شفاه الرجل الحارقة بعذوبتها وشبقها، لكن الهروب منها يدل على معنى تسلطها أيضاً، وقد عبَّرت الشاعرة فيما يبدو عن حروق الشمس في الشفاه؛ بوصفها لاهبة في لذعها مستعيرة بذلك للكلام الجارح، والمتجاوِز على المرأة؛ وجعلها ضعيفة في مجتمعنا العربي، منزوعة الإرادة، فالشاعرة تعبر عن لسان حال نساء جيلها، ولعل الابتسامة في النص لم تكن ابتسامة ودٍّ، بل ابتسامة استهجان وغرور، بينما النساء في حقيقتهن كالنجمات اللاتي يتلألأن بجمالهن وحريتهن وعطائهن بعيداً عن وصاية المستعمرين وليس هناك بعد الآن أنْ يلتقين بمثل هكذا ثقافات أو أفكار متخلفة . وقد استطاعت الشاعرة مرة أخرى أنَّ تشير إلى الزمن الفارق بين هذا الواقع الذي تتعرض له المرأة كل يوم، وبين النساء اللاتي ابتعدن في جوف السماء؛ لينلن حريتهن بلفظتي: (الناجيات و النجمات) ومد الألف فيهما؛ لاستغراق الزمن كما ذكرنا آنفاً، وقد أوردت النون في هذا المقطع تسع مرات وصوت الميم سبع مرات؛ لتعبر عن ترنمها وهي تعيش الزهو المؤثل؛ لانطلاق حريتها بعيداً عن قيود العبودية .

ولعل الشاعرة نوره الحلاب بعقليتها المتنورة ورفضها للكثير من حالات الاضطهاد القسري لاسيما اضطهاد المرأة من قِبل الكثير من الرجال في عالمنا العربي ومردوده السلبي، آثرت إلا أن تعلن راية التحرر أمام سيوف الذل ونوازع الاستلاب .

أما قصيدتها الأخرى (غنج ودلال) تصف فيها شاعرتنا المرأة العصرية التي صارت اليوم مدعاة غنج ودلال، وهي تتبختر؛ لأنَّها نالت استحقاقها في تقاسم الرجل الحياة، كما أنها تمارس دورها في جميع حقولها لاسيما الشعر الذي صارت فيه تجاري الرجال، إذ أصبحت تلتفت إلى أشعارها القلوب وترفع لها هاماتها الأكوان وتنحني لطلَّتها القوافي، فنراها ترسم بأشعارها شعورها البهيج بحسن العبارة وروعة الأحاسيس، لما تعيشه المرأة اليوم معبِّرة عن لسان حالها بقولها:

على جسر القصيدة

أتبختر أنا

حافية القلب .

حاسرة الفكر

والنبض

والشريان .

فرحي بهامة الكون،

لا تحنيه ثورتك

ولا يؤجّل أعياده

جنون غيرتك .

أتبختر أنا

على جسر القصيدة؛

ولهدو خطوي

تنحني القوافي

ويجلجل خلخال

الحروف !

إذ رسمت الشاعرة للقصيدة جسراً، والجسر يمثل مظهراً من مظاهر الحضارة الحداثية، بينما هي تتبختر حافية القلب، ولعلها تفاجئنا بالمفارقة الأسلوبية، وهي العنصر المحوري في العمل الفني، فالحافي حافي القدم، لكنها أشارت إلى القلب؛ لتوحي لنا أنْ لاهموم تنتابها ولا أحزان، فقد خلا القلب من الاكتواءات التي يمكن أنْ تنتابها في حال من الأحوال، كما نراها حاسرة الفكر والنبض والشريان؛ كناية عن إزاحتها هموم الحياة ومنغصاتها بل وخرجت من المغارة إلى عالم الأفكار الخالد (5)، ومما لايجعل الشعور أسيفاً، فهي تعيش حالة استرخاء طالما هاجسها الشعور الندي والفكرة الطامحة والرقة الشفيفة بدلالة الألفاظ: (اتبختر) التي وردت مرتين، و (فرحي، هدو، تنحني، يجلجل) وجميعها تدل على السرور والانتشاء والاحساس العذب بتفوق المرأة العصرية الشاعرة بفكرها وانتصارها لمطالبها في الارتقاء نحو ذرى الحرية، إذ لايثنيها اهتمام المحبِّ ولا جنون غيرته، فما عاد هو من يلقي بشباكه؛ ليصطاد من يهوى، بل هي من تصيغ حياتها بكبريائها وبجمال إحساسها الذي تعبِّر عنه من دندنة خلاليل حروفها اللافتة الجمال.

 

بقلم د. رحيم الغرباوي

.......................

(1) ينظر: دراسات في الشعر والفلسفة، د. سلام الأوسي: 90

(2) في النقد الأدبي الحديث، د. فائق مصطفى: 14

(3) ينظر: الوعي الجمالي، د. هيلا شهيد: 252

(4) في النقد الأدبي الحديث: 15

(5) ينظر: عالم صوفي، جوستاين غاردر: 115

 

في المثقف اليوم