قراءات نقدية

سموّ اللغة ـ فلسفة الرغبات

427 كتاب السيرةقراءة في مجموعة: السيرة للشاعر نصر سامي

(اذا كان لابد من وجود فلسفة للشعر. فعليها ان تظهر وتعيد الظهور من خلال شعر ذي دلالة. عبر التزام كلّي بالصورة المنعزلة . وحتى نكون اكثر دقة فأن ذلك يجب ان يتم في لحظة الانتشاء بطزاجة الصورة)**.

تعرف مفردة (السيرة) بأنها سرد لتجربة حياة شخص ما، وعادة ما تكون معبأة بأدق التفاصيل التي مرّت بحياته الشخصية. وحينما يريد السارد ان يحدد معالم سيرته لا بدّ ان يضع له أسساً ودلالات، كي يبدأ منها بالسرد، مثلما يفعل الرسام في تحديد إطار لوحته، يقيس أبعاد الزوايا ثم يختار الألوان وغير ذلك، لكي ينفذ لوحته، ويوضح ما أراد ان يقوله من خلال مزج كل الأشياء المستخدمة في فراغ اللوحة، من ألوان وأفكار وخطوط، وها انا الآن امام (السيرة) اللوحة الفنية المتكاملة التي رسمت بالكلمات، وحتى اشرع بالكتابة عنها، وجدت نفسي أعيد قراءة كتابي (نادياـ بيانات للسوريالية) لأندريه بريتون وكتاب (عملاق ماروسي) لهنري ميللر. ولا أدري ما الذي احالني اليهما ثانية، تزامناً مع حصولي على نسخة من (السيرة)، هل هو المؤثر القوي الذي اجتاح ذهني وأجّج ذاكرتي في استرجاع ما قرأت من كتب التمرد والرفض؟ أم هو رقيّ الشعر فيها؟ الذي اتسم بقدرة عالية حملت ثورة وتمرداً عاليين على المنجز الآني، قرّبته من مدار أفق الابداع العالمي والحصول على موطئ قدم في أرض الشعر الخصبة الدائمة الخضرة .

(نبدأ من الموت تماماً كالأرواح) ص 10 المقدمة. هل هي سلبية متعمدة، أم ايجابية بحتة ؟ تلك التي دفعت الشاعر الى الاعلان عن الموت، في اول جملة تصادفنا ونحن نبدأ التوغل في حقول (السيرة) المجموعة الشعرية المائزة بهندسة ذكية جديدة على صعيدي المحتوى والبناء. لسان الخطاب هنا ليس فردياً بل هو صوت لجماعة واعلان لبدء ولا أعرف من تكون هذه الجماعة التي بدأت ثورتها البلاغية المشحونة، بهجوم غاضب واستهزاء بتأريخ من أسماهم الشاعر بأصحاب (البنايات الغوطية التي توهم بالعظمة) ص 10. ان صوت الشاعر جاء ليمثل وحدة جماعية، تريد طرح قضية ما على (جماعة مسكونة بالأرضة وروائح الأجداد العطنة) ص 10. وقبل ان أدخل في التفاصيل أود ان اوضح نقطة هامّة وهي تسمية (الأجداد) فكلما ذكرت هذه المفردة تلتها كلمة (العظام)، فنقرأ (الأجداد العظام) وهذا ما نلاحظه دائماً، مهما اختلفت مصادر الكتب التي نقرأها، بمعنى لولا الأجداد العظام لما كانت للشعوب حضارة وقيم وإرث فكري، تستمد منه الأجيال العلوم والآداب، بغض النظر عمّن يكونوا هؤلاء الأجداد، في الشرق أو في الغرب، أعني بأن لكل أمة حضارة وشيئاً من التأريخ المضيء تعتز به، فمفردة (عطنة) لا تليق أبداً بالأجداد، الا اذا كان المقصود أولئك الذين زيفوا التاريخ بكتبهم التي اججت الفرقة بين الشعوب أو من ساعد في نشر حكايات اتخمتنا بأكاذيب لرفض الآخر باعتبارها نصوص موثوقة لرجال دين مثلاً، وبهذا المعنى يؤكد الشاعر رفضه وعدم انتسابه الى هؤلاء الاجداد.

من خلال المقدمة الخطابية المتوهجة بخليط من الشعر والفلسفة والسوريالية، نرى انفسنا أمام بحر هائج غير مستقر، من مفردات تنقلنا مرة الى حقول خضراء مثمرة هادئة تعانقها اقماراً تتلألأ في ارتعاش صفحة السماء، وأخرى تزجّ بنا في غياهب شقوق حجرية ملتهبة بآثار الدماء والعطش والجوع، ومحارق ارواح ابدية.. فنجد انفسنا ننساق نحو عالم من اللغة والغموض، نتعرف فيه على أسرار ومخابئ من الرؤى ووجهات النظر، والتفنيد لنظريات قديمة، مرايا متعددة تعكس الصور نفسها لحياتنا اليومية، لكن بأشكال مختلفة وزوايا جديدة، كالدعوة للإنشداد الى قواعد الصنعة واتقانها، والى تحرير الفكرة من محمولها الواقعي والاستمرار بالتجريب، وعدم غلق النوافذ امام الغير وعدم الانطواء (نطلع القدر من منابته ونكرّره وننوعه ونظلمه ونلاحقه. فلن يحبه احد مثلنا. ومن اجسادنا نطلع الأبد ونبدأ المعرفة. وسيغفر لنا القدر كل هذا الحب) ص11 المقدمة. تستمر الدعوات من قبل الشاعر على مدى أفق المقدمة، لترسيخ أسس جديدة للكتابة، حسب ما يتضمّن مفهومه في التركيز على : (نفي المعلوم وايجاب المجهول/ الغاء الحدود بين الأجناس الأدبية/ الزمن الثقافي بدل الزمن الشعري/ استبدال مقولة الفهم بمقولة التأمل "تعدد المعنى"/ اعتبار القارئ منتجاً لا مستهلكاً) ص 20. بهذه الأسس افهم أنا القارئ بأنها دعوة الى الغاء المفهوم القديم. انه قرار في غاية الجرأة، يضع الشعراء المحدثين امام فوّهة مدفع النقاد، ودارسي الشعر، وربما يحدث انفجاراً هائلاً من أثر التصادم الناجم بين أسس وقواعد النقد من جهة، وبين اشكال ومضامين النصوص الجديدة، فليس هناك انجذاب دائم ولا تنافر مضطرب، بل هناك حد فاصل بين حصانة النص الشعري الجيد، اقصد من ارتكز على جذور ومنابت واضحة، وبين الشعر الرديء، أي ليس كل من ثبّت بعض المفردات وركّب بعض الجمل قال هذه قصيدة حديثة.

يسعى الشعراء المحدثون الى بلورة نظرة مشتركة في ما يطرحونه الآن على الساحة، من خلال الرغبة في التجريب لتحطيم الشكل القديم، والبحث عن شكل آخر اكثر حرية، مثلما ظهرت في يوم ما قصيدة الشعر الحر، كثيرون هم الذين يساهمون اليوم ويبدعون في كتابة القصيدة الحديثة، لكن السؤال الذي يطرح دائماً هو: بماذا تمتاز القصيدة الحديثة ؟ هل هو التفنن من ناحية الشكل / الغاء القافية / الغاء ضبط العروض/ التداخل السريع والمستعجل في صياغة النص / حب المغايرة للتنبيه فقط وابراز صفة أخرى للكتابة / الارتقاء لمستوى عال من الشعرية / ؟

ان القارئ يعي الكثير من النقاط التي تعنى بأفق ما يُكتَب اليوم، وما يطلق عليه بالحداثة، وينتبه الى ان ثمة اثارة دائمة للجدل غير منتهية، بخصوص هذا الموضوع، فالرغبة في التجديد قائمة ومستمرة استمرارية الأدب عموماً، والتغيير للخروج عن الأنماط الموروثة دافع دلالي على كافة المستويات، فعندما ظهرت قصيدة النثر لم يتم الغاء الشعر الحر، الذي حطّم من قبلها القافية والعامود، وظهر بشكل مغاير ومضاد لما قبله، ان هذا ينطبق على الساحة الشعرية العربية، لأن أوربا سبقتنا ومنذ زمن بودلير في كتابة قصيدة النثر، والآن وفي خضم الابداعات والأنماط الجمالية التي تشهدها الساحة الأدبية ونتعايشها كل يوم تباعاً، ثمة ولادة جديدة وانتاج حديث لقصيدة تواكب تطور العملية الشعرية، ولا تقتصر على اسلوب أو شكل معيّن، بل هي مؤشر على خلق إبداعي اكثر حرية، انها: التجلي/ صوت الشاعر/ فضاء النص/ الاسلوبية/ المقدرة اللغوية/ جرس الكلمات/ الحضور المكثف للتأثير/ تلقائية التعبير/ التركيز/ السعي والاهتمام بالصياغة.. وهذا ما سعى الى تحقيقه الشاعر نصر سامي في (السيرة). (وفي هذا الطواف سنطالع العالم بنص مختلف ولغات مختلفة وحساسيات جديدة) ص 10. (عندما يسألني النقاد عن الآخرين اقول لهم، انهم داخلي، وعندما يسألونني عن العالم أجيبهم هذا هو العالم: انه أنا ،انظروا الى وجهي، انني مرايا العالم) ص 12 المقدمة.

استطاع الشاعر ان يكثف في اختزالاته العديد من الصور ليس من السهل اختراقها، لكننا نراه في بعض استرسالاته الطويلة يقع في المباشرة، وبرغم ذلك يظل مصرّاً على ابهار المتلقي بذات الفكرة المعروضة، إذ يحافظ على فرادة وخصوصية قصيدته، وطريقة استخدامه للشكل، ويتبادر الى الذهن سؤال : هل هو قلق الشاعر ازاء ما يُنشَر الآن دعاه الى انجاز مثل هذه المجموعة النارية ؟ أم من اجل ازالة حجر العثرة الذي اعاق تقدم الشاعر في ميدان الشعر؟ فقصائد نصر سامي ليست مجرد ضرب من التجريب نمرّ به مرور الكرام، بل محطة ينبغي علينا التوقف عندها طويلاً للتأمل والبحث، والارتواء من منجز حداثوي، اكتمل بحرية الشاعر في استخدامه لمستلزمات جميع العناصر، التي احتوتها تجربته الابداعية، وربما قال البعض ان الشاعر في بيان المقدمة أراد ان يلفت الأنظار لا غير، نعم وليكن ذلك، لكن الأهم من هذا هو سلطة النص الشعري الذي قدّمه بمقارنة أو بدون مقارنة مع ما ينشر هذه الأيام، لقد استخدم الشاعر عدة قنوات للاتصال من خلال طرح اسئلته الفلسفية المثيرة، وكأنها اعلان العصيان على الموروث مبدأ (الشك/ الجدل) الوصول الى الحقيقة الكامنة وراء بلاغة ثورة اللغة المستخدمة، وبذلك نراه قد رسم صورة ذات وجهين، أحدهما له والآخر للقارئ، ربما من أجل "توضيح التباس القصد" أو من أجل تأسيس وبناء اسلوب متعمّد في عملية الكتابة: (لا اصرخ مثل غيري، جميع الترتيبات مستهلكة! ولا افرط في السوداوية. ما أؤمن به ان جيلاً جديداً أعلن العصيان والخروج من دوائر الموت بحثاً عن كتابة جديدة تهزأ بالموجود) ص 17.

ففي جل قصائده وخاصة في بيان المقدمة الرائع اعتمد الشاعر على الصراع والتصادم في طرح افكاره، فلم يجد نفسه مقيّداً تجاه ما أراد تحقيقه، اعتماداً على اللغة كمادة أساسية للخوض في غمار تصاعد موضوعه الرئيسي، مما يوحي بخزين كبير من قراءات ومراجعات لم تأت من فراغ، بل من فيض ذهني ارتوى على مدى سنين طويلة من أمهات الكتب، وحانت الساعة لكي تنبثق هذه الرائعة (السيرة)، انها حالة خلق ما يراه الشاعر، وليس ما نراه نحن القرّاء..

الأفكار/ الكلمات/ الصور/ الأخيلة/ تصادم وتباعد/ ضيق وانفراج/ لمسة خفية للبقاء على ذات الوتيرة المتأججة بنضوج القصيدة، نجد استعراضاً كاملاً لمشاعرنا تجاه الحياة التي نحياها في التباس مستمر وشك في الوجود! لقد أراد الشاعر في الجزء الثالث الاجابة والتوضيح لبعض النقاط، كما في قوله (دحضاً للأوهام المتعلقة بفهم الجزأين الأولين) ص 9 . وللأسف لم أحصل على الجزأين الأولين لكي تتكون لدي رؤية كاملة وموسّعة لتجربة الشاعر، فاكتفيت بقراءة (السيرة) التي ولّدت انطباعاً ايجابياً كبيراً عمّا قام به من جهد جهيد لامسناه في عملية الانجاز، فحين نتأمل (السيرة) كعنوان مع بقية عناوين قصائد المجموعة، نلاحظ مراناً خفياً بين العناوين والأفكار المضفورة بإتقان، اتّسم بروح وقدرة حيويتين في خلق مقدمة ذكية تسهّل من عملية الدخول للنص، الأمر الذي يحيل الى تأويلين (باطني ـ ظاهري) في عملية انتقاء العناوين، وكلا التأويلين ينقلان لنا صوراً عديدة تظهر للعيان، لتحدّد معالم ما أراد ان ينتجه الشاعر من خلايا الشعر، وفق بناء ربما نراه في القراءة الأولى معقّداً لكننا في القراءة الثانية سوف نكتشف العكس.

(ثمة رعب يستعمر فينا قلق الكلمات. ثمة موت يسكن اعماق الكائن. ثمة نار باردة تتسقط اخطاء الماضي. وثمة ايضاً الأوهام، نعم الأوهام تلك الفاعلية المولدة التي اكتشفناها في واقعنا) ص16 المقدمة.

(لم يتركوا قمراً لأكتب ما أريد

لم يتركوني دافئاً كمحادثة

كلما فكرت في قمر جديد

كفّنوه

وألبسوه الكارثة) ص31 قصائد الشهور.

ان تمجيد اللغة افاد من قوة التعبير وشد القارئ، وكذلك تعدد الثيمات الذي لوحظ في اكثر من نص، وهذا يشكل قفزة نوعية لدى شعراء معدودين، وفي (قصائد الشهور) نلاحظ ان القصيد مقسّمة الى نصفين أعلى وأسفل وقد ميّز بينهما لون الخط، وكل نصف له موضوعه الخاص به، ولكن انتباه ووعي الشاعر جعل وحدة الموضوع العام هي الرابط الروحي في كلا النصفين، والقصيدة في جزئيها عبارة عن خطاب موجّه الى امرأة، فيه الكثير من الصراحة والاعتراف والذكريات والقلق، بأوجه متعددة، من أجل منح الفراغ لباساً يخفي ما حصل من سوء فهم بين الحبيبين دون معرفة الآخرين.

(لم ارتكب ذنباً سوى حب الذهاب الى نساء اخريات

فحاولي ان تتركيني

ولتقسمي ان ازعجتك عيونهم

اني صديق صديقتك

واني كنت أقرأوها السلام) ص30 قصائد الشهور.

انفرادية الذات في المواجهة وتحقيق الغايات (الحلم، الحقيقة) (الحلم، الأمنية)، السطور تستمر ملتحمة بفضاء النص، من خلال تعدد الصور، التي كوّنت عالماً متنوعاً جذاباً متماسكاً، عمل على اثراء النص ونهوضه بمستوى نراه ينطلق عبر مديات أفق الشعر الحديث، مجازفاً في تحليقه، سواء في استخدام الموروث الاجتماعي أو الصوت الرومانسي الضاج بالتساؤل والشك، وهذا ما طغى على اغلب القصائد، يبث الروح السابحة في دنيا الرّب، الروح، الجسد، العقل (ماذا يريد الله من لغتي/ وقد اعطيتها سنوات عمري) ص33. يستنهض الشاعر كل ذلك ببسالة للدفاع والرفض والهجوم، وأعتقد ان هذا كله جاء من وراء قصد مبيّت، أراد به ان يثير موجة من الجدل، ربما ، أو اطلاق ما هو جديد لديه ليحتل كتابه مكاناً مرموقاً بين الاصدارات الشعرية الحديثة، فقد مازج بين الشعر الحر والنثر، محاذراً في ان لا يظن المتلقي بأن هذا المزج في الشكل فقط دون ان يكون له ما يبرره في التوظيف الثيمي، والتنقل بحرية من مشهد الى آخر، بالعكس فإن الشاعر اعتمد على ذلك من اجل ابراز سمة خاصة في شعره الذي نحتاج فيه الى اكثر من قراءة لمواجهة الرموز والطلاسم الحصينة التي تواجهنا، كدروع رافضة لكل ما يطرح من حديث عن الشعر، وقضايا حياتية وأدبية اخرى في تسجيل لمحات مباشرة وغير مباشرة، سواء للحاضر أو للماضي البعيد جداً، انها رؤيا شاملة يسنّها نصر سامي في سيرته الذاتية .

(وفي احد الأيام

وكنا نختار عناوين كتاب السيرة هذا

ابصرت شبابي

يسّاقط

في الأوراق البيض وحيداً اجرد !

ورأيت المرأة تلك المرأة تفتح

في اللامتناهي الصبح

وترسل نحوي طفلاً أسمر يشبهني!) ص36 قصائد الشهور .

لعلّ القارئ يسأل بعد هذه القراءة هل هذا هو الخروج عن المألوف في الكتابة الجديدة ؟ سأترك الاجابة لنصر سامي في قصيدته (هي ذي عربات اللغات القديمة) حيث يقول :

(يحيا وفي الكلمات ترى رعشة البدء والخاتمة

يحيا وبالكلمات يرى عطش الرغبة النائمة

وحيداً يحتاج في آخر الليل ناي اللغات

البعيدة والعطر والعشق والصبوات

ويحتاج شدّ البروق الى صاريات الحياة

ويحتاج ليلاً من الوجد يحياه

ان شرّدتهُ رياح اللغات) ص 68- 67 .

هو ذا نصر سامي مولع حد الجنون في اكتشاف ما هو جديد وان شرّدتهُ رياح اللغات .

 

نبيل جميل – العراق / البصرة

.............................

* كتاب السيرة المعروف بعربة لخيل الأساطير / صدر عن دار الإتحاف للنشر عام 2001 / تونس .

** غاستون باشلار ـ جماليات المكان ـ طبعة دار الجاحظ  للنشر ـ بغداد 1980 ـ ترجمة غالب هلسا.

 

في المثقف اليوم