قراءات نقدية

مخالب الرغبة.. رواية نهرية متعددة الأصوات

عدنان حسين احمدصدرت عن دار "نقوش عربية" بتونس رواية "مخالب الرغبة" للشاعرة والكاتبة العراقية نادية المحمداوي وهي الرواية الأولى في رصيدها السردي، وقد سبق لها أن أصدرت مجموعتين شعريتين وهما "الصعود إلى مجرّة أين" و"أنهم يطلبونني فأراك". وقبل الهاجسَين الشعري والروائي كانت نادية منهمكة في العمل الصحفي في أوائل التسعينات من القرن الماضي، وكنت أعرفها من كثب، وأتفهم تطلعاتها في الذيوع المبكر، وحُب الشهرة الأدبية. وعلى الرغم من نضج أحداث هذه الرواية على نار هادئة إلاّ أنها لم تسلم من هفوات العمل الأول الذي يتعلق بالحبكة، وبناء الشخصيات، وتطوّر الأحداث، والنهاية الفنية التي يمكن أن يصدّقها القارئ ويقتنع بها حتى وإن كانت غرائبية أو تنطوي على لمسةٍ فنتازية تأخذه إلى مضارب الخيال المجنّح.

تنتمي "مخالب الرغبة" إلى تيّار الرواية الواقعية النقدية ولا تتعداها إلى المذاهب الأدبية الحداثية أو ما بعد الحداثية، ولو شئنا الدقة لقلنا إن هذا النص السردي هو نص كلاسيكي بامتياز يعتمد على البنية التصاعدية، والزمن الخطّي، والشخصيات التي تنمو على مدار الأحداث المحتدمة الأمر الذي حرمنا من الاسترجاعات والاستعادات الذهنية التي ترتدّ بنا إلى ماضي الشخصيات الرئيسة، كما جرّدنا من الاستباقات والتصوّرات التي يمكن أن تقع في المستقبل فظلت الرواية تتحرك في الزمن الواقعي الذي يتطابق مع الزمن الروائي الذي بدأ في أواخر العهد الملكي، وولادة الجمهورية الأولى، وانتكاستها المبكرة على أيدي البعثيين الذين لم يكملوا عامهم الأول في سُدة الحُكم ثم أعقبهم القوميون الذين تناوبوا على السلطة قبل العودة الثانية "لجمهورية الرعب والخوف" التي عسكرت البلاد وزّجت بها في أتون حروب متواصلة أنهكت البلاد والعباد معًا.

رواية نهرية

يمكن وصف هذه الرواية بأنها "رواية أجيال" أو "رواية أزمان" لأن تنطوي على أربعة أجيال وأربعة عهود وهي العهد الملكي والقاسمي والقومي والبعثي الأكثر ضراوة من العهود السابقة برمتها. كما يمكن تسميها بـ"الرواية النهرية" Le Roman-Fleuve بتعبير الناقد والمفكر الفرنسي رولان بارت حيث تمتدّ الرواية مثل نهر طويل جدًا يمتلك عددًا من الأفرع الجانبية التي تغذّيه ثم ينتهي به المطاف الأخير إلى البحر.

ما يلفت الانتباه في هذه الرواية أنها جمعت بين الريف والمدينة قبل أن تنفتح على الفضاء العربي المتمثل بالقاهرة وشرم الشيخ. والمعروف أن الرواية تنتعش في الفضاء المديني وتحتضنها في الأعمّ الأغلب الطبقة البوجوازية المرفّهة إضافة إلى الطبقة المتوسطة التي تمدّ النص الروائي بمعظم شخصياته الإشكالية. ولو تتبعنا رموزالجيل الثاني في هذه الرواية لوجدناها تتمثل بخمس عوائل رئيسة تشكّل فيها عائلة قاسم سرهيد الجزء الأهم من هذه العوائل التي تتحرك على مدار النص السردي الذي سيقترن أول الأمر بأسماء الأولاد الثلاثة وهم محمد وحسن وفضيلة، أبناء قاسم سرهيد، قبل أن يتوسع ليشمل عائلة شياع العطّار، وعزيزة، إضافة إلى شخصيات وعوائل هامشية أخرى مثل رحيم وكريم أبناء زبون العطيّة، وسلوى عبد المجيد، والمرأة العرّافة وغيرها من الشخصيات تلعب دورها ثم تتلاشى ضمن اندياحات النسق السردي للرواية.

تعددية الأصوات

على الرغم من أنها رواية كلاسيكية المبنى إلاّ أنها رواية بوليفونية متعددة الأصوات يتناوب على سردها شخصيات متعددة مثل محمد وحسن وشياع والمدير العام عزيزة من الجيل الثاني قبل أن ينتقل الرَوي إلى الجيل الثالث الذي يمثله فلاح وحسين وأيهَم الذين يحبون عزيزة بنت محمد القاسم ويربتطون بها بشكل من الأشكال. لقد أنقذت هذه التقنية البوليفونية الرواية من نمطيتها الكلاسيكية وقرّبتها بعض الشيء من الرواية الحديثة التي تنسف البطولة الفردية، ومهيمنات الثيمة الرئيسة، والتتابع الكرونولوجي للأحداث وما إلى ذلك. لابد من الإشارة إلى بعض مقومات النجاح الأخرى لهذه الرواية هي قصص الحُب التي انبثقت مثل المفاجآت الغريبة التي تُدهش قارئ النص، فمحمد القاسم، الشاب الوسيم جدًا الذي ترك القرية وانتقل إلى ناحية "المسيعيدة" أول الأمر قبل أن ينتقل مع أخيه حسن وبعض أفراد قريته إلى البصرة ويعمل في شركة الموانئ العراقية، ويقع في حُب عزيزة، المدير العام لهذه الشركة هو نوع من المفاجأة على مستويات متعددة، فهو فلّاح بامتياز، وعمل بائعًا للمواشي، ثم تحوّل في رمشة عين إلى موظف في شركة الموانئ، وسقط في حب المدير العام، عزيزة رغم الفوارق الطبقية والاجتماعية والثقافية بين الحبيبين، وقد ذهب في هذه العلاقة العاطفية الحميمة إلى أقصى مدىً لها رغم الأقاويل التي يرددها الناس في كل مكان. ويبدو أن عزيزة أدركت مبكرًا بأن الجمهورية الأولى في خطر وأنّ منصبها قد بات مهددًا فنصحته بتقديم عريضة والانتقال إلى بغداد خصوصًا وأن أوضاعه المادية قد تحسنت وصار بإمكانه أن يعيش في العاصمة عيشة مريحة لا تهددها المخاوف الاقتصادية. قبل أن نطوي صفحة المدير العام عزيزة التي اقتادها الرجعيون والمتآمرون على حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم إلى جهة مجهولة. لابد من الإشارة إلى أنها أحبّت ابنة محمد الصغيرة التي أسماها عزيزة تيمّنًا باسمها، وأغدقت عليها الكثير من الهدايا، وتوقعت لها مستقبلاً زاهرًا.

هيمنة الموت

يبدأ الجيل الثالث بعزيزة، الفتاة الذكية الجميلة التي زُوجت من دون إرادتها إلى ابن عمها فلاح حسن الذي يكاد يكون نقيضها في كل شيء، فهي تحب الدراسة، وتصميم الملابس، بينما يلهث هو خلف الأموال والمقاولات، وكان ينازعه في هذا الحب ابن عمتها حسين علي البرهان الذي أصبح ضابطًا واستشهد في القاطع الجنوبي في أثناء الحرب العراقية- الإيرانية. أما المفاجأة الثانية فتتمثل بتعرفها على أيهم شياع العطار الذي كانت تسمع عنه بأنه مصمم ناجح ولديه مكتب معروف أسسه بعد انتقال عائلته إلى بغداد. ومثلما لم يجد محمد القاسم صعوبة في الولوج إلى فراش عشيقته عزيزة، لم يواجه أيهم شياع أيّ مشقّةٍ تُذكر في ممارسة الحب مع عشيقته الشابة عزيزة التي كانت على ذمة رجل آخر وقد أنجبت منه ولدها البِكر مأمون، ثم توالت عليها المفاجآت حينما اكتشفت أن أيهم شياع متهم بدعوى ناموسية رفعتها ضدّة فتاة تعمل في الشركة ذاتها، فإما أن يتزوجها أو أن يُودع في السجن. وبما أن عائلة الفتاة المُغتصَبة لم تتنازل عن الدعوى فقد وجد أيهم طريقه إلى السجن لتصدمنا المفاجأة الجديدة التي تكشف عن إصابته بمرض في الدماغ يفضي به سريعًا إلى الموت فتستعيد ذكريات رحلتها معه إلى القاهرة وشرم الشيخ صحبة زميلته الجامعية سلوى عبد المجيد، كما تتذكر نبوءة المرأة العرّافة فبدأت تُحصي أمواتها، عمّها حسن القاسم فارق الحياة، ابن عمتها حسين البرهان، استشهد في القاطع الجنوبي، أيهم قتلهُ السرطان، سلوى ماتت هي الأخرى موتًا رمزيًا قبل أن تموت عزيزة غرقًا ويعثرون على جثتها الطافية على سطح البحر في الجانب الآخر من المنتجع.

خلاصة القول لا يستطيع القارئ أن يأخذ العلاقتين الجنسيتين على محمل الجد، فكيف استدرَجت عزيزة موظفها الوسيم، وأسقطتهُ في فخّ الخيانة الزوجية غير المبررة؟ وبالمقابل كيف استسلمت عزيزة، الشابة الجميلة المتزوجة لأيهم شياع بهذه السهولة وتركته يعبث بمفاتن جسدها الغض وروحها النقيّة المرهفة؟ هذا النمط من العلاقات العاطفية القائمة على الشهوة يحتاج إلى ما يبرره منطقيًا كي يتقبله القارئ كنصٍ أدبي وليس كحُزمة أخبار تقريرية متواترة تنقل الرواية من فضاء السرد المحبوك إلى النَفَس الإخباري الذي يتشظى في كل الاتجاهات ولا يُعير وزنًا للوحدة النصيّة المُتضامّة.

 

عدنان حسين أحمد

 

في المثقف اليوم