قراءات نقدية

العودة إلى جذاذات آدم قراءة في قصيدة زمن الحلم للشاعرة منى عثمان

رحيم الغرباويالشعر يمثل المظهر الجمالي لوجود الأمة شأنه شأن الفنون الجميلة، فهو فن شمولي يشتمل على ما هو نفساني وأسطوري، وما هو وجودي وما هو ديني واقتصادي واجتماعي (1)، كما نَّه: (فرارمن المظهر إلى الحقيقة المثالية، وهو الطريق إلى الخلاص من إرادة الحياة، إذ ننعم خلال التجربة الفنية بضرب من السلام النفسي العميق نتيجة لترقي الذات الفردية الى مستوى الذات الخالصة المتحررة ...، والمعرفة الجمالية الحقة لاتتم بدون التحرر من الإرادة الفردية والاستغراق في المعرفة الخالصة) (2)، ولما كان الإنسان يعيش في فوضى الواقع يؤثر اليوم أن يتجرد من واقعه إلى عالمٍ أنقى وأطهر ولا مناص من أن يرى عالمه خارج زمن الواقع على الرغم من تعكزه على الزمن الدنيوي، فهو يثابر في طرح إرادته وما تستشعره ذاته للخلاص من كل مايعكر صفوه، ويعرّض حياته إلى دهماء الواقع المقيت، ذلك ما يستشعره الشاعر المعاصر، وهو يعيش الاغتراب النفسي والروحي من عالم أفرط بالماديات، و غفل عالم الروح الرحيب، لكنَّه النص يبقى يقاوم من أجل جماليته مهما كان حجم المأساة في الموضوع بوصفه كشفاً وتخطياً وتجاوزاً وإيطاء أرض غير موطوءة من قبل؛ مما يبعث بجدَّته على الدهشة والطرافة .

ولعل من وسائل الترويح عن النفس هو الشعر؛ كونه يخترق عوالم خارج نطاق الواقع عبر الخيال؛ ليرسم أجلى وأرحب صورة؛ لأن الروح الشاعرة هي من تختار عالمها في البحث عن كمالاتها؛ لذلك نجد الشاعر يعيش الحلم أو حالة تشبه نشوة السكر أو عالم الجنون الذي لايستشعر صاحبه ما يدور حوله  فيعيش نوباته بعيداً عن الواقع.

كما أنَّ الشعر يتصف بصيغة الفعل الإنساني والفعل هو تعاقب، والتعاقب حركة، والحركة زمان، فهو فن زماني  كما يرى لسنج، فنراه لدى الشاعر يتجه في كثير من حالاته نحو قضايا الوجود الإنساني، وهو يعالج مشكلاته ويطرح قضاياه وما ينتابه من تحديات ومواجهة للأحداث وطرح مشكلة الزمان والحرية ومسائل أخرى تعج الحياة بصراعاتها من أجل الوصول إلى راحة الإنسان، وقد تكفل الأدب حمل هذه المهمة .

والشاعرة المصرية منى عثمان وجدناها في قصيدتها (زمن الحلم) تسوح من أجل التوحد والخلاص من الواقع مستعملة الأفعال لاسيما أفعال الأمر التي تحمل دلالة المستقبل؛ لتبين مدى اندفاعها تجاه الجوهر الحقيقي الذي يمثل لها الخلاص من الواقع المتهرئ من خلال دعوتها إلى التحرر من أدران واقعها وتمسكه  بالمادي بعيداً عن الروحي والمقدس الذي تروم السفر إليه؛ لتقيم في ذاتها اطمئنانا وجودياً، فهي تقول:

قالت:

خبئني فيك،

في أصداف اللؤلؤ بين ضلوعك،

في أعشاب الشوق برئتيك .

خبئني بكفيك

في يدك اليمنى،

ازرعني حلماً

في يدك اليسرى !

هدهدني إليك

صفِّدني داخل عينيك،

لا تفلتني أبدا منك.

وبلغة متسارعة عجلى بتسارع أفعال الأمر التي أوردتها في النص: (خبئني، ازرعني، هدهدني، صفِّدني) وصيغة نهي (لاتفلتني)؛ لتحقيق رغبتها في الانضواء تحت رعاية من تناديه وبأسلوب الحكاية فأوردت فيه عنصري الزمان والمكان، إذ نرى الزمان مستقبليا، كون الأفعال لم تقع بعد، لكنَّها تحاول أن تجاريها بأملها، كما تورد لنا الأمكنة، (أصداف اللؤلؤ بين ضلوعك، أعشاب الشوق في رئتيك، في يدك اليمنى، ... اليسرى، داخل عينيك) ولعلها من خلال ذكر أهم جوارح الحبيب التي تتوق النزول فيها تروم التوحد به كونه آدم  وهي حوَّاؤه التي خلقت من جذاذاته؛ لتعود إلى أصلها الذي نُحتتْ منه؛ كي تعيش آمنه مطمئنة بعيداً عن الواقع المأزوم، ثم تقول:

فأنا كالريح وكالموج.

وأنا كالنجم إذا فرّ......

قيدني فيك،

فإني امرأة من موج......

تحملني إليك كل ضفاف الشوق،

فاحذر أن يجرفك العمق،

وإني امرأة كالريح.

فتشبه نفسها في تسارعها، وهي تتسابق مع الزمن بالريح باندفاعها وكالموج في قوة عزيمتها، كذلك هي كالنجم المتهاوي، فتورد الأفعال الزمنية لدلالة المستقبل أيضاً: (فرَّ المقترن بـ إذا وهي أداة شرط للمستقبل، وفعلا الأمر: قيِّدْ و احذرْ، والمضارع: تحملني و يجرفك)؛ لتمنح النص حركيته، ومن ثم نراها تصف تسارعها مع حركة الزمن؛ كي تنال بغيتها.

و تقول:

تشعل فيك رماد العشق

حيث النبضات بلا عمر

حيث اللهفات كما الخنجر

يندس بخاصرة الليل

خبئني بين الماء وبين النار

فأنا عصفور يهوى الأسفار

وأنا من زمن الأحلام أتيت

من بين سنين

حُبلى بالعصيان وبالصمت

من بين دروب منسية

من خلف الموت

أتيت

أشتاق الدفء بعينيك،

خبئني بين الهدب وبين العين،

أدخلني تحت جناح الحلم،

وسافر أنت مليكي

دفئاً في عمق وجودي !!

ولكي تمنح نصها جمالا؛ لتعيش أناقة الحرف وجمال الصورة؛ نراها تخلق  أجواءً رومانسية كونها المرأة الغريرة التي تبعث بنسائم أنفاسها، وهي تتلهف للتوحد بالحبيب، مستعملة الاستعارات والتشبيهات؛ لترسم لنا صوراً جلية تمثل رغبتها في تحقيق هدفها السامي، فضلاً عن أنَّها تحاول أن تمنح دلالة النص سر ديمومته الفنية، فتكشف من خلال صورها الشعرية المتفشية في النص عظمة الحب الذي مثَّل قوام قصيدتها؛ كون الحبيب يمثل الجوهر لها وكنف الراحة الأبدية، فنراها  تمنح نصها وهجاً من المشاعر الشفيفة تجاه عالم الفطرة المثالي المتجسد في ذلك الحبيب .

ولعلها بحركية أفعالها على الرغم من إثبات الزمن في الواقع من خلال سردها إلا أنها تحاول أن تتجرد من تلك المهيمنات إلى معنى آخر هو الانتفاض على الواقع والعودة إلى أصل التكوين خارج نطاق الزمن، وقد ذكرت عناصرالوجود الأربعة وهي: الهواء متمثلاً بالريح، والماء متمثلاً بالموج في المقطع الثاني، ثم في المقطع الأخير ذكرت الماء والنار مومئةً إلى عالمها الأثير بعيداً عن عالم الأعراض (الواقع) الذي صار وبالاً على أهليه .

نتمنى للشاعرة مزيداً من الإبداع الشعري الأنيق .

 

بقلم د. رحيم الغرباوي

......................................

(1) ينظر: في النقد الجمالي، د. أحمد محمود خليل: 12

(2) فلسفة الجمال ونشأة الفنون الجميلة، محمد علي أبو ريان: 139

 

في المثقف اليوم