قراءات نقدية

تراتيل الحضور قراءة في قصيدة (غائب) للشاعرة اللبنانية ميرفت عودة

رحيم الغرباويلعل الشاعر في كثير من قضاياه يمتلك الرغبة في مجافاة الواقع المضطرب بالأسى والألم من فداحة ما يُرتكب بحق الإنسانية من ظلم وجور؛ فيضفي على نصوصه معاناته؛ ليصوغها معاني، يبتعد بها عن الذاتية؛ ليمنح نصه عمقاً دلالياً بمقدار ألمه بل يضاعفه أنيناً على أنينه، أي أنَّ المعاني التي يصوغها الشاعر لنصوصه لاتكون " مجرد بناء لغوي، بل هو وعي متعالٍ أو ذات متعالية بمصطلح هوسرل بوصفها عملاً إجرائياً يتم الاستعانة بها؛ لتفادي الوقوع في فخ الذاتية المغالية كما أنَّ الوعي بحسب الفلسفة الظاهراتية ... هو وعي بشيء تقصده الذات أو ما يعرف بالعودة إلى الأشياء ذاتها " (1) ولعل الرؤيا هي من تسود النص؛ لتشع على الإنسانية رؤى الخلاص من الظلم والاستبداد الذي ما زال يفدح بالنفوس.

ولعل شاعرتنا ميرفت عودة استطاعت أن تجسد معاناتها وما يعتملها من صراع نفسي حاورت به الواقع الراهن الذي أساءت له كثيراً أيادي الغياب وهي تفرض سطوتها على واقعنا المعاصر؛ ليعيش العالم الفوضى الناجمة جراء زرع القلق لتشعر أنَّ إنساننا اليوم يواجه المصير المجهول، فنراها كأنها تخاطب رجلاً مغادراً يعيش في بحبوحة الأمان لكنها هي تعيش ويلات الأسى واختناقات الضرر الكبير الذي اجتاح حياتها اليومية فتقول:

(أنا هنا

أهيم بين الدروب

مُتعِب مابين الضلوع

أسيرة بين الشك واليقين

أين مَن كان السند ؟؟ دواوين وحكايات، تُصارع الأنفاس المهزومة، تجمدت معها الأطراف، تسربلت الجوارح خوفاً، صاغت مفردات سوداء، تنهمر معها العيون، بكل أنواع المطر ..!!)

فهي الهائمة في الدروب؛ لأنها تعاني حالةً القلق بسبب ما ينتابها من صراع داخلي، ولكون هواجسها متعبة وأفكارها مشوشة، فنراها تعيش مابين الشك واليقين باحثة عن السند ودواوين الشعر وحكايات التاريخ اللتين ترمزان الى القوة والسند اللذين تتوكأ عليهما، فنراها تستعمل الاستعارات والمجازات؛ لتضفي على معاناتها معاني أكثر بوحاً ومنها: (الأنفاس المهزومة، تسربلت الجوارح خوفاً، تنهمر معها العيون) فحينما تتجمد الأطراف هلعاً ستشعر جميع الجوارح بالخوف كون القلب هو من ينبض لجميعها، ويشير لها بما يعتريه ... أليس القلب هو مصدر الاحساس والمعرفة ؟ ولعل النبض المتوجع هو من يثير الأنفاس ويهزمها بينما الدموع تنهمر من فرط الحزن الذي يحتاش القلب من ذلك التوجع والأسى، ولعل وصف الشاعرة بهذه الدقة تومئ إلى فداحة الخراب الكوني للنفوس؛ لوقع المؤثرات الخارجية عليها .

ثم تقول:

إنطلق الآذان

تكبيرة هزهزت المفاصل

يشارك القلب إرتجافها

هلعاً من لعنة القدر

عيون الظلام

أرخت حبالها

ماعاد الليل ونيسا

توقيت الخامسة انتهى

لحن الغيوم تكاثف

مع فؤاد تعرى من الأمل

و الآذان الذي قصدته الشاعرة ليس آذان الصلاة الذي يدفع إلى السكينة والطمأنينة إنما قصدت المنادي الذي يسوق النفوس الضالة إلى الجحيم، وفيما يبدو أنها لاتتحدث إلا عن واقعها المقفل بالآهات، ولعلنا حين نؤوِّل من أجل كشف الغموض الذي يتلبس النص، ومن ثم بناء مفهوم جديد لاينفك عن مفهوم النص الذي بناه صاحبه؛ لكنه يبغي مقاسات جديدة ومعاني تُبنى على معاني النص التي عبرت عنها صاحبة النص نلاحظ تقارب الرؤيا بين المعنيين لكن القراءة تحلل وتوضح المضمرات التي يخفيها النص، إذ نجد إشارتها للقدر وكأنها تشرك القدر في الأحداث الجسام؛ وذلك من طريق الاستعارات:(عيون الظلام، لحن الغيوم، فؤاد تعرى من الأمل)؛ فقد صار الليل لديها موحشاً بظلامة؛ مما جعل فؤادها يتعرَّى من الأمل .

ثم تقول:

(الغائب يغفو بهدوء، دون خوف من التاريخ، نبضات تدق مصرع الذات، تُحدث الظلال الشاهدة، الجراح تموء بهدوء، تستجدي الضوء الصَّعود من غرة القمر ..!

غائب دون أعذار، يعد النجوم، وجرح أمراة يسيل، يغتالها حصاد، رصفه تشرين وآخر، تشتاق ذات القدر ..!!)

فالغائب يغفو ولايبالي من التاريخ الذي سيصرح يوماً بكل الأفعال الهامَّة، ومنها الجريمة التي لها بصمة الظلال، بينما الجراح تموء كمواء القطط، وهي تتوسل الضوء من القمر ويبدو العبارة مكثفة فـ (التاريخ والظلال والجراح والقمر) جميعها شواهد على جريمة الغائب مهما تخفى ومهما طال أمد غياب الحق، فأنه لابدَّ آتٍ ، أما دلالة أنه (غائب دون أعذار، ويعد النجوم) إشارة إلى أنَّه غير مبالٍ بجريمته النكراء التي منه ينزف قلب ضحيته تضوراً ووجعاً، بينما تشرين هو شهر خريفي يدلُّ على الذبول، و القدر هو ما يتحكم بسير الأحداث كما ترى الشاعرة، وكثيراً ما يقترن اسمه بالأذى والموت .

فشاعرتنا ميرفت تدرك بإحساسها المفعم بالحدوس، وهي ترقى بروحها الطيبة مبصرةً بواطن الأشياء ومستبطنة مكنوناتها؛ لذلك نراها تحدس بما يحيط الواقع من تناقض لما ترومه؛ كون الذات المبدعة تظل " نقيضاً دائماً ملازما لواقعها بما هو واقع مرئي ثابت لايتغير ما ضاعف لديها الشعور بالقصور وضيق الرؤية وهذا أفضى بها إلى البحث عن ملاذ روحي تعوض به إحباطاتها وانهزاماتها وإخفاقها " (2)؛ إذ نجدها تبثت لومها على القدر الذي جعل نهاية مطافها تعيش الأسى من غادرٍ غائب عن أنظارها فأشركت أسباب تعاستها منه ومن القدر .

 

د. رحيم الغرباوي

.....................

(1) الهرمنيوطيقا والفلسفة، د. عبد الغني باره: 342

(2) معارج المعنى في الشعر العربي الحديث: 120 .

 

في المثقف اليوم