قراءات نقدية

"طقوس المكان" لبادر سيف.. شعرية حياة موازية

احمد الشيخاويفي ديوانه" طقوس المكان" للجزائري بادر سيف، المعروف بغزارة نتاجه الشعري، يذهب بنا إلى عوالم، أقل ما يقال عنها أنها تجديف في بحبوحة الوهم المدغدغ اللذيذ.

معجم سيف في مجمله من المعيشي واليومي الطافح بمعاناة الكائن، ومكابداته، بدء بأولى قصائده المفجّرة لأوبئة مجتمعية عديدة، وتجوالا في محطات الكينونة الهامسة، الملغومة على امتداد رفع الصوت الشعري، وتسريع إيقاعاته، عبر تلوين المنجز بقصائد انقلابية، تمتح من عنكبوتية تداخلات الهواجس والانشغالات، مابين الذاتي والمشترك الإنساني والكوني.

بحيث تكتسي تجربة سيف رائد الشعرية، طابع الفرادة والاستثناء، من طاقة الذات المبدعة القادرة على التوغل في الجرح الإنساني، ملامسة صميمه.

من خارطة بوح ينساب ويتدفق بعفوية، دونما كلفة، أو إسفاف، ليغازل المتلقي بجدّة المعنى وثراء المشهدية والصور، وعمق الرؤى وتنويعات الايقاع.

استهلالا بنص" بوح لزند المعنى" والمتلقي يتوهّم معه، موقع سقوط الطلقة، بوص الكلمة رصاصة، من نوع وعيار خاص، ألم يقل بحقها أحد الشعراء القدامى العرب فيما معناه أن النار بالفم توقد وبه تُطفأ أيضا.

كناية عن المعنى في وظيفتيه القاتلة والباعثة المحيية، على حدّ سواء..؟

[على خيط دخان

نعم أعرض في الشارع جلد أفعى

أجنحة المشانق

أعبر النهر حافيا باكيا، لا بد أن أعبر النهر

إلى ضفة الأبجدية

حيث السنابل ووسائد العشق

ملاءات الغنج ونسك الشعوب

وراء التخوم](1).

وإذن...ما الوراء المتخيل ههنا؟والمتاحة معه فرص اقتناص حظوظ ومعاني الحياة الموازية، هنا/هناك، بعيدا/ ٌريبا/ حاضرا/غائبا، في الضفة الأخرى.

تلكم جريرة إدمان الكتابة، وحدها كفيلة بمنح العبور الإنساني مخملية وغنجا من طراز خاص، تجاوزا لراهن الأوبئة الموغلة في إدماء إنسانية وروح الكائن.

[لا تكن قيدا للرغبة

لتكن سمائها الحزينة، تحبل قرب سرة الدروب

كن منحدر الفضائل

رقصة السكر

واحرس طريق الليل

من وشوشات التحري

كن كما كانت الريح

عازفة لحن السلام، وهي مشنّفة بشناعة الضياء

واجعل من رقصة البحر

ملمسا لطوب النكاح

كي تهدهد غصن الوسن] (2).

في هذا الاحتمال، مثلما هو مستلهم من عتبته، نفطن إلى أن استعمالات سيف للمفردات المجلجلة والنافرة نوعا ما، ضئيل جدا، ولا يتمّ إلاّ عند الضرورة القصوى، مثلما هو وارد في سطر" ملمسا لطوب النكاح"، كونه استعمالا محظورا، أقول محظورا تبعا لقاعدة رمزية ضمنية، قد لا تستشعرها سوى الأذن الموسيقية للمتلقي، والحدوس النقدية المتقدة، فقد زان مثل هذا التوظيف الذكي للمفردة" نكاح" طوب النكاح، بعدا طوباويا غامزا بمعاني الاحتمالات المثقلة بها عتبة النص، بالنهاية.

[ألفع ثوب الحبر العابر للظن

أعصر الرّفض

تأتي الشمس ضيفة طيعة

يبكي نهاري المطوق المنعزل

ما هذا الهجر؟ اليأس اليأس

مدن تنام في قعر الجبّ

البجع مكانس لمدائن اليباس

وفعل الشواطئ عود إلى تاريخ الحضرة

الآدمية ](3).

فنصوص تتوالي وتطّرد، ممعنة في بهرجة مثل هذه الفسيفساء الكلامية، وفتحها على حيوات موازية، أظلّ أسمو، صوت المدينة، العاشق، الرائي، المتّهم، إقامة، بطاقة عبور، تعاليم من جهد الزنابق، تهويمة، أمواج، رايات، موسيقى لضفاف الشمس، فمطوّلة وسن تحت ظل الصهيل.

[في المدن المنسية، لا التاريخية

بابل، بغداد، سرمن رأى، أقصد خربشات الأغاني

زمن الوصل

عيون العذاب

هذا الجنون الذي يلطّخ السحاب

بأماني تضحك جدران الأسى

يرسم برعما على هيأة الوردة، يلسعه

يأمره:تحرك، دب، كن

ما لا يقدر عليه ولا يجب

يمر طير فوق النوافذ المهشمة

يلهو بغبار النساء وزبد الراحة](4).

حيازات للمعنى في النصف الآخر من الذات، أو الضفة الآدمية الثانية، حيث الحياة موازية، مترعة باستدعاءات الموروث الملحمي والديني والإنساني، ومترفة بوصايا الاحتفاء بمكامن النبل والجمال والنضارة والعنفوان في إنسانية الكائن.

صرخة على مقاس التحريض على العود إلى الحضرة الآدمية، مثلما مرّر في أكثر من مناسبة، إمّا بشكل مباشر، أو إيحائي، هذا الشاعر المتّهم، وهو يستثمر في مفردات إثراء لغة الحذف، منبّها إلى قوة وجبروت الصوت داخل دوائر ودهاليز ما لم تغتصبه الألسن بعد، ليظل متروكا للبياض، في عذريته وإلهامه، كونه الأفصح في التعبير إلى حاجة غائرة في النفس البشرية الملدوغة بوجع كوني متوحّش، تفيد حجم غبننا إلى حياة نقية قليلة الانتهاكات، تعبر بنا إلى أفق المكسب الروحي، ضمن ثقافة إنسانية جامعة.

وهل هذه الطقوس، طقوس المكان الديوان ههنا في حالة الشاعر الجزائري الجميل سيف رائد، وبمعنى من المعاني، إلاّ محطات تحدّ وانتفاض وفرض للذات، محطات ثلاث تصبغ العمر الآدمي، مثلما هو ملغوم بها بالتمام، وأقرّته شعرية الديوان: الولادة، الدينامية، الكينونة..؟

 

احمد الشيخاوي - شاعر وناقد مغربي

....................

هامش:

(1) نص بوح لزند المعنى

(2) نص ربما.

(3) نص الرائي.

(4) نص طقوس المكان.

 

في المثقف اليوم