قراءات نقدية

الرومانسية الثورية في أشعار نجاة الماجد قراءة في الأسلوب والرؤيا

رحيم الغرباويلعل الرومانسية أخذت اشتغالاتها من الطبيعة في الذات، بعدما قامت بثورة على الكلاسيكية التي أوغلت في الموضوعية والعقلانية حد الإسفاف في نظر الرومانسيين، فضلاً عن أنَّها مثَّلت ردة فعل على الواقع الذي لم يجد فيه الشاعر ضالته فراح يرمي بنفسه في أحضان تلك الطبيعة بعيداً عن ظلامات الواقع المعيش  كما يستشعرها في نفسه، فيتغنى بالجداول والغابات، والسهول والجبال والطيور  وهو يضفي عليها من خياله الجامح أجواءً ساحرةً وعواطف إنسانية جياشة .

والرومانسية فيما يبدو اعتمدت على الخبرة الشخصية  حتى أصبحت مذهباً له سماته وخصائصه، لكنها أخذت تتشعب إلى اتجاهات وارتباطات بمذاهب أخرى ومن اتجاهاتها الرومانسية السياسية، كما أخذت بتفعيل " مظاهرها في المجال الفلسفي والديني والقانوني والتاريخي  " (1)، أما ارتباطاتها، فقد صارت الرومانسية ممثَّلة بالسريالية والدادائية والبرناسية والرمزية وغيرها، لكننا لانعدم أنَّ الرومانسية الأدبية هي الأصل كما طرحها النقاد في بداية نشأتها في العصر الحديث ويمكن لنا أن نطلق على الرفض فيها أنه لم يتوقف على رفضها للكلاسيكية إنما رفضها يؤكد لنا تعبيرها عن حالة الثورة ليس على الواقع أو الاتجاهات فيه بل حتى على الشعور حينما لاتتقبل الذات الشاعرة معطياته من الآخر؛ كي لانبخس مفهومها الشامل والواسع حتى داخل صيرورة الذات الإنسانية .

والأدب بصورة عامة مالَ إلى الاتجاه الرومانسي منذ مطلع الحضارات حين كان الشاعر يتغنى بالطبيعة من خلال ترجمة ما يعتمل وجدانه من مشاعر وأحاسيس تجاهها . إلا أنَّها في العصر الحديث ومع تطور الاتجاهات الثقافية في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي أُرسيت مبادؤها، فصار لها مذهب أدبي قائماً بذاته، بوصفها تمثل أحد مبادئ البناء الشعوري في الثقافة الحديثة .

ولعلنا في هذا المقال لانريد أن ندرس اتجاهاتها بقدر ما يمكن أن نوضح دقائقها  لاسيما ثوريتها الشفيفة عبر ما يعتمل الذات شعور يرفض بعض مظاهر المجتمع السيئة، ومنها صفة الخيانة التي عادة ما تدفع بالشعور إلى أن يقيم ثورته معبِّداً طريقه نحو الصلاح، رافضاً كلَّ مدنَّس هدفه الإعاثة بالنفوس؛ لأجل خلق مجتمع تسوده المحبة، وتعتري فضاءه نسائم الوئام .

ويبدو أنَّ شاعرتنا (نجاة الماجد)، وهي تكتب شعورها تجاه تلك الظاهرة الاجتماعية تنكر على كل من يسيء لحقوق الآخرين أو يجرح مشاعرهم، ماهو إلا إنسان فقد إنسانيته، ولا بدَّ أنْ يُطرد من حقول الإنسانية الرحيبة وشواطئها المؤثَّلة بالنبل والوفاء، ويمكن عدّ قصيدتها (سياط غدرك) من النصوص التي تعالج ظاهرة الغدر والخيانة التي تفشَّت في عصرنا الحاضر، إذ نراها تقول: 

لا أنت تتبعُني ولا أنـــــــا أتبـــــعُ ... لملِم غرامَـــك لاتحـنُّ وترجــــعُ

ولّى الهوى ولّى زمـــانُ صبابتي  ... ماعُدتَ عصفوراً لشدوِكَ أسـمعُ

قد جئتَ تشـكو لي خيانةَ صاحبٍ  ... فجعلتُ قلبك من وفائي يرضــعُ

واليـــومَ واأســفى أراكَ تخـونُني  ... واليومَ وا أســفى بغدرِك تصفـعُ

ماهكذا يجزي المحـــبُ حبيبــــهُ  ... إلاّ لِمـــن فيــــهِ الخيانـــةُ تنبـــعُ

ولعل القيم الاعتبارية هي ميزان الإنسان الطامح لحياة مستقيمة، ولو قلَّبنا الأبيات لوجدنا معانيها قد حُبِكتْ بفنية السبك العالي الذي يشير إلى صدق الإحساس، وإنَّ التكرارات والطباقات والمترادفات من الألفاظ قد تفشت في النص وهي: (تتبع - أتبع، ولَّى – ولى، وآسفي – وآسفي، تخونني – تخونني . خيانة – وفاء . تحنُّ – ترجع،  تخون – تغدر) ويبدو أنَّها تعاني قسوة الفعل الذي يسود اقترافه اليوم في مجتمعاتنا ممن يدَّعي الحب دون أنْ يجتنى روحا أنيقةً تطرب لها معاني الإنسانية، وشاعرتنا تعبر عن رفضها لذلك بل وتمقته حد التعنيف، ولعل قراءة النصوص بعيدا عن قائليها يعزز الروح العلمية للتحليل من خلال النص، إذ نراها تنازع قراراتها بالنفي مرة والإثبات مرات؛ لتقوية معاني الرفض وملامح الثورة في شعرها، فنجد أداتي النفي (لا، وما) تكررت خمس مرات؛ لتأكيد ثورتها ضد من خانها، بينما أوردت صوت الهمزة ثمان مرَّات، وهو من أصوات الإطباق؛ ليدل على شدة الارتكاز على قرارها الحتمي، أما ورود صوت الكاف سبع مرات وهو يمثل الكلف والانكسار لما كان مأمولاً من المخاطب الذي لم يحسن الوفاء، و اتخذت حرف الروي العين للدلالة على التياعها من هذا الفعل المشين .

ولو طالعنا بقية أبيات القصيدة سوف نجد المعاناة تتنامى وتتكرر بعض المفردات لتأكيد المعاني التي بني عليها موضوع القصيدة، إذ تقول:

حتى بإحســـاني منحتُك مهجتي ... وجعلتُ عينَك في عيوني تهجعُ

واليــــوم وا أســفى أراني بغتةً ...  بسياطِ غدرِك والخيانةُ أُلســـــعُ

ماجتْ بنا الأمواجُ دارتْ دورةً ...  واليـــوم مركبُنـــا هنــاك نودِّعُ

ياذلِك الصيَّــــــــاد يكفي قسوةً ...  أطلِقْ فؤادي لاتـــروعُ وتفــزعُ

البحر يــــاهذا يضمُّ بدائـــــــلاً ...  يمِّمْ شـــباكك هاهناك ســــتجمعُ

دعني نـــعم دعني فقلبي قانعٌ  ...  من بعـد غدرٍ في الهوى لاأطمعُ .

والذي يجعلنا أن نحكم على أنَّ النص يشي بالصدق هو انسجام أصوات الألفاظ مع الحالة الشعورية التي تقف عندها الشاعرة مع كلِّ شعور تعبِّر عنه، ومن ذلك  الشطر الأول من البيت الأول حين تصف حالتها، وهي تعيش الراحة إزاء نبلها تجاه الحبيب بتكرار صوت الحاء ثلاث مرات، والتاء ثلاث مرات أيضاً، والميم مرتان، وهي من أصوات الهمس التي تمثل لطافة الشعور، بينما البيت الرابع حين تصف من غدر بها تصور شعورها بنزعته الثورية، فهي تطلب التحرر من ذلك الصياد الذي اصطاد قلبها بمشاعره المعسولة، فتكرار الكاف والقاف والعين مرتان وجميعها من أصوات الإطباق العالية الصدى وما فيها من حشرجة والتياع، والصاد والطاء، وهما من الاصوات الصفيرية وفيهما دلالة البطش والصرامة، بينما الفاء وردت ثلاث مرات؛ لتدل على التأفف والتأوة ، والتاء مع الراء ومع الفاء؛ لتؤكد ما للراء والفاء، فالأولى لشحذ الفعل بما يمتلكه من دلالة الترويع، والأخرى؛ لتعميق دلالة الفزع، وهذا ما يؤكد صدق المعاناة التي عاشتها شاعرتنا؛ لتهبَّ منتفضة ضد الجناة الذين يرتكبون الحماقات تجاه المشاعر الإنسانية النبيلة .

وهكذا " فإنَّ الشعر هو السمو ذاته بالفضيلة، وإنه يسبح ضد تيار نهر النسيان ويدرك بريق الأصول ويسلم الروح إلى أحاسيس العالم العامة، ويظهر معارضته للحقيقة المصغرة الكاذبة، وهكذا يظهر البعد الرؤيوي الثوري للشعر كرومانسية نمط من نوعية القوة التي فيها الأنا الأدنى تتماثل مع الأنا العليا ... إنَّ الشعر هو نفسه سليل انصهارنا الأخلاقي يذكي جمرات الفضيلة النائمة، لأنَّه يدعو لامحدودية ما فوق ذاتنا إلى الشعور، والمطلق ما فوق الواقعي لماهيتنا، إنَّ الشعر يحرر؛ لأنَّه رومانسي " (2)؛ لهذا نجد شاعرتنا قد حققت برومانسيتها تحررها من قيود الإذلال والتبعية؛ مما هو عديم الإنسانية بأفعاله التي لاتتماشى مع الفضيلة والنبل الأخلاقي .

 

بقلم: د. رحيم الغرباوي

.....................

(1) الرومانسية الثورية، ترجمة د . كامل العامري: 16

(2) المصدر نفسه: 143 .

 

 

 

في المثقف اليوم