قراءات نقدية

عشتار الرمز الإنساني وفيوضات المقدس

رحيم الغرباويقراءة في شعر يحيى السماوي من مجموعته الشعرية: مناديل من حرير الكلمات

الشعر هو دعوة إنسانية لتحقيق ما يصبو إليه الواقع حين يفقد ابناؤه إنسانيتهم التي فطروا عليها، وكلما ابتعدوا عنها ذكَّرتهم السماء من طريق رسلها بانحرافهم عن الجادة المأمونة، أما في عصور مابعد النبوءات لابدَّ هناك من وسيلة حين يتخلى أهل الشأن عن شأنهم، أو حين يزيدون من مآسي الواقع مآسي يشيب منها الجنين، إذ لابد أن يتكفل التنويريون من أهل الصلاح والإصلاح في كل عصر دعوات الخير من طريق العودة إلى الفطرة الحية بعدما تتلبد المفاهيم الإنسانية بالغيوم وتتسيد بالظلمات، ولعل الفن هو واحد من الوسائل التي نرى إشعاعها يضيء إنسانيةً في دعواته لها بل وانصهار أصحابه من أجلها حد الذوبان، لتحقيق أهدافها السامية، ولعل مدرسة الفن للمجتمع هي من تطغى حين تحتاج المجتمعات إعادة ما أفسده دهرها، فتقوم الفنون لاسيما الشعر بإجلاء الغبار عما يعتري المجتمع من هذا الضرر الفادح، بوصف الشاعر نبياً أرضياً، أفادَ من رسل السماء رسالاتهم، كما أنَّ لديه القدرة على الإبحار في عوالم الغيب حيث الوصول إلى موطن السريرة النقية، ليعلن منها حقيقة ما على الإنسان حذوه، كي يعيشَ إنسانيته، ولو أمعنَّا النظر في قوله تعالى (والشعراء يتبعهم الغاوون ... إلا الذين آمنوا) يبدو إن الله سبحانه حين وصف مَن استثناهم بأنَّهم مؤمنون لمن يرقى منهم إلى مواطن النقاء بعيداً عن مواطن الشطط والانكفاء حين يأخذ بعضهم العَمهُ والتيهُ في مسارب الظلمات الذاتية بحثاً عن الرغبات الدنيويه، ولعل المقدس " هو ما اتصل بالقوة العليا والمدنس هو الخارج عنها " (1) في عالم البدء الأول، وهو القوة العليا، أي " ممارسة عملية لاستذكار أو استعادة زمن بدئي مقدسٍ يسوده (الإله، النور، الأسطورة)، أمَّا المدنس، فهو خارج كلِّ هذا، إنه كلُّ ما يمت بصلة لـ (الإنسان، الظلام، التاريخ) " (2) ولما كان الشعراء هم وسيلة من وسائل العطاء الوجودي للحياة، فهم من يستطيع أنْ يغترف من المنابع الأصيلة، لذلك وُسِم بعض الشعراء في منظور ديننا بالغاوين، كونهم لا ينهلون من المنبع الأول الموفور لخدمة الإنسان بل لما فيه من ضرر لم يسمح به أن يكون لبني البشر بل لغايات لانعرف كنهها، ولعل الشعراء من هذا المنطلق يختطون أحد الخطين على الرغم من أنَّ منبع ورودهم الشعر من عوالم غيبية .

والشاعر هو ذلك التائق صاحب الرؤيا، السالك طريق العرافة بحدوسه واستبصارته، ليساهم في رفع لواء الإنسانية بعدما تخضَّبت الأرض بدماء الأبرياء في عصرنا، نتيجة الفتن والمحن أو التي ساهمت في التعمية والفسوق التي دسسها أعداء الإنسانية في بلاد عشتار العطاء (العراق) .

ويحيى السماوي واحد من الشعراء الكبار الذي مازال ينبض بصوت الإنسان يرقق للحياة غلظةَ أبنائها بعد السموم التي اغتالت البسمة من الشفاه والقلق الذي استشرى بعدما كانت القلوب آمنةً مطمئنة، داعياً العودة إلى قلوب البرايا حين كانت تندب عشتارها، وهذا ما لمسناه في مجموعته الشعرية (مناديل من حرير الكلمات)، فتبوح لهم بخيرها وخصبها وعطائها، إذ نراه يرمز لها برموز متعددة الألوان والصور والإيحاءت بلغة سهلة يفهمها الجميع مدلِّلا بصوت الأنوثة، جاعلاً من ذاته البطل كلكامش، وهو يغازلها، لتبعث الحياة من جديد لأهل العراق بعدما أكلتهم سنو القحط العجاف، إذ نراه يستحضر رموز المقدس، وكأننا حين نقرؤه لأول مرة نراه من الذين هاموا في الأودية، لكننا حين نسترفد القراءة نجده يبعث للإنسان إنسانيته بموفور النبلِ والأخلاق العالية، وهو يجعل من عشتاره الخير النافذ والعطاء الدافق مذكِّراً بالمحبة والسلام، فيلجأ " إلى المقدس عن طريق إقامة الطقوس واستحضار الأسطورة، وهي تقنية وهمية حين يمارسها البدائي تصبح حقيقة يعيشها كما لو أنَّه تحت تأثير مُخدِّر أو نشوة عميقة " (3) إذ مثلت عشتار لدى شاعرنا رمزا للمقدس، فهو يخاطبها قائلاً:

محرابكِ

ألا يحتاج بلالاً فراتياً

يحفظ عن ظهر عشق

آذان الهوى

أمنيتي

أنْ أكفَّ عن التمني

ما حاجتي للفانوس

آفاقي مُطرَّزةٌ بشموسِك .

فهو حين يخاطب عشتاره بنغمة الحب والهوى، يذكِّر ببلال الحبشي مؤذن الرسول ونهر الفرات الذي أقيمت عليه أولى الحضارات الإنسانية، مجسداً للحياة رقتها، مُمهِراً بكلماته رفعتها .

كما يذكرنا بالأسطورة السومرية (ملحمة كلكامش) وبطل الطوفان نوح عليه السلام، ليمنح رسالته قدسية الهدف على الرغم من إشاراته الصاخبة الشفافية، إذ يقول:

طوفان أنوثتكِ

رمى سفينة رجولتي

على ساحل سريرك

فتكسَّرت أمواج شهقاتي

قُبُلات

لملمي شِتاتي

أ لغيرِ تنوركِ

حملتُ فأسي مُحتَطِباً

في الغابةِ الحجرية الأشجار؟

فنراه يجمع صور المقدس من ذلك المنبع، فنوح (ع) وسفينته رمتْ بهما الأمواج على سرير عشتاره (العراق) .

ويبدو أنَّ مهمته عسيرة في قيامه كداعية لأبناء وطنه بدلالة احتطاب حطبه من الغابة التي وصفها بالحجرية، لكنه عازمٌ على إيقاد التنوُّر الذي سيمنح برؤيته الحياة انتعاشها من جديد بعدما صارت الأرض سبخةً بفعل ما أمطرت السماء هجيرها، فنراه يقول:

السماء زخَّت هجيرا

فطفحت أرضي سبخاً

لا ينبت غير الأشواك

وحدُهُ صوتكِ

أعشبَ مفازات أبجديتي

فهو يستنجد بعشتاره التي ألِفها تمنح العشب والماء، ولعل المرأة هي أصل الإخصاب بوصف السماء مهما هطلت فلابد من متلقٍ لها يألف ما تمنحه له من عطاياها، لكنه تمثَّلَ البرايا بوصفهم ماعادوا يسمعون صوت السماء اليوم، فنادى عالمه الأول حيث النقاء والصفاء والخصب داعياً بذلك العودة إلى زمن الفطرة، فهناك النقاء والصوت الندي الذي بدأت به الحياة بكلمة ألقاها الرب لبني البشر حين علَّمهم كيف يحافظون على جنسهم البشري وتلقوها في أصلِهم الأول بإحسان .

ثم يعزز دورها في الفضل، يقول:

صخور السنين لن تحني ظهري

مادامتْ نخلتكِ عكَّازي

ومتَّكئي .

أنتِ التي رأت كلَّ شيء

فأخبرتني عني

وافتضَّتْ بكارة قلبي .

يصور لنا أنَّ الحبيبة عشتار في يديها قوام الحياة، فهي النخلة المنتصبة قامتها بالخير والعطاء، وهي التي رأت كلَّ شيء، إشارة إلى أسطورة كلكامش مرة أخرى تلك التي يبدؤها كاتبها بعبارة (هو الذي رآى كل شيء) أي أنه يتحدث عن علمها بسر الوجود، وهي من تستطيع أن تبعث الحياة من جديد بعدما حلَّ الحيف واستشرت الضغينة بين أبناء الوطن الواحد .

ثم نراه يصرح بالمعاناة، فيقول:

سواء أكانَ الحارسُ ذئباً وطنياً

أو خنزيراً عولمياً،

فاليمامات لن تجد البستان

غيرَ مقبرةٍ ... .

اليمامُ

لايبني أعشاشَهُ على شواهدِ القبور !

وطني مُستَنقَعٌ

إذن:

سأتضرعُ إلى الله

أنْ يجعلني صرصاراً .

فهنا نراه يصور حالة الرفض لما يشاهده من مقابر تعجُّ بها البلاد، فالموت في الأماكن التي كانت في أصلها تنبض بالحياة، وأنَّ إنسانية الإنسان لاتحيا بهذا الواقع النتن، لذا فاليمام لايمكنه أن يبني عشَّه في مقبرة، بل الصراصر هي ما يمكنها أن تعيش في الأوحال، لذا نراه يوميء إلى أنَّ الإنسانية التي يرومها لايمكن أن تتحقق إلا بتغيير الواقع المدنَّس، فهو يقول:

(الساعةُ آتيةٌ لاريب فيها)

ساعةً أحدو بقوافل سُحبكِ

نحو صحاراي

بعصا ربيعكِ

أنشُّ عن حقولي ذئابَ الخريف

أسفينة نوحٍ وجهُكِ ؟

فيهِ زوجان

من كُلِّ مَيسَمٍ وتوَيْجة !

إنَّهُ لايترك النبع الصافي مشيراً إلى الساعة التي لاشك فيها، إذ أشار لها قرآننا المجيد متحدياً الباطل وأهله، كي يعم بعدها الخير للصالحين، و لابدَّ أن يتبع ما ستدبره المرأة عشتار رمز الإنسانية، ليحدو بقوافل سحبها نحو صحاريه، مشيراً بذلك إلى افتقار الناس وجدبهم، وهم بحاجة إلى عصا ربيعها الذي بها تنش حقول ذئاب الخريف، لتبعث الحياة من جديد، وقد جعل صورة ربيعها مستوحاة من عصا موسى التي هش بها عن غنمه الذئاب والسراق، كما أشار في التفاتة جميلة إلى سفينة نوح التي جمعت من كلِّ شيء زوجين في إشارة إلى الإلفة التي يرومها، إذ لاتتحقق إلا بالانسجام والتسالم بعيداً عن أدران السياسيين، ومن يعمل في سبيل تدمير بلد الحضارات عراقنا العزيز ومقدساته التي باهى بها العصور .

 

بقلم: د. رحيم الغرباوي

........................

(1)  العود الأبدي، د. خزعل الماجدي: 12

(2) المصدر نفسه: 13

 

في المثقف اليوم