قراءات نقدية

البساطة الآسرة والمعاني المغيبة

رحيم الغرباويقراءة في مضامين ومضات ميرال يونس .

يبدو أنَّ الشعر يصور ما للعيان بظاهره، وكأن العبارات الشعرية  تنقل الواقع كما هو إلا أنَّ في الحقيقة كثيراً من الشعر يستبطن معاني مودعة في شعور صاحبه فيمثل الالتفاتات والطرافات التي يعقدها في شعره، لإيصال المتخفي الذي يمكن للقارئ الحاذق تأويل متجلياته وهذا مايستدعي ارتباطه بالرؤية الكشفية على وفق (رونيه شار) الذي يرى أن الشعر يمثل عنده عالماً يظل في حاجة إلى الكشف (1)، مما يحمِّل الناقد مسؤولية كشف المعاني المغيبة التي يتقصدها الشاعر، ليعبِّر بها عما ينوء بعواطفه وفكره، ليوصلها إلى متلقيه بتعبير جمالي محققاً المتعة فيه.

ولعل كل شيء يقف إلا القلب الإنساني المبدع الذي هو مصدر الأحاسيس والمشاعر الماكثة فيها الحقائق كما يرى هوسرل، والحقيقة الخالدة فيه " تقوم في ألَّا يستقر القلب في مستقر، ولايعني عدم الاستقرار سوى ديمومة الحركة وتوقفها، استمرارها وانقطاعها، مما تعطي لكلٍّ منها معناه " (2) ذلك أنَّ الحقائق مودعة في الشعور التي مصدرها القلب الذي يضمر في خابيته لوحات متعددة من المعاني التي يمكن أن يستنطقها المتلقي حين يترجم الشعور المتجلي في كلمات الشعر، لكن هناك فلسفات اهتمت فقط بالاستطيقا (الجمال) ولاسيما الشكلانيين الروس إذ كانت نزعتهم الفلسفية للفن " تبين أنَّ الصورة المثلى والدالة للعمل الفني إنما تتبدى فقط في قيمته الفنية والشكلية " (3) بوصف الفنان الحقيقي هو " الإنسان الذي يلمس بعينه، ويرى بيده ويفكر بأصبعه، إنه الذي يحتك بالعالم احتكاكاً مباشراً لا أثر فيه للمنفعة أو الفائدة العلمية، ومن ثم فأنه يملك ضرباً من العيان الجمالي للكون " (4)، لكن الذي نراه أن تحقيق المتعة الجمالية هي ليست في الأسلوب إنما في " رؤاه بدرجة أصيلة من درجات التناسق والتوافق والتوازن والذروة التي يستطيع أن يستقبلها المتلقي بوصف النص مشروعاً مشتركاً بين المبدع والمتلقي، فيكون المتلقي صاحب القرار الأخير في الحكم على جمالية النص " (5)

ولما كان الشعر هو من يعيِّن " لنا لحظة البدء بالتفاعل مع معطيات الوجود، ليحيلها إلى جمال مطلق "(6)، لذا فلابد من نظرة إلى الشعر هي ليست لشكلانيته فحسب، إنما أبسط ما يقال من أنَّ الشعر هو إحساس صادر من الذات الانسانية وعلى المتلقي أن يعي أنَّ الشعر هو ترجمان الشعور الذي تمكث فيه الحقائق، إذ  لايمكن أن يجتلبها الشاعر مباشرة كونها لا تعطي المعاني صورتها المباشرة، إلا في المراوغة معها لاستحصال دلالاتها بعد عرضها على الوعي .

ولعل الشاعرة السورية ميرال يونس قد نطقت بأحاسيسها عن كل ما يعتريها فترجمته بكلمات نثرية على شكل ومضات، بيد أنَّ صياغاتها تومئ بسمو الاحساس المزدحم بقناديل مشاعرها المتوهجة، إذ نراها تخاطب الحبيب الذي غدا بعيدا عن واحة واقعها، فصار يمثل لديها احتراقات شوق وغابات أشواك وهي تناديه بحلمها اليقظ، مؤسسةً به واقعاً شعرياً ينوء بظلال خفيفة من الرؤى لايمكن استنطاقها الا بالقراءة الفاحصة، ومن ذلك قولها:

أنا ووحدتي نتراقص ليلاً على أنغام الذكريات

نبكي تارةً

ونضحك تارةً،

أصحو منها بعينين مرمدتين بعد ليلٍ طويل

هو مضى، ولم تمضِ معه،

مضتْ من عالمه سُحباً

لكنها أبتْ أن تزول مني عبثاً  .

وكأنها تخاطب حبيبها وهي تعيش في دهماء الذكريات، تبكي تارة وتضحك من فجيعتها به تارةً أخرى، يدل ذلك عيناها المرمدتان، مشيرةً إلى أنَّ ذكرياته مضتْ كالسحب، والسحب حين تمضي لا يمكنها أن تمطر بإشارة إلى الرحيل من دون ترك أثر به منها، بينما الذكريات معها أبتْ أنْ تزول عبثاً، بل تركت أثرها وهي تتجرع آلآمها . ويبدو أن ميرال يونس تحاكي محنة الوطن الذي غابت منه الأماني والذكريات  الجميلة، بسبب ما تداخلت فيه الصراعات الإقليمية والاحتراب الداخلي، مما جعلها تعيش محنة الحزن عليه بدموع سخينة، بينما هي تضحك ساخرة من نزول القوى الكبرى بحججهم الواهية التي تبحث من مصادرة كل ماهو عريق في بلادها الكريمة المعطاء . ولعل تحليلنا لايبتعد عن حقيقة ما يبدو في شعورنا حين نعرض النص على وعينا، ونقطع كل ماهو قبْلي من فلسفة وأحاسيس  مع إبعاد صاحب النص ونحن نقرأ نتاجه، فالأشياء ذاتها لاتعرب عن ذاتها إلا كما يضعها الوعي، وهي تعرض عليه في أفعاله الواعية بذلك تصبح الأشياء ظاهرات فيه، أو ظاهرات تتقوَّم فيه ... فتصبح موضوعات الوعي معطيات من عطائه ذاته، ليعطيها في أنحاء محددة هي في الأساس أنحاء وعيه لها  (7) .

ويبدو أنَّ الوطن ليس وحده همّها، إنما أبناؤه النازحون عنه إلى بلدان الغربة أثر الحرب الدامية، فنراها تقول:

إنَّ لحظة الوداع تكسرُ القلبَ

وتطّوي جناحْ الأملْ

تسحقْ شيئاً في الأعماق ...

وتترك مجالًا رحباً لحنينٍ دائمْ

يظلّلهُ سؤالٌ ...

متى تعودْ ؟

فالصورة الأولية للنص على الرغم من  الصور التي رسمتها من خلال الاستعارات المكنية: (تكسر القلب، تطوي جناح الأمل، تسحق شيئاً في الاعماق، تترك مجالاً ... لحنين، يظلله سؤال)، مما يمنح النص سر جماليته لكن رؤيا الشاعرة تلوح إلى بعيد، وهي رحلة الأخوة والأحبة من أبناء البلد، وهم يبحثون عن ملاذٍ آمن، فنراها تطرح همومها التي مازالت لاتجد من يضمدها لاسيما ممن  تنتظره، لكنها تدعو الراحلين أن يعودوا وما غير الوطن يُعَدُّ موئلاً لأبنائه، فهو الحاضنة الكبرى للجميع، تقول:

أعلمُ أنَّك مرهقٌ ....

قد أتعبتْكَ الحياةُ،

لكن لديك ميناء سلام ...

تغفو به وكأنَّك وُلِدتَ خُدَّجاً .

فهي تخاطبهم خطاب الحبيبة للحبيب، فتبعث رسائلها لهم، كونهم قد تعبوا وسئموا الحياة، لكنَّها تستدرك أنَّ كلَّ منهم لديه ميناء سلام هو الوطن، فحين العودة سيشعر كلُّ واحدٍ منهم كأنه وُلِدَ خُدَّجاً، كناية عن بداية حياة جديدة يعمها الأمن ويستقر بها السلام .

 

بقلم د. رحيم الغرباوي

...........................

(1) ينظر: معارج المعنى، عبد القادر فيدوح: 121

(2) حكمة الروح، د. ميثم الجنابي: 274

(3) الفلسفة الغربية المعاصرة، مجموعة من الأكاديميين العرب: 1173

(4) دراسات في الشعر والفلسفة، د. سلام الأوسي: 54

(5) المرجع نفسه والصفحة نفسها .

(6) الرؤى الفلسفية  في الشعر العراقي الحر، بشير عريعر: 251

(7) ينظر: مدخل إلى الفلسفة الظاهراتية:67 .

 

في المثقف اليوم