قراءات نقدية

الخواص الخفيَّة في لغة الشعر قراءة في أشعار ميرال يونس

رحيم الغرباويالشعر هو شعور يتجاوز المحسوس إلى عوالم فسيحة على الرغم من انطلاقه من عالمه، فنراه يتشاكل مع الروح ؛ ليحلق معبِّراً عن لحظات البوح المثالية، ذلك ما افترق الشعر عن غيره من الكتابات الإنسانية، ولعل الشعر النسوي أو النسائي كما يسميه البعض هو شعر وجدان يطابق الواقع إلا أنه يحلق إلى مدارك أوسع إذا ما نظرنا أن المرأة الكائن الجميل التي تسعى دائماً لوصف ذاتها أو ما حولها؛ فتصف أفراحها أو أتراحها تجاه واقعة أو حدث معين أسعدها أم ألمَّ بها، لكن طابع ماتمنحه من تصاوير أو رموز وإن كانت بادية للعيان يمكن للقراءة النقدية أن ترسم من خلال اللاوعي الجمعي صورة مغايرة للمعاني المباشرة بوصف الشعر هو  ما بإمكانه إحداث الدهشة والالتفاته في ذات المتلقي ؛ " لأنَّ للغة الشعر خواصاً خفية تكاد تكون سحرية لاسيما عندما تتحول الأحاسيس والمشاعر إلى صرخات تعبِّر عن مشاعر بدائية إزاء حركة الزمان وإلفة المكان " (1)، ولعل العزف على وتر الضياع في الشعر العربي ؛ نتيجة الظروف التي فرضت سطوتها على المواطن العربي سياسياً واجتماعياً لاسيما المرأة جعلتها تنزع إلى البوح بما يخالجها من أنين، وهي ترسم صورة المشاعر تجاه الأشياء، ولنا وقفة مع نماذج (ميرال يونس) الشعرية التي تكتب لنا بأحاسيسها المفرطة بالاحباطات من فعل التزاماتها بالعادات والتقاليد المفروضة، فضلاً عن الحالة غير الطبيعية التي يمر بها بلدها سوريا، فنراها تخالج نزعاتها بروح جميلة طروبة، إذ لاتنسى جمال الطبيعة وهي توظفها من خلال جمال روحها في النظر إلى الأشياء، فنشاهدها توظف الياسمين، والغناء، والأحلام، والرقص وجميعها تحمل معاني الترف، تقول :

على جيدي يثمل الياسمين متراقصاً

وبصوتٍ شجيٍّ لايملُّ الغناء

علمتُ أنَّ أحلامي تحوَّلتْ  أطلالاً

ذبلتْ على أسوارِ الظروف

واعتصمتْ في سجنِ الأعرافِ

لكنَّني أقسمتُ أنْ لا أملَّ الرقصَ بين جنباتِ ذكراه

لعلَّ في ذكراه الخلود .

فهي بتلك الألفاظ تعقد مقارنة بين حالين : الأول : ترف الذكريات والسلام والطمأنينة مع من تهوى بصدق، فتبوح بعشقها للوطن وللأرض وللطبيعة الساحرة  إزاء هول الواقع المثخن بالمحظورات من فعل الحروب التي أضافت على سجن الأعراف ضيقاً ؛ مما جعلها ترسم لنا بريشتها الندية رموز الترف التي أصبحت تعيش في وهدة السكون، فهي تمازج بين جيدها الذي يمثل مكان القلادة ومسرحها والياسمين تلك الأزهار الرقيقة والطيبة الشذا وهي تغني على نبضات قلبها المتسارعة الانغام بفعل قسوة الواقع المضني بدلالة (صوت شجي)، ومن جسامة الأحداث حتى غدا الياسمين ثملاً متراقصاً على أنغام حزن شاعرتنا، متناغما مع قلبها بعدما تحولت أحلامها أطلالا ؛ في إشارة إلى خلو الحياة من أملٍ في الانطلاق نحو مستقبل أفضل ؛ مشيرة إلى الظروف والأعراف وكلاهما سجنان لكل أمنية تخطر على بال من حَلُمَ يوماً ؛ ليعيش بهياً سعيداً، لكننا نجد تصميماً من شاعرتنا، وإرادة لا يمكن مواتها على الرغم من التحديات العسيرة من خلال فعل القسم الذي نراه حاضراً لديها بأنها سترقص بين جنبات ذكراه، ولعل في ذكراه تخلد الحياة بالأمان، ويبدو أنَّ رقصها هو انتقالة شعورها إلى بدء الخليقة، إذ كان الرقص هو لون من ألوان العبادة في المعابد حيث كانت تلك الرقصات تمثل حركات عبادية تتوسلها المرأة ؛ كي تستجيب لها الآلهة ولتحقق مطالبها المحجوبة .

أمَّا في نصها الآخر الذي تقول فيه :

أسامر الليل وشاطئ البحر في الحديث عنك

خوفاً من الناس أنْ يلمحوك في أحداقي

دمعةً،

أو بين ثنايا القلب نبضه

بل في حنايا روحي روحاً

فأكشف  ....

أنَّك سرٌّ في بئرِ أعماقي

ويبدو أنَّ الليل مساحة العشاق ودهاق المظلومين ؛ لما له من سكون (والليل إذا سجى)، كما أنه ستر من الرقباء، يقول المتنبي:

وأزورهم وسواد الليل يشــفع لي    وأنثني وبيــاض الصبح يغري بي

بينما البحر يمثل موطن الاسرار، فهو يدَّخر الكنوز وما فيها من أسرار، تجعلها تلحق رؤيتها بهذين الرمزين، وهي تسامرهما ؛ كونهما أليفين لها بوصفهما أيضاً يمثلان محطة لأنين العاشقين وملاذاتهم . أمَّا الدمعة التي رمزت لها بالحبيب بوصف البكاء من القلب إيذاناً بحس الفجيعة المدمرة التي دهمتها، " وليس أمام الذات سوى أنْ تعلن حدادها ... مما يدل على أنَّ الاغتراب كلي وليس جزئياً، داخلياً ولا خارجيا، وإنه ضارب في العمق، هو التحول من دلالة الحزن إلى دلالة الألم، وأحد الظواهر الوجدانية المشحونة بالوجع " (2)، كما أنها تجعل من الغائب نبض القلب كونه معجوناً به، بل وروحاً خلد في روحها، لشدة تعلقها بطيفه،   فجعلها تخشى أن يراه الناس دمعةً في أحداقها، فيكتشفون سر معاناتها، ثم ترمز إلى موطن الأسرار وكأنه البئر في إشارة إلى إخفاء سرها عن أعين الوشاة والحاسدين ؛ ليبقى الحبيب حياً مع روحها وهي تنبض به حباً واشتياقاً وأنين .

 

أ‌. م .د. رحيم عبد علي الغرباوي

.......................

(1) جمالية فلسفة الدهشة، د. سلام الأوسي : 57.

(2) معارج المعنى في الشعر العربي الحديث، د. عبد القادر فيدوح : 61

 

في المثقف اليوم