قراءات نقدية

قراءة في مجموعة تجليات الومض للشاعر عادل غضبان الناصري

رحيم الغرباويالعمل الفني هو أحد نشاطات الإنسان الحياتية، لكنه نشاط مميَّز بوصفه يمثل إشعاعاً للمعاني والأحاسيس من دون واسطة لها أو توجيه، جعلها تتسم بِسمة العموم؛ لما يحمله من رموز لاتومئ إلى خاص، فالفن لاسيما الشعر يرمز إلى الحقيقة في صورتها العامة، بينما الواقع يرمز إليها في صورتها الخاصة .

ولما كانت اللغة هي حقل كوني تشيع في أوساطه خبرات المعنى الذي يوصف كما المبنى، كونهما يمثلان حزمة علائق معلوماتية تتموضع أمام الذهن وتشكله، ويشكلها بوصفها دلالات متعددة الاتجاهات ومتغيرة على الدوام، وقد لخَّص بول ريكور مثل هذا الزحام الدلالي بأزاء تعدد صور المعنى بقوله : ليس هنالك من قانون ثابت يقيد عمل تفسير نص بعينه، بل هنالك نظريات منفصلة الأسس ومتعارضة تعوم على بحر من التيارات الدلالية .

والشعر الحداثي هو واحد من الأنواع التي آثرت الدلالات المتعددة، كونه يطمح إلى العام في تعدد دلالاته؛ وذلك لتشبُّع منشئه بالثقافات المتنوعة التي هي من ضروريات الخلق الواعي، كما هو شعر رؤيوي؛ لأنَّ الرؤيا تعبر إلى ماهو حقيقي ومثبت في الوجدان والعقل والباطن  .

والشاعر عادل الناصري ممن يكتب بروحٍ تعبر عن انفعالاتها برموز تحمل في طياتها أنين صراع وألمٍ دفين يعبِّر عن أعماق النفس الباطنية، وهي تلح على معاني الفقد والتيه والضياع في معظم مجموعته الشعرية، إذ نجد تجليات الومض تتعالى من قصيدة إلى أخرى؛ لتمثل شعور شاعرنا، وهو يترجمها إلى كلمات حائرة تحاول استنطاق ماحولها من الوجود الذي يستشعره، مرَّةً منفتحاً على سوسنات اللذائذ، ومرةً تهزج بأسئلة مضطربة، وأخرى ينغلق غباراً مأفوناً، وعيوناً مصلوبةً في غابة، فنراه في كلِّ التفاتاته ينزع نزعةً وجوديةً تعتمله لطلب الحرية والخلاص مثلما ذهب رفاقه إلى ديار قرارهم الأخير، إنَّها محنة العصر التي اشرأبت بها النفوس ظمأً، وهي تتوجس المجهول، فنراه يمازج بين الأسطورة والواقع، ليعالج فيها قضايا مجتمعية؛ مما يجعل النص ينفتح على لاوعيه؛ ليظهر لنا دلالات جديدة تنبِّئ بما يترجاه الشاعر من معانٍ مسددة؛ لبث المعاني التي يتوخاها الموقف لاسيما في  قصيدته (راحلون) التي يعبِّر فيها عن مرحلتين من عمره، هما : مرحلة الغنى الرومانسي الذي ولَّى، ونهر الروح الذي ظلَّ يرتوي من نسغ أحلامها الجميلة في المرحلة الأخرى، مخاطباً المطر الذي يمثل رمز الإخصاب، وهو يرسم صورة العراق منذ آلآف السنين إلى أن اكتملت خارطته المعاصرة، وكأنَّه يومئ إلى أسطورة عشتار وتموز اللذين ظلَّتْ طقوسهما تُمارَس دهراً في أرض وادي الرافدين كرمزين للإخصاب، وقد عَمَد الشاعر الحديث والمعاصر إلى توظيف الأسطورة، فيعللها الدكتور يوسف عز الدين بقوله " إنَّ القهر الروحي والذل النفسي، والمكبوت الفكري، والظلم الاجتماعي، والفوضى السياسية في العالم العربي دعتْ إلى استعمال الأساطير"،  فنراه يقول في قصيدته (إلى ومضات مطرٍ ساخن تراسيمها العراق):

نرتحل ُ، فتلتمّ أحلامُنا في الرؤوس

تصحو منتفضةً لتكتبَ عذاباتها في تاريخها السرِّي

هذا ما كان في الزمن الذي يحرِّك الأشياء نحو أوهامِها .

أهو الانطفاء إذن أم أنَّنا مازلنا ننزفُ رحيقَ الأمواه،

وننضحُ روائحَ الأدغال ؟ !!

فنغادرُ كالمسافرين مملكةَ الشهوات

تاركين بالعراء (خربشةَ) الأحراش وتناغُمَ الأصوات

ومثقلين عبر ارتحالنا بالأفكار

وغائمين فوق أرصفة النهار كظلالٍ تعبِّر حالات اليأس؛

لتلامسَ مصاطبَ آلهةْ .

فهو المسافر عن مملكة الشهوات وأيام الصبا وملاذات الأنس إلى عالم الواقع المتِّشحٍ بسطوة الهموم والمُحمَّل بِسلال اليأس، لكن شاعرنا يحاول العودة إلى أحلامه بوصفها ملاذاتٍ تمنحه الراحة، فعلى الرغم من أنها موغَلة بالأماني إلا أنَّ في تلابيبها افتضاحاً لأسرارٍ، قد عفا عليها الزمن؛ ذلك كي يؤجج في ذاته نيران المواجع؛ ليعبر إلى ضفة الأمان كما كانت الناس تنتظر الوفرةَ  والخصب بعد إتمام طقوسها، يقول :

لكننا الآن نلمُّ عويلنَا

باحتدامِ شفاهنا

وتجتاز خطواتُنا كلَّ الحافات .

ولمَّا كانت عشتار رمز الانبعاث، فهو يرسم لنا من صورة المطر تلك الإيماءة وعلاقتها بعبارتي رحيق الأمواه، وروائح الأدغال، فالأولى تمثل زمن الخصب، بينما الأخرى تومئ إلى زمن الجدب، فضلاً عن ذلك عبارة ( وغائمين فوق أرصفة النهار ... تعبر حالات اليأس؛ لتلامس مصاطب آلهة )؛ فانتظار الناس ودعواتهم لاجتلاب تموز يمثل حالات عبور الشاعر من حالة اليأس إلى حالة الغنى بالأمن والسلام والخير ذلك حينما تلتقي الآلهة على مصاطب الإخصاب.

وفي قصيدة أخرى يظهر وجعه ومأساته من الواقع المزري الذي فتك بالحرث والنسل، فنراه يقول :

أدخلُ سكوناً مُستريباً

وأنفذ من ارتباكي

ممتلئاً

برائحةٍ

تنبِّئ

بالعطب .

فهو يعيش القلق، كونه يشعر أنَّ نهاية مطافه بالعطب الذي لايبقي ولايذر، لكن نجده يركز على تيمات تكاد تكون هي محور قصائده، إذ أومضت بـ (وجع، وهلع، ووحشة، وانطفاء، وأوهام، واضطراب، وخراب، وزوال، وانكماش، وانكفاء، ورعشات، ودخان، وارتباك، وظنون، وضياع، وتأوه، وهذيان، ولا جدوى، وعتمة، وضلالة، وجمر، وضجر، وألم، ورفض، وضد)؛ مما يدل على أنَّ نصوصه تحملُ في فضاءاتها قلقاً وحزناً عميقاً، تتنازعها أرواحُ البرايا في ظل الظروف التي عاثت بها، فهي لاتصوِّر سوى اغترابه في هذا الواقع المأزوم الذي لايجد فيه مناصاً؛ لتحقيق ما يرنو إليه، وهي رؤيا تكاد ترى المستقبل غير قابل للانفتاح إلَّا على وجه المداخن التي تغطِّي سماوات الواقع، فنراه في أحيان يتوجه نحو المقدس، علَّه ينفض من كتفيه أدغال هموم، لكنه على الرغم من ذلك، يرى كلَّ شيء مضطرباً هلعاً، فهو يقول :

سأدورُ

حول أضرحتي، ارتدي فوانيسها

حاضناً أوجاعَ الكنائس،

وانكسار تلكَ المآذن المضطرمة بتراتيلها،

فأحجُّ

و ا م ض اً

إلى بيتِ بشارةٍ

تفضحُ الطرقات،

متلبِّسةً بتعاويذَ أسلافٍ

تنكفي هَلعةً .

إذ تشير سطور القصيدة أنه يعيش نزعةً وجودية، يسود فيها الاضطراب والضياع، وحتى مع ومضة المقدس التي يتمنى أن يعيش معها لحظة اطمئنان، لكن الشاعر يراها على العموم هي الأخرى مُضلَّلة بتعاويذ الأسلاف الذين حرَّفوا ما يومئ إلى قدسيتها .

فشاعرنا يرسم في مجموعته صوراً شعرية دقيقة لمعاناة الحسِّ الإنساني على هذا الكوكب الحزين الذي بات به إنسانُنا مسكوناً بالفزع المقيت .

 

بقلم:  د. رحيــم الغربــاوي

 

في المثقف اليوم