قراءات نقدية

تهجدات في حضرة السماوة، قراءة في المضمون الشعري لقصيدة انجديني

رحيم الغرباويللشاعر العراقي الكبير يحيى السماوي .

ليس كغيره من شعراء القصيدة العراقية ممن اتهموا المدينة بالدنس أمثال السياب والبياتي ومردان وسعدي يوسف وغيرهم من الجيل الخمسيني والستيني وحتى السبعيني من القرن العشرين . يشرق علينا الشاعر يحيى السماوي بطلته الشعرية البهية؛ ليوثق لنا حرصه على المدينة الرؤوم التي يحن إليها حنين الإبل لمسقط رأسها، وهو يندب ذاته لفراقها، وإن كانت الظروف القاهرة هي من حكمت عليه بالابتعاد والغربة، فهو يتَّهم نفسه بالدنس تجاه القدِّيسة المدينة، إذ نراه كما يقول أدونيس " أمحو الآثار والبقع في داخلي، أغسل داخلي " (1)، وكأنه يريد أن يغسل الأدران التي خلفها تأنيب ضميره تجاه مدينته الأثيرة، إنَّ هذا الإحساس يمثل الصدامية المزمنة التي تكشف عن عرى المسافة بينه وبين الواقع الذي يراه جحودا، بينما يرى صفاء ذاته قد نالتها غوائل ذلك الواقع تجاه مقدساته، ومنها مدينته الأثيرة (السماوة)، وهذا الاصطدام قد ولَّد لديه " الشرارة المضيئة للعالم، وأنَّ الفن ينبع دائماً من الصدام، من الرغبة في أنْ لايفقد الإنسان صفاءه، ويصبح هذا الهمُّ الذاتي جذراً لهموم الناس جميعا " (2)، فنراه يقول في قصيدته:

مُذنباً جئتُكِ

أستجديكِ صفحاً،

حاملاً جثمانَ أمسي،

فانجديني من ذنوبي

في يميني

دمعةٌ تستعطفُ العفوَ، وقلبٌ يتشظَّى

ويساري تشتكي ثقلَ كتابي المُستريب .

فنراه يقر بذنبه عساه يعيش في بحبوحة الراحة، وكأنَّه أرتكب جريرة لاتُغتفر واصفاً يساره بأنَّها تشتكي ثقل كتاب آثامه، مومئاً إلى قوله تعالى (وأمَّا من أوتيَ كتابَهُ بشمالهِ فيقولُ يا ليتني لم أوتَ كتابيَه) (3)، متوسلا أن يُمحى ذنبه؛ لما ارتكبه من عقوق تجاه مدينه، ويبدو أنه في تصويره لأمسه على هيأة جثمانٍ يومئ إلى شدَّة الحزن والأسى الذي كان يلاحقه وما زال، بينما ينغِّم كلماته بصوت النون الأغن؛ ليكثف من دلالة الحزن في المقطع، إذ أورد صوت النون والتنوين عشر مرات مستعطفاً الحبيبة (المدينة)، لكنَّنا نراه حين عَطفَ على يساره المثقلة بذنوب كتابه، أفرغ سطره منها؛ ليبيِّن بشاعة الاحساس، ولعل التنغيم بالتنوين والنون يمثلان الشجو و الحزن مع حالة من الاسترخاء النفسي معهما، بينما بشاعة ثقل الآثام ليس لها إلا صدى التعكر والقلق مما هو فيه؛ وقد عمَّد الشاعرسطره: (ويساري تشتكي ثقلَ كتابي المُستريب) بأصوات (الراء والكاف والقاف والسين والباء) من دون نون أو تنوين جميعها مثلت مدعاة شعور الجفوة والاكتئاب لما يحمله من أوزار صعاب . ثم نراه يصف حاله إزاء ذنبه الماكث في أعماقه، فيقول:

يتسلّى بحطامي ندمٌ أشرسُ

من ناب اللهيب

خذلتني لغتي

فالتمسي لي في كتابِ العشقِ عذراً !

...

سأسمِّي وردةَ الرمان جرحاً

وأسمِّيكِ دوائي والطبيب .

وأسميني جريحاً

نزفة الآهات

والدمع الصبيبْ .

فنراه يصور الندم بهيأة وحش كاسر له ناب من لهيب، وأشد ما يحرق الجسد هو اللهب الذي يجعل الألم ممضَّاً حين يحرق ببطءٍ، بينما نراه يسمي وردة الرمان جرحاً؛ لاحمرارها على الرغم من أنها تصنع الحياة، ومدينته صانعة الحياة نراه يعدُّها قلقاً له؛ لما يضنيه منها توسله غفرانها من دون استجابة، كما نراه استعمل صيغة (فعيل) لقافيته؛ ليمد فيها صوت الياء؛ فيمنح نهايات سطوره بعداً زمانياً، يصوّر من خلاله عمق مأساته، فـ (ناب اللهيب، والطبيب، والدمع الصبيب) معانٍ تجلت فيها نوازع الألم والمرض والحزن واللوعة .

ثم يعطف بأسئلته؛ ليبين كيف يتخيل الأشياء بعد نوال المغفرة، إذ نراه يقول:

... وأسمِّيني المصلِّي بين محرابينِ

يستنشقُ نعناعاً وطيبْ،

وأسمِّيكِ

التي تختزلُ الأسماءَ والأشذاءَ

والفوزَ الذي يجعلُ خسرانيَ

ربحاً ...

ويحيل السوطَ غصناً ...

وجدارَ الكهفِ نهراً

موجُهُ الشهد وشدو العندليب،

وأسمِّيكِ الفراديسَ ...

اليقين ... القِبلةَ ... المحراب

والوادي الرحيبْ .

فيحاول أنْ يلتمس العذرَ ويتوب إليها؛ متوحِّداً معها كما يتوحد الصوفي بالملكوت المقدس، فالألفاظ: (أصلي، محرابين، الفوز، الفراديس، اليقين، القِبلة) تدل على قدسية الهدف، بينما النعيم الذي يتوق إليه فنراه قد جسَّده بالألفاظ (نعناع، طيبْ، ربح، نهر، الشهد، العندليب)، وهو ما يتنمناه أن يعيش بفضاءات مدينته المقدسة الرؤوم؛ ليكفِّر عما بداخله .

ثم نراه يركن مرَّةً أخرى لحالة الإحباط التي يستشعرها مصوِّراً أنْ لاغفران لسعيه، وسوف يقضي زمنه في حمى الصراخ ولهيب القلب الموكل بأحزانه، فيعبِّر عن نوبات يأسه بسبب هذا الواقع المحموم الذي لا يمنحه ما يتمنَّاه، لما يستشعره من تقصير إزاء مدينته الحلم التي يرى ذاته أنه سيعيش لامحالة بعيداً عنها من دون أنْ ينصفها إلا بالاعتذار، فيخاطبها قائلاً:

وأسمِّيني

مسيحاً دونَ إنجيلٍ، وقربانَ المراثي ...

وأسمِّيكِ الصليبْ

والعناق الشفع والوتر

الذي

يدرأ أحزانَ المنافي

وعذابات الفتى / الكهل / الغريب .

فابعدي حيثُ تشاءين

اركبي الموجةَ، والريحَ ...،

احجبي الأمطارَ

والأنهارَ

عن بُستانِ صدري

فسيرويني الذي في بئرِ جُرحي من صُراخٍ

وبِقَلبي من لهيبْ .

فهو بهذا المقطع ينطلق بعد يأسه، ليكون كالمسيح يجوب الفيافي والوديان لكنَّه دون إنجيل؛ بوصفه حُرِمَ المغفرة، فعادَ بلا رسالة، وليس له من قربانٍ للمراثي، فهو المطرود من فردوسه الذي كانَ يأمله، بينما يسميها الصليب بوصفه المصلوب عليها، بيد أنَّه يتمنى أنْ يبقى مستديماً في عناقها كما الشفع والوتر لدى المتبتلين لبارئهم والممسكين بعروته الوثقى؛ ليدرأ عنه أحزان المنافي متوحداً مع مدينته التي صارت كرمة لصلبه، قانعاً بذلك؛ للخلاص من عذابات منافيه التي دهمته غوائلها منذ صباه حتى كهولته، حين عاش غربة الروح والجسد بعيداً عنها، وهو الذي لايرضى إلا برضاها طالما يرى نفسه مقصِّراً تجاهها، مخاطباً لها؛ إخلاصا ووفاءً بأفعال الأمر (ابعدي، اركبي، احجبي) ومتوالية الأفعال بما تحمله من معانٍ، فهو الشاعر الذي سيبقى هائماً مع أحزانه، فلا تروِّيه سوى بئر جرحه المكتنز بالصراخ، واللهيب المودَع في قلبه، عندما تُحجب عنه أمطارها وأنهارها، و صدره يبقى يباباً بعدما كان بستاناً يانع الطلع .

لكنَّ شاعرنا سيظلُّ يأمل العودة لها وإنْ لم يحن الأوان، فلطالما طلب نجدتها، وقال شعره في حضرة فيافيها الرحيبة الأضواء، إذ لابد يوماً يتكلل اللقاء بالمغفرة والتواصل بالمودة بعد إزاحة كابوس الضلالة، وتستحم الشمس بشذا اللقاء .

 

بقلم د. رحيم الغرباوي

....................

(1) أدونيس أوالإثم الهيراقليطي، عادل ظاهر: 164

(2)  معارج المعنى في الشعر العربي الحديث، د. عبد القادر فيدوح: 89

(3)  سورة الحاقة: 25

 

 

في المثقف اليوم