قراءات نقدية

مناجاة كلكامش للشاعرة أزهار السيلاوي

رحيم الغرباويقراءة في المضمون الأسطوري

في حقيقة الشعورالذي يكمن في أعماق الإنسان الشاعر زمن بعيد الغور، يُرى فيه عالم يتشح بالقوة التي تؤهل صاحبه لأنْ يصنع النموذج الذي يبتغيه من أجل تحقيق غايات عديدة لم يجد مَن يحققها له على أرض واقعه المعاصر، فنراه يستحضر الشخصيات الأسطورية أو التراثية ؛ لما فيها من تجربة متكاملة؛ كونها تتسم بالقداسة والبطولة والمغامرة التي يفتقدها زمنه في كثير من الأحيان، فيعيش حالة الاغتراب والضياع واختلال الموازين في الحقوق والواجبات، ولعل للخصوصية الشعرية بُعداً آخر يتمثل في وظيفته الدلالية؛ كون الشعر يحيل الحدث إلى دلالة أو رمز ينقل حواسنا ووعينا إلى أفق جمالي تعبيري (1)، وتعزى الأسطورة كما يفسرها مرسيا إلياد إلى أنها " تجربة وجودية كان يعانيها الإنسان البدائي، الإنسان الديني الذي يعيش في المجتمعات التقليدية والشرقية، ولهذا فأنَّ الأسطورة في منظوره ترمز إلى واقع مقدس يدرك الإنسان عالم الغيب من خلاله " (2)، كما أنَّها تُعبر عن " أسلوب في التفكير، أو نمط من أنماط التفكير بالقوى البدائية الفاعلة الغائبة وراء هذا المظهر المتبدِّي للعالم، وكيفية عملها وتأثيرها وترابطها مع عالمنا وحياتنا" (3)، ولهذا راح الشعراء المحدثون يتناولونها ؛ للتعبير عن واقعهم خلال توظيف المقدس ؛ لأنه أوكلُ بالاطمئنان وأقنع بالتعبير عمَّا يتطلبه الموقف الشعري .

و لعل الشاعرة أزهار السيلاوي ممن تناول الأسطورة وتعامل معها بقدسية؛  لتمنح تجربتها وقعاً متكاملاً ؛ كي تقتنع أنَّ هناك منقذاً خارقاً يمكنه انتشالها مما تستشعره من ضغوط نفسية سببه الواقع المأزوم ن وما من جدوى إلا أن تستحضر شخصية أسطورية قريبة، لما يمكنها أن تتوسله فيكون لها خير معين , إذ نجدها اختارت كلكامش الذي عرف ببطولاته الخارقة، ما حدا بها أن تدعوه من أجل أنْ  يعالج الواقع، ويقيم مملكته الأثيرة بوصفه يستمد قوته من عوالم خارقة، تقول :

ها هنا،

أغسلُ وجهي بأريجك

بعد ثوراتك الملحميّه

لا قرنفلَ لي..

حين يُعتقلُ المطرْ!

عصافيرُ أورَ جريحَة

يا اِلهي..

إذ نراها تشكو بثَّها في أرض الرافدين منتظرة عشتار إلهة الخصب ؛ لينزل المطر على بلادها عساه يبعث الحياة بالزروع ويخصب القرنفل الذي يمثل الغنى والوفرة، إذ هي ترى عصر كلكامش كان أخصب مما هي عليه حياتها الآن فتطلب منه أن يغسل وجهها بالأريج كناية عن دعوتها لتعويضها ما استُلبَ منها، فهي تقارب بين زمنين زمن الولادات والخصب وهو الزمن الأسطوري، وزمن الحاضر الذي يمثل واقعاً مريراً ليس فيه سوى الأسر والعبودية والآثام، ولعل العصافير رمز للقلوب الطيبة من النساء والأطفال والشيوخ في بلادها. لكنها لاتقر ببقاء الواقع ما جعلها تحدس بظهور نبيٍّ؛ إشارة إلى بشارة سماوية مرتقبة، تقول :

ثمّةَ نبيٌّ يولَدُ في العتمة

يمنحُني مناسِكَ الأمنياتْ

حتى تنتهي مواسمي

وسط صلوات مفقودة

ها أنا ذا منفية إلى أقاصٍ بعيدة

يرميني.

أنَّ أمنياتها لابد يوماً تتحقق – حسب رؤيتها - على الرغم من أنَّ تلك الأماني منفية إلى أقاصٍ بعيدة ؛ كونها طالبت بحقها يوماً من أجل حياةٍ عامرة بالعز والخلود. فهي تحكي معاناة أبناء جيلها وما يتعرضون له من حيف في ظل الحكومات المتعاقبة ؛ لذلك تبتكر معاني للأساطير بوصفها تشكل حصيلة تجارب البدائي ومواقفه، التي صارت تمنحها رؤىً جديدة، تقول :

لأنّني قبَّلتُ كلكامش

الذي نامَ في مراسي الأسى

حين قطفَ سنابلَ النور،

مباركةٌ هي شفتاك

ورمادُك

الثائرُعلى بلادٍ بلا ضفائرْ!

فتقبيلها كلكامش كان سبباً في إقصائها، والتقبيل هنا الطموح الذي تبتغيه والمثال الذي رجته مسدَّدا بطريق كلكامش الذي وصل إلى أقاصي العالم ؛ ليعثر على عشبة الخلود، فتراه مباركاً، وأنَّ رماده يمثل الانبعاث الحقيقي للحياة، إشارة إلى أسطورة الفينيق الذي يحرق نفسة عندما تحين نهايته ؛ ليولد من رماده فينيق جديد، بينما الضفائر مثَّلت لديها رمز الحياة والخصب، بينما فقدانها، فيدل على الجدب واليباب، فهي من خلال قراءتها لتجارب الحياة مكَّنتها من صب طاقاتها الشعرية بانفعال حي، وبمخيلة خلاقة، ثم تقول  :

أيا سليلَ أوروك..

أشكو اِليك نوارسَ خائِنَه

تمرّدتْ على شرعيّتكْ

هيّا استيقظْ من نومِكْ

عُدْ ياراعيَ السّورِ.

وانتفضْ..

ارمِ خناجِرَكَ على نوارس الماء؛

فقد تكاثرتْ على وجهِ الفراتْ..

فهي ترى أنَّ البراءة في بلاد الفراتين اليوم قد خانت الأمانة، وخرجت عن شرعية العدل ؛ لذلك تنادي حامي السور كلكامش أنْ ينهض من نومته ؛ ليحقق للإنسانية تطلعاتها نحو مستقبل مشرق، كما كان عصره الذي انماز بالبطولة والعدل والهبات الكثار حيث كانت السماء مناط كرم لأهل أوروك، لكن موطنه اليوم قد فقد حيويته، ولابد من تغيير ولو بالقوة لإعادة المسار إلى نصابه بعدما حرَّفته أيادي المدنس التي ما تزال تضطهد طلَّاب الحرية وناشدي الحياة الحرة الكريمة .

 

بقلم د. رحيم الغرباوي

..........................

(1) الخطاب النقدي عند أدونيس، قراءة الشعر إنموذجاً، د. عاصم العسل : 51

(2) مضمون الأسطورة في الفكر العربي، د. خليل أحمد خليل :11

(3) الأسطورة، ماجد السامرائي، مقال، مجلة عمان : 62

 

في المثقف اليوم