قراءات نقدية

الصورة الجامعة.. قراءة في النسيج المضموني

رحيم الغرباويلقصيدة (مهلاً أيُّها الزمن) للشاعرة هدى الجابري

الشعر هو توق الروح؛ لاسترداد عالمها الأثير، ولا يتشكل ذلك إلا بالاستكانة بعد التعطش، والهدوء بعد الثورة، والأمل بعد التشاؤم، ولعل الأضداد هي ما تعمل على انفراط الفكر بين عالمين لاتتحقق بينهما الموازنة إلا بالبوح؛ لذا ولدت اللغة لدى الآدميين؛ كي تتوازن الرغبات أمام تحققها، والذي يدهش أنَّ اللغة هي مفاتح القلب حين يطرب أو يحزن، والعقل حين يملي ويستجيب، إذ أنَّ لغة الوجدان هي لغة تعبِّر عن الرغبات، وتنتظر من ديمها الاستجابات الذي يلعب القلب دوراً فاعلاً في شحذ هذه اللغة التي يصدِّرها العقل، بعدما يبتكر لها سلسلة من الايقاعات المنظمة حسب تدفق خلجاته؛ لتكون الأقوى تأثيراً، على المتلقي بوصف المشاعر تتأتى بلغة فنية حين يكون خالقها فنان شاعر، ويبدو أنَّ الفن يصدر عن الدماغ لا عن القلب ... أي لاينبغي لقلب الفنان أن يغلب عقله أو أنْ يجعله يفقد صوابه، بل لابد للفنان أنْ يبقى مالكاً لانفعاله.. ومعنى هذا أنَّ الشعر صورة من صور التحرر؛ لأنَّه في أصله حرية، إذ ليس الشعر انفعالاً كما يرى البعض، بل هو مرآة لهذا الانفعال (1) ينسل من طريق اللغة التي يضفي عليها العقل من طاقته الخلَّاقة المُبدعة، ولعل في التعبير الشعري عمقاً إنسانياً في كثير منه، فهو يكشف عن قيمة الأثر الفني بوصفه ظاهرة حضارية ذات دلالات موضوعية، أي أنَّ النص حين يظهر قد روعي فيه فنيَّته التي يتوجَّب فيها مقومات النص التركيبية والإيقاعية والدلالية؛ لدواعٍ يتقصدها ناظمها؛ كي يصبح هذا النتاج فنَّاً وشرطه أنْ يستولى على قلوب المتلقين؛ ولا يكون ذلك إلا بفنية احترافيه، تمكِّنه من بعث المتعة والطرافة؛ وما على الفنان إلا أن يراعي مقومات العمل الفني، ومنها الايقاع والموضوع والتعبير .

وقد صُنِّف الشعر إلى مذاهب منه الكلاسيكي، والرومانسي، والرمزي، والسريالي، وغيرها، ويبدو أنَّ المذهب الرومانسي - مدار حديثنا - كان على نحو خاص " نظرية جمالية فلسفية، إذ أنَّ مبادئ المعرفة الفنية وعكس الواقع على أيدي الرومانسيين لايمكن وعيها بمعزل عن مضمونها الفلسفي "(2) , فكان يُعتَقد أنَّ "ما يثير الشعر فيهم هو القوى التي تسيِّر الكون "(3) .

ولعلَّ الشاعرة هدى الجابري من النساء المبدعات اللاتي نظمن وجدانهن بسلسلة حرفية معبِّرة فيها عن لواعجها، وهي تحاول أنْ تداخل بين الرومانسية والميتافيزيقا؛ لتمرر من خلالهما تجربتها الشخصية؛ ولتمنح النص طاقة إيحائية؛ ممازجةً في آنٍ بين شعورها الرومانسي ورؤيتها الفلسفية؛ لتعطي الشعر حرية البوح عن هاجسها في فكرة اللانهائي؛ وهي تتلقى العالم تلقياً فلسفياً، إذ نجدها تبث أفكارها تجاه المُنتَظر، مخاطبةً الزمن بقولها:

مهلاً أيُّها الزمن …

لا تُسرعْ …

مازلنا في بداية المشوار

قال:

سيأتي … ,

انتظريني هنا

في هذا المكان

… .

فالزمن في ضوء رؤية الشاعرة يمثل لوناً " من الأبدية الممزقة التي تتصف أجزاؤها جميعاً وهي الماضي والحاضر والمستقبل بأنَّها دائمة الإفلات، ومصير الإنسان يتحقق في هذه الأبدية المفككة، وفي هذه الحقيقة المرعبة للزمن " (4)؛ لذلك نراها تخاطب الزمن؛ وتناشده كي يبطئ في سيره؛ لتبقى محافظة على بهائها الذي تخشى عليه الزوال، في حين تنتظر ملاذها الغائب؛ مما جعل الزمن ينتظرها دون أنْ يستمر في المسير، ولعل توقُّفه لايمكن أنْ يلحق بالانسان الجهد أو التعب، وهي نظرة ميتافيزيقية أرادت بها الشاعرة أنْ تعيش عالماً يوتوبياً، يمثل الخلود الذي بحث عنه كلكامش حين راد أنْ يوقف الزمن؛ كي يبقى حياً لا تأخذ به الأسباب، فهي التي تدرك أنَّها ستنتظر طويلاً، ولابد لها أنْ لاترعوي طالما توقَّفَ لها الزمن؛ لتظلَّ بعنفوانها، ومشاعرها , وجميل وفائها .

تقول:

لا يهمُّني غروب

الشمس،

ولا رحيل المواسم

زهوري في ربيع دائمٍ

لا تعرف الذبول .

فنراها تطلق لفظة (زهوري)؛ كناية عن الحيوية والجمال اللذين تتمتع بهما، فهي في ربيعٍ دائم؛ كون الزمن أذعن لها؛ لتحقيق ما تصبو إليه، ما جعلها تستشعر أنَّها تعيش في أوج كمالها ولايتغير فيها ما تخشاه، كما أنَّها والأمل وجهان خالدان بعدما توقف لها الزمن الأرضي، فأضحت تعيش سرمدية الإحساس .

ويبدو أنَّ من يعيش الحالة الشعرية يقع في كثير من الأحيان على قدم طروحات الفلاسفة أوالمفكرين بوعيٍ أو دون وعيٍ منه؛ لذا نجد المصادر التراثية والمعاصرة تنقل لنا رؤية ابن عربي للكمال من أنَّها: " رؤية انطولوجية وعرفانية، لا رؤية خلقية، فالكمال هو التحقيق الوجودي لا الكمال الخلقي، أي الأمر المحمود عرفاً، وعقلاً، وشرعاً، وعلى ذلك يكون الكامل هو من كان في ذاته صورة جامعة لكل الحقائق "(5)؛ أما رجال الدين و الفلاسفة، فيرون أنَّ الكمال في القيم الأخلاقية، بينما الرومانسيون، فيرون ذلك في جمال الطبيعة وحسن الخَلق، ولذلك لانبخس لشاعرتنا إحساسها بالكمال، ما جعلها تُعجِّل بطلبها من الزمن لأنْ لايسرع؛ كي تحافظ على ما هي عليه، منتظرةً بذلك الحبيب الذي طال غيابه، وهي بأمس الحاجة إلى عودته.

 

د. رحيم الغرباوي

..............................

الهوامش:

(1) ينظر الفنان والانسان، د. زكريا ابراهيم، مكتبة غريب، الفجالة، د. ت: 96

(2) نظرية الرومانسية في الغرب، أ ز س دمتريف، ت د. نوفل نيوف، دار التنوير للترجمة والتأليف والنشر، دمشق، 2007م: 21

(3) اتجاهات جديدة في الشعر الانكليزي، ف . ر . ليفز، ت د. عبد الستار جواد، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط2، 1987م: 170

(4) العزلة والمجتمع، نيقولاي برديائييف،ت فؤاد كامل، طبعة دار النشر المشترك، بغداد، 1986م: 123 .

(5) المعجم الصوفي في الحكمة في حدود الكلمة، د . سعاد الحكيم، ندرة للطباعة والنشر، لبنان، ط1، 1981 م: 92.

 

في المثقف اليوم