قراءات نقدية

الوطن بين شغاف القلب ومحاريب الروح

رحيم الغرباويقراءة في قصيدة (قدِّيسة الشفتين) للشاعر يحيى السماوي .

الوحدة الخفية لكيان المتألِّه هي وحدة وجود، ومن هذا يمكننا أنْ نقرأ عقيدة الشاعر حين يعيش محنة الاغتراب الروحي والجسدي على السواء، إذ نراه يمازج بين نقيضين من كونين متضادين ومتآلفين، هما الروح السماوية والجسد الأرضي وما يكتنفهما من نزعات ورغبات، لكن عند المتألهين من الأنبياء والأوصياء والولاة والشعراء نجد أنَّ نزعتهم تختلف عن السواد الأعظم، فهُم يرشفون زادهم من ينبوع المطلق؛ كون الروح في أحايين كثيرة تترفع، فيذعن الجسد لها ويرضخ؛ ما يجعله ينقاد لها؛ لذلك نجد أن الروحانيين يعتقدون بعالم الغيب أكثر من اعتقاد الآخرين به؛ فنجدهم يعشون بشفافية عالية، ومنهم الرمزيون والسرياليون والمثاليون والرومانسيون، أي تتعد مذاهبهم في الرؤى بتعدد مشاربهم وتوجهاتهم الثقافية والعقدية .

ولعل هذا اللون من الاتجاه تقَلَّده الشعراء النبوئيون الذين وجدوا من الشعر الميتافيزيقي "تجربة شخصية يفجرها الشاعر في حدوس ورؤى وصور، فالشاعر الميتافيزيقي لايعنى بالأفكار إلا من حيث انعكاسها وانصهارها في نفسه، فالشعر استبطان للعالم وجهد للقبض عليه دون حل أو جزم أو تحديد، وخارج كلِّ نسق أو نظام عقلاني منطقي "(1)، فقد رأينا وليم جيمس شديد الولع بالميتافيزيقيا، إذ يرى أنَّ العلاقة بين الفيلسوف والشاعر وكلاهما يغوران في عالم الميتافيزيقيا " ليست قائمة على الموضوع، ولا على طبيعة المعالجة فحسب، بل هي علاقة تقارب على أساس الميادين التي يدور في فلكها كلٌّ من الفلسفة والشعر " (2)؛ لذا نجد أنَّ علاقة الشعر بالميتافيزيقا، هي أبرز " محور في شبكة الرؤيا الإبداعية للفنان، تظهر على السطح بوصفها واجهة باطنية لعالم الفن، إذ أنَّ ميتافيزيقا الفن بوجه عام هي معالجة الفن من رؤيا معينة، أعني من حيث علاقته بالوجود الإنساني: والفنان أوالعبقري هو الذي تتيح له قدرته المعرفية أن يرى حقيقة العالم بأسرِّه والوجود في جملته "(3)؛ لذلك نرى رسالة الشاعر هي ذاتها رسالة الفيلسوف، إذ أنَّ عثور كلٍّ منهما "على موضوع مؤثر يدل بوضوح على امتلاك كلٍّ منهما حالة مضيئة تسمى الإلهام أو الحدس أو الاستبصار... وثمة قرابة تجمع ... هي العناية والانشغال بمصير الإنسان ومواقفه البشرية، وقيمه الخلقية " (4) .

ويعد الشاعر يحيى السماوي من الشعراء الذين انشَّدوا إلى عالم الميتافيزيقا وهو ينظر بعين الفيلسوف وبقلب الشاعر حين يخترق عوالم الميتافيزيقاً بحدوسه واستبصاراته بعدما عاش الغربة بعيداً عن الوطن متوحداً مع المعنويات؛ ليقدِّم صوراً لها بأشكال محسوسة، موظفاً صور الجمال المادي في خدمة المُستَبصر المعنوي؛ ليرقى إلى عالم المثال (المقدس) بعدما ألمَّت به مواجع الوطن السليب والغربة الماحقة التي ما زال يعيشها بعيداً عنه، فنراه يجسد في قصيدته (قدِّيسة الشفتين) كيف براق المرأة يتطوَّف في عالمٍ سرمدي؛ من أجل أنْ يرى إشراقة النور شأنه شأن المتصوفين وهم يغمرون ذواتهم في شمس الحقيقة، فيقول (5):

في ليلِ إسراء المقدَّسة /البتولِ /

الإبنةِ / الأمّ / الصديقةِ / والرفيقةِ

أشرَقتْ شمسان

شمسٌ خضَّبتْ بالضحكةِ العذراء

أوتارَ الربابةِ

فاصطفاها القائمون إلى صلاة العشق

مِئذنةً ,

وشمسٌ نورها الصوفيُّ

أكثرُ خضرةً من بُردةِ الفردوسِ ...

أسرى بي شذاها نحو مملكة الرحيق.

ويبدو أنَّه يتعالق مع ليلة إسراء الرسول التي لها أثرها عند المسلمين؛ لما لها من قدسية عظيمة، إذ أوردها قرآننا الكريم في قوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (6)، ما جعل المرأة (الوطن) بمخياله تتطوف وهي تحمل سرَّ الأبدية، و من خلال هذا الإسراء المقدس انبثقت شمسان، الأولى خضَّبت أوتار الربابة، كناية عن التراث المجيد الذي ظلَّ ناصعاً بما فيه من حسٍّ فني مُمثَّلاً بالربابة، وهو دائماً في حالةٍ من السرور؛ لهيبة مقامه لدى المثقفين والمجاهدين والمتذوقين وعشاق الفن؛ ولا يخفى أنَّ تراتيل القرآن الحنيف تؤدى بموسيقى طروبة تخشع لها القلوب قبل الآذان؛ ما عُد هذا التراث مئذنةً في رؤيا الشاعر؛ لما يتَّسم به من نبل وقداسة، أمَّا الشمس الأخرى التي بزغتْ، فهي شمس الشاعر المتصوّف الذي أسرى به شذاها نحو مملكة الرحيق، وهل في الوطن أجمل من رحيقه ؟ ولعل الشاعر في هذا التشكيل الفني يشير إلى قداسة الهدف وسموه، وهو يتوجه صوب المقدس ببراقين: براق المرأة (الوطن) التي يرى فيها صوراً متعددة من القداسة والوفاء والحنان، وكل ماهو جميل وسار . والآخر: هي الشمس ذات النور الصوفي الأخضر التي لاتُقارَن حتى ببردة الفردوس، وأيّ بهاء هذا الذي يستشعره الشاعر، وهو يعيش عالمَ الدهشة والرفعة والخيلاء حين يستذكر المرأة (الوطن) ورحيقه .

ثم يقول:

فأنا بها

المتهجِّد

الضلِّيل

والحُر المكبَّل بالهوى القدِّيس

والعبدُ الطليق،

والمٌقلة العمياء

والقدَمُ المُخضَّبُ

بالبريق .

وأنا اللهيب الباردُ النيران ...

والماء الذي أمواجهُ

تغوي بساتين اللذائذِ بالحريق .

نرى السماوي يدخل في صراع مع الذات، فهو المتهجِّد والضلِّيل، والحر والعبد، والمقلة العمياء والقدم المخضَّب بالبريق، وهو اللهيب البارد والماء الذي يغوي بالحريق، يشير بتلك الأضداد إلى التراث القوي والمعاصرة الضعيفة الغوية المستكينة لواقع العراق اليوم , فبعدما كان مقدساً صار مدنساً، وبعدما كان فتياً وحرَّاً طليقاً، صار عبداً مملوكاً في ظل الاحتلال والتبعية، وكما كان لهيباً صار بارد النيران، بينما بساتين اللذائذ صار يغويها المال وهو ينهمر على بساتينها لكنه، ما فتئ يغوي تلك البساتين بالحريق، في إشارة إلى الدمار الذي خلَّفته القوى الضالة من تفشٍّ للفساد والسحت الحرام في ضِياعهم و(فللهم) وبساتينهم التي جعلوا من الماء يسري فيها إشارة إلى المال الحرام، مستعملاً لفظة الماء مجازاً على الرغم من أنه يطهر الأشياء لكن استعمله مجازاً؛ لعلاقة السببية .

ثم يعطف، ليقول:

أهي الطريق

إلى المزيد من الفجائع؟

أم هي الفردوس؟

لستُ اللهَ ...

كيف – إذن - سيعرف ما نهايتُه الغريق؟

فنراه يعيش الحيرة أمام هذه الفجائع، فهو يستنكر أنْ تكون الجنة التي وُعِد بها العراقيون ما قبل سقوط النظام بهذا الحال، فالوطن اليوم ليس هو الجنة المرتجاة، ولعل السفينة التي يقودها المتخرصون غارقة لامحالة ولايمكن للغريق أن يدرك النهاية مادامت الأمور آيلةٌ إلى المجهول .

ثم يقول:

الورد للشرفات ...

والماء السلافةُ للفراشة

انجدي حلَّاجك المحكوم بالصلبِ المؤجَّل

انجديه !

عسى ينشُّ السعفُ عن صحنِ الفراتِ الجوعَ

والقنديل في ديجورِ دجلة يستفيق .

ليقرر حيقة أنَّ الورد للشرفات تجمِّلها، بينما الماء الزلال هو منهل الفراشات كناية عن الترف الوديع لكل ماهو حي وجميل، فالورد لايحيا إلا بالنظر إليه بعناية ووداعة، والشرفات رمز الرخاء والعمران والمدنية، بينما الماء السلافة فيمثل الفطرة النقية والطيبة التي تتدلع حوله الفراشات في إشارة إلى عصور النقاء، فالسماوي يقارن هذه الصورة بالماضي البعيد حيث حضارة العرب ونقاؤهم وصفاء عالمهم الغني بالجمال، الوارف بالخصوبة؛ مستحضراً المدينة الفاضلة الأثيرة (بغداد) ذات التراث التي نجدها ماكثة في ذهنيته؛ لتنجد الحلَّاج من الصلب، وحلاج الشاعر مبادؤه التي تخالف مبادئ حكَّام العصرمن الظلاميين؛ كي يوحي للسعف أنْ ينشَّ الجوع عن صحن الفرات، ومن عادة السعف الذبول حين يموت صاحبه أو إذا مادهم من يرعاه عارض مميت، فبمحياه يعمُّ الخير، إذ يعود السعف؛ ليثمر من جديد، فيملأ صحون من يسكن الفرات، ويعني بذلك أبناء وطنه العراق، أمَّا القنديل فيعود مرة أخرى يضيء إذا ما عاد الحلَّاج إلى بغداد من جديد؛ ليحيي المبادئ والقيم والعلوم والمعارف التي هي على وشك الضياع لما آل  إليه الوطن بجميع مرافقه .

ثم يقول:

الماءُ أعطشني

فهل لي من سرابكِ رشفةٌ

تحيي رمادَ غدي ؟

الشواطئ أوصدتْ أنهارها

والنبعُ فرَّ،

وليس من حبلٍ لأدلوَ

من سلافةِ بئرِ واديكِ العميق،

أو لستِ مَنْ بعَثتْ رمادَ هشيمِ مائدتي

وأيقظتْ الربابةَ من عميقِ سُباتها

فاخضرَّ بعد يباسه

حجر الطريق .

ولكونه يعيش في الغربة، فقد أنهكه الظمأ، وأنَّ بلده صار سراباً، فعساه أنْ ينهل ولو رشفةً من لقائه؛ لتحيي رماد مستقبله بعودةٍ مأمونة، ويبدو أنَّه يتأمل خيراً في قابل الأيام، أما في الوقت الحاضر؛ لما للظروف البائسة التي حلَّت ببلده؛ ما جعل الشواطئ توصد أبوابها أمامه، بينما النبع فرَّ هارباً من ضجيج الحروب والمزمجرات، وقد أشار للشواطئ والنبع كونهما رمزين من رموز الخير والعطاء، كما أنَّه ليس هناك من حبل؛ ليدلو دلوه بواسطته، فكل شيءٍ عائد إلى يباب . ثم يُسائل بغداد أليست هي يوماً من بعثت من هشيم رماد مائدته الخير الوارف ؟ كما أنَّها هي من أيقظت فيه تراثه الأصيل الممثل بالثقافة والفن والإبداع بعدما كان في سبات عميق، بينما هي من جعلت الطريق مخضرَّاً يوماً؛ كناية عن نيل الهدف . ويبدو أنَّ استفهاماته هي أملٌ مستقبلي يريد إضاءته؛ لأنه يحاكي بغداد عاصمة بلاد الرافدين الذي انماز بأسطورة عشتار رمز الولادة والخصب والنماء .

 

بقلم د. رحيم الغرباوي

..................................

الهوامش:

(1) زمن الشعر، أدونيس: 279 )

(2) مشكلة الفلسفة، د. زكريا إبراهيم: 231-244

(3) دراسات في الشعر والفلسفة، د. سلام الأوسي: 56، وينظر:الفنان والإنسان، د. زكريا إبراهيم: 226

(4) دراسات في الشعر والفلسفة، د. سلام الأوسي: 86

(5) مجموعة (اطفئيني بنارك) للشاعر يحيى السماوي: 57

(6) سورة الإسراء: 1

 

في المثقف اليوم