قراءات نقدية

(سليل كورونا) قصة للكاتبة فاطمة هادي شاكر

رحيم الغرباويقراءة في الرؤية السردية وتقنيات نظمها.

ما إن أطلَّت جائحة كورونا على العالم، حتى رأينا أقلام الأدباء تعجُّ بالكتابة في أدبياتهم عنها ووصفهم لمدى تأثيرها في العالم بعدما أفرط الإعلام في الحديث عن مضارها وكيفية الوقاية منها، وتسجيل أثارها المروِّعة ؛ كونها عمَّت العالم، فزهقت أرواح عشرات الآلاف و بها أصيب مئات الآلاف , وما تزال تفتك ببني البشر من دون الوصول إلى علاج لها إلى الآن، فضلاً عما قامت به من هدر لاقتصاد العالم جراء الحظر في أغلب البلدان؛ مما جعل حكومات الدول تنشغل بجائحتها الخطيرة، وصارت بذلك موضوعاً مهماً يشغل بال الجميع، فراح الأدباء يتخذون منها ثيمة مهمة لموضوعاتهم لا في أدبيات أدباء اللغة الفصحى , بل طغت حتى في الأدب الشعبي ومنه الشعر .

ولعل كتاب (ما الفن) للروائي الروسي تولستوي خير مدعاة ؛ لتأكيده على الاتجاه الهادف للفن، ورأى فيه خير وسيلة لتحقيق الاتصال والترابط بين أفراد المجتمع، ونقل معاناته عبر وسيلة الأدب، وتوثيقه لما يجري من أحداث تعمُّ العالم.

و قصة سليل كورونا للأديبة الواعدة فاطمة هادي شاكر من القصص التي تناولت جائحة العصر والتي مازالت تقلق البشرية، فقد تناولتها بطريقة تكاد تكون من فنتازيا الأدب، إذ حلقت بأحداثها إلى عالم قديم عن طريق التذكر بما يطلق عليه النقاد الاسترجاع، جاعلةً من البطل (حسنين) ذلك الشاب الوديع يتذكر من خلال التاريخ الاسلامي واليهودي الواقائع التي حصلت لليهود أيام السبي البابلي ؛ وإن كانت الكاتبة امرأة مسلمة، لكن عاطفتها لاتفرق بين العدو والصديق في ظل الإنسانية، فهي عن لسان بطلها (حسنين) فيما قرأه في بطون الكتب، تنقل لنا رؤيتها تجاه الحياة والإنسان " وظلت تجول في مخيلته الأحداث، وكيف استعبد نبوخذ نصر اليهود، وجعلهم عبيداً يسقون الجنائن المعلقة يومياً، كما يتخيل السحرة اليهود الذين كانوا يعلِّمون السحر، مما اختلط لديه الفزع والخوف من المكان وأحداثه الأليمة من جهة، والرأفة والمسكنة على من قطن داخل أسوار الأسر من جهة أخرى "، فهي تمازج بين الخوف من مجهول وبين عائلات لاذنب لها جُلبت أسرى ؛ نتيجة سياسة الحكومات التي في أغلب الأحيان يكون ضحيتها الناس الأبرياء . فضلاً عن ذلك الصورة النفسية التي حَكَمت بها بطلها، وهو يتنبَّأ بشيءٍ ما سيحصل في قابل الأيام ؛ نتيجة الظلم المفرط الذي يقع كل يوم على العالم لاسيما العالم الإسلامي ومنه العربي، وكأنها اللعنة التي قال بها أرميا أحد أنبياء اليهود من أحفاد لاوي بن نبي الله يعقوب و" إرميا بن حزقيا كان من أنبياء بني إسرائيل ومن سبط لاوي، في عهد صدقيا آخر ملوك بني يهوذا ببيت المقدس. ولما توغل بنو إسرائيل في الكفر والعصيان أنذرهم بالهلاك على يد بختنصر (نبوخذ نصر)، وكان فيما يقوله إرميا: أنهم يرجعون إلى بيت المقدس بعد سبعين سنة " في إشارة لها إلى الحتمية التاريخية التي لابد للقدر أن يقيمها على بني البشر . ويبدو أنَّ الكاتبة تحتج بكل ما يمتُّ إلى السماء، ولنظرتها الموسوعية التي شملت بها كل العالم، جعلها تستعين بأرميا وهو نبي لمن ادعى الانتماء إليه في عصرنا الحاضر؛ كي تطلق العنان لرؤيتها الشاملة ولجميع البشر حينما تحل بهم المحن، هي نتيجة لأعمالهم السيئة وتأييدهم للحروب والنيل من الآخر، أو سكوتهم عن ظلم الظالمين ما يوقعهم بشرور أعمالهم " وفي منتصف الليل ذهب إلى الشرفة التي تطل على الشارع المكتظ بالبنايات العتيقة والذي ليس فيها إنارة كافية , وهو يصور ما كانت عليه العوائل اليهودية التي سبيت رغماً عنها واستعبدت، فعاشت محنة قاسية من الاستبداد، فخلَّفت بذلك ما جنته الأحفاد اليوم، وما سيجنيه العالم أجمع ... ظلت هذه الأفكار تراوده حتى الصباح" , وهي تصور أنَّ الشوارع مظلمة، بيد أنَّ بطلها على الشرفة، ما جعلت خفوت الأضوية إيذاناً بانطفاء الحياة، ولو لمرحلة لهذا العالم والذي مثلته برؤية (حسنين) العالمية، حين رأيناه ينظر بمقياس واحد لجميع بني الإنسان، إذ لايهمه انتماء الناس لطوائفهم ومذاهبهم، بل نظر إلى روح الإنسان فيهم .

ولعل تشاكل الأنساق الدلالية في النص، جعلنا نقول أنَّ مقصدية الكاتبة كانت دقيقة حين وظَّفت الماضي عبر التخيُّل ؛ لتربطه بالحاضر ؛ فحزنه على أخوته وهم لم يتمتعوا ولو بسفرة، إذ تبغي الكاتبة من ذلك : أن تبين رأفة (حسنين) على المحرومين من البشر فجعلته يستشعر أخوته " استحسن حسنين الذهاب ... بصحبة مجموعة من الطلبة، الذين كانوا يمرحون بالتصفيق والغناء، تتخلل أوقاتهم بعض النكات وهم يعزفون بآلآت موسيقية شعبية، بينما يتبادلون الأدوار في الغناء طيلة الطريق، إلا أنَّ حسنين كان منشغلاً بإخوته الصغار الذين ما خرجوا سفرة طيلة حياتهم، فبدأ يخالجه الألم والحزن وهو يسرح بعيداً عن أجواء السفرة التي صارت عليه وبالاً ؛ نتيجة ما يدهمة من تفكير سالب " ما جعلها تظهره بصفاء السريرة ونقائها، كي تفيد من ذلك أنَّه بإمكانه أن يتطلع لاستشراف المستقبل عبر حدوسه تلك الحدوس التي يتمتع بها العرفانيون، كونهم أنقياء ومن عباد الله المُخلَصين.

كما تطلعنا على أنَّ العِلم هو أحق من أنْ نتدبر الأمور بجهل، وأن نضع أسباب الأشياء للغيب، وهي تذكر لنا أنَّ المساجد أغلقت أبوابها وحتى البيت الحرام أُفرِغ من المعتمرين، في إشارة إلى أنَّ الإنسان عليه اللجوء إلى علوم العصر , وأنَّ الحظر الصحي لم يأتِ اعتباطاً، إذ حاولت أن تغذي هذه الفكرة عن لسان أخي حسنين بعد إصابة والدهما بالفايروس، قوله: " ألا تعلم بأبي وتردده على واجبات التعازي والوافدين وزيارتهم المتلاحقة، لتحقيق هذه الواجبات الاجتماعية " وأن الخلاص من الأمراض يأتي من نصائح وإرشادات من هم مسؤولون عن ذلك ما جعل نهاية القصة مأساوية، إذ انتهت بوفاة الأب وإصابة الأخ بفعل الوباء .

أما أهم التقنيات التي وظفتها الأديبة فاطمة هادي، منها صوت الراوي (الساردة) يعينه بعض أصوات شخصيات القصة، وهم (البطل، والصديق، والأخ, والأب) وإن لم يكن لهم سوى بصمات صوتية قصيرة، لكن حاولت أن تنقلنا من الرتابة في السرد إلى كسرها، بواسطة الحوار، فضلاً عن ذلك اتكأت على الأشخاص لاسيما حسنين ؛ لتبين رؤيتها من خلال الصراع الذي عاشه، والمقارنة بين ظلم العالم لبعضه بعضاً، والجائحة التي عمَّت العالم للاقتصاص منهم، وتذكيرهم أنَّ الإنسان ما يزال مقصِّراً تجاه أخيه الإنسان . فقد استطاعت أنْ توضِّح بعض الأحداث من خلال حوار الشخصيات .

ولعل الحوار اتجه من طريقين : الحوار المباشر، والحوار غير المباشر، وتمثل بالمنلوج الداخلي عبر تذكر حسنين للأحداث التاريخية التي قرأها وشاهدها، وكأنها صورة سينمائية في مخيال البطل الذي شكَّل حديث النفس حواراً داخلياً في النص.

أما الجمل، فقد طغت الجمل الفعلية في القصة، لما للفعل من حركة وتجدد، ولعل سرعة كورونا وانتشارها في العالم هي بمثابة سرعة الأحداث وتصاعدها من خلال استحضار حسنين للماضي ودمجه بالحاضر عبر منصة المقايضة التي لابد أنْ تحل بمن لايلتزم الشرائع أو القوانين .

بينما لغتها كانت لغة عالية واضحة ؛ لما للقصة من اقتراب للواقع الذي نعيشه اليوم مع جائحة كورونا، أبعدنا الله وإياكم عن شرورها .

أما وجهة النظر، فقد كانت من خلال زاويتين لكنهما التقتا في بؤرة واحدة، هما الساردة و البطل، إذ جعلت أغلب المشاهد والرؤى تتحرك من خلال سردها، بينما الفكرة كانت تتم من زاوية نظر حسنين .

بينما الأزمنة والأمكنة، فعلى الرغم من قصر القصة إلا أنَّ مجريات الأحداث قد جرت في أماكن متعددة، كذلك الزمن على الرغم من تراتبه وقد مثَّل زمناً مستمرَّاً، لكن قطعه بالرجوع إلى الماضي أي زمن ما قبل الروي والذي منح النص السردي اختصاراً وتكثيفاً ووضوحاً للفكرة التي بنيت عليها القصة.

وبعد هذه القراءة الاستقصائية لموضوع القصة واكتشاف نظامها السردي، وما فيها من متعة وفائدة فكرية، نتمنى للأديبة الواعدة فاطمة هادي شاكر مزيداً من الإبداع والحضور في المشهد الثقافي العراقي، وهي تنطلق بنزعة واقعية في معالجة قضايا الحياة المجتمعية .

 

بقلم د. رحيم الغرباوي

 

في المثقف اليوم