قراءات نقدية

مفيد خنسه: يعبر - سم – التوجس إلى فضاء اليقين

مفيد خنسةأعبرُ سَمّ التوجس

حسن الزهراني

أنا الآن

بيني وبينك

أنضم حيناً إليَ وانضم حيناً إليك..

**

أنا الآن خيطٌ من النار

خيطٌ من النور

يقسمني (التوت) في شفتيك..

**

أنا الآن برقٌ

أرتقَ شعري بـ(شعرك)

ترسم عيناي عينيك في سقف قلبي

تضيئان للنبض درب الخلود

الذي شق رمل الصبابات صبحاً

على مشرقيك ..

**

أنا الآن أعبر (سمَ) التوجّس

بين جنوني وصبرك

غنيت حتى تشربت صوتك

واللحن

أضحى نخيلاَ من الشوق في راحتيك ..

**

أنا الآن

بابٌ يواربه المشتهى

وسط التّيه منتصباً

تشتريه العناكب من مارد الريب

تنسج من حوله سور وهمٍ سميك..

**

أيا امرأةً صنعت عرشها

من مرايا جنوني

وخطت على ماء روحي قصائد

لم تسبر الجن أغور إلهامها

ثم غنت فماست غصون الجوى في حبورٍ

على ضفتي نهرها ألعسجديّ المفاتن..

والغيم صفّ على فُرش الزيزفون الممرد

من تمتمات الضحى

في خشوع يصلي عليك ...)

........................

يعبر - سم – التوجس إلى فضاء اليقين

لأنه الشاعر، يأبى إلا أن يعلن مسؤوليته عما يجري من حوله، لأنه حين يعبر لا يمر عبر الأمكنة كما يعبر الآخرون، إنما يمر على قلبه بطيئا يتأمل كل شيء، يقرأ وجوه الأطفال الحالمين بالأمان والفرح، ويتألم حين لا يستطيع أن يرسم البسمة عليها، يشعر بأنين الورود العطشى، ويسمع نداءات الجداول البعيدة، ويعرف كيف تحمل النسائم عطور الجدائل الحالمة إلى السفوح التي يقصدها العشاق، ولأنه الشاعر! يأبى إلا أن يعلن مسؤوليته عن الألم والحرمان الذي يعاني منه المستضعف أينما كان، ولأنه الشاعر يبقى يحلم بالحرية والأمل، ولأنه الشاعر يأبى إلا أن يكون مدافعاً عن الحق، صادقاً حتى الشجاعة، خائفاً حتى التوجس، مستمراً حتى اليقين، ولأنه حسن الزهراني فقد قرر أن يعبر سم التوجس! من خلال قصيدته التي حملت مجموعته الشعرية التي عنوانها (أعبر – سم - التوجس) ولكن كيف؟! وإلى أين؟ سأحاول أن أجيب من خلال هذا التطبيق لمنهج النقد الاحتمالي .

 الفرع الأول:

يقول الشاعر:

(أنا الآن

بيني وبينك

أنضم حيناً إليَ وانضم حيناً إليك..

***

أنا الآن خيطٌ من النار

خيطٌ من النور

يقسمني (التوت) في شفتيك..)

هذا الفرع يبين صورة التوجس، وعقدته (أنا الآن) وشعابه الرئيسة هي: (بيني وبينك) و(أنضم حيناَ إلي) و(وانضم حيناً إليك..) أما شعابه الثانوية فهي: (أنا الآن خيطٌ من النار) و(خيط من النور) و(يقسمني (التوت) في شفتيك) .

في المعنى:

يفتتح الشاعر بالقول: (أنا الآن / بيني وبينك) فأي (أنا) يعني الشاعر؟ هل يعني أنا الشاعر؟ أم يعني أنا العاشق؟ أم يعني أناه العليا؟ أم يعني أناه الدنيا؟ وهنا سنجد أيا كان يعني بها فإن الشاعر يعلن بهذا الافتتاح أن الأنا لديه متعددة من حيث معناها وحضورها، وحين يقول: (بيني وبينك) يعني أن تقابلاً بينه وبينها وهذه الأنا هي الأنا التي تتوسط بينهما، أو هذه الأنا تقع في وجوده الآني بين طرفين أحدهما - هو أي الشاعر بذاته - وهي أي المحبوبة بذاتها، أما أناه (الأنا) فيه بين الطرفين، ويفيد التركيب بأن الطرفين قد يكونان متناقضين، أو قد يكونان متوافقين، أو يكونان معتدلين وما من شك أن (الآن هنا) تعني حالة الاعتدال، وحالة الاعتدال هذه هي ذلك (الآن) الذي يكونان فيه، هي وهو معتدلين، كما يفيد التركيب أن هذا الاعتدال آني ولحظي وليس اعتدالاً دائماً، وهذا ما يؤكده قول الشاعر: (أنضم حيناً اليّ) والحين هنا أكبر مدة من (الآن) وهو ينسجم مع حالة التناقض بينهما، ولذلك فهو ينكفئ وينضم إلى ذاته بعيداً عنها، وهذا أمر طبيعي أن يبتعد المحبّ عن المحبوبةِ عندما يكونان مختلفين ومتناقضين، وقوله: (وأنضم حينا إليك ..) وهذا الحين ينسجم مع حالة التوافق بينهما عندها تتغلب أنا الشاعر الدنيا على أناه العليا لينضم بعواطفه وأحاسيسه إلى المحبوبة في حالة العطاء والانسجام والحب، وهذا أمر طبيعي أيضاً أن ينضم المحبوب إلى من يحب في مثل هذه الحالة، وتبقى نقطة الارتكاز الأساسية في المعنى هي (الآن) التي تعني اللحظة الفاصلة، أو البرهة الحاسمة، وهي لحظة تجلي ذات الشاعر في (الأنا) القابلة للانضمام أو الانكفاء، إنها لحظة الشعور التي تتغلب فيها العاطفة في حالة انضمامه إليها، وهي لحظة الاحساس التي يتغلب فيها الكبرياء في حالة انضمامه إليه، وفي قوله: (أنا الآن خيط من النور) أي في لحظة الحب المقدس تتقد جذوة النور في أعماقه فيبدو متوحدا منكفئا إلى ذاته لا يقبل الانضمام إلى غيره ليبقى نور الحب فاصلا بينهما، وقوله:(خيط من النور) أي ثم يتحول إلى خيط من النار، حين يتحول هذا الحب المقدس إلى نداء للجسد، ويتحول إلى حب دنيوي، يتحول خيط النور إلى خيط من النار القابل إلى الانشطار والانضمام إلى غيره وهذا ينسجم مع لحظة التوافق والانسجام بينهما، وقوله: (يقسمني (التوت) في شفتيك) أي ينشطر في حبها إلى خيط نور علوي وخيط نار سفلي، حب مقدس وحب دنيوي، كانشطار ثغرها مع حبة التوت الواحدة إلى شفتين .

الصورة والبيان:

الأسلوب في هذا الفرع خبري، وقوله: (أنضم حينا إلي) استعارة، وقوله: (وأنضم حيناً إليك) استعارة، وقوله: (أنا الآن خيطٌ من النار) تمثيل، وقوله: (خيط من النار) تمثيل، وقوله: (يقسمني (التوت) في شفتيك..) استعارة .

الفرع الثاني:

يقول الشاعر:

(أنا الآن برقٌ

أرتقَ شعري ب(شعرك)

ترسم عيناي عينيك في سقف قلبي

تضيئان للنبض درب الخلود

الذي شق رمل الصبابات صبحاً

على مشرقيك ..

***

أنا الآن أعبر (سمَ) التوجّس

بين جنوني وصبرك

غنيت حتى تشربت صوتك

واللحن

أضحى نخيلاَ من الشوق في راحتيك ..)

يبين هذا الفرع صورة التحول للشاعر وعقدته (أنا الآن برق) وشعابه الرئيسة هي: (أرتق شعري ب-شعرك-) و(أنا الآن أعبر (سم) التوجس) و(غنيت حتى تشربت صوتك) أما شعابه الثانوية فهي: (ترسم عيناي عينيك في سقف قلبي) و(تضيئان للنبض درب الخلود) و(الذي شق رمل الصبابات صبحاً / على مشرقيك ..) و(بين جنوني وصبرك) و(واللحن /أضحى نخيلاَ من الشوق في راحتيك ..)

في المعنى:

الأسلوب في الفرع خبري كما هو واضح، وتفسير مثل هذا المقطع من الشعر قد يقتله ويظلم الشعر والشاعر معاً قبل أن يظلم المفسر نفسه، ومهما يكن من أمر فلا بد من مقاربة المعنى في الحدود الممكنة، فقوله: (أنا الآن برق) يعني أنه في هذه اللحظة الفاصلة يتحول إلى برق! ومن المعلوم أن البرق نور يلمع في السماء إلى أثر انفجار كهربائي في السحاب، وهنا قد تبدو الصورة متكاملة مع ما تقدم في الفرع الأول، فلمع البرق يحصل بفعل التيارات الهوائية المحملة بشحنات موجبة مع التيارات الهوائية المحملة بشحنات سالبة ونتيجة سرعة الهواء واحتكاك الشحنات بعضها ببعض يضيئ البرق ويصدر اللمعان في السماء، لعل ذات الشاعر تمثل الإيجابية في الانضمام إليها، وهي المستقبلة في حالة التوافق والانسجام فيكون لمعان الحب وضياء المسافة بينهما، وقوله: (أرتقَ شعري ب(شعرك)) أي يشبكهما معاً بترتيب وانتظام، وليس بعفوية أو بطريقة اعتباطية، وقوله: (ترسم عيناي عينيك في سقف قلبي) وفي تلك اللحظة الآنية من الانضمام إليها يتحول البصر لديه إلى بصيرة نافذة يمكنه من خلالها أن يثبت صورتها في أعلى بنيان القلب، في سقفه نظراً للمكانة المرموقة التي تتبوؤها فيه، عيناه ترسمان عينيها على سقف لوحة القلب لتبقيان شاهدتين ومبصرتين حبه الكبير لها، وقوله: (تضيئان للنبض درب الخلود)، أي ترسم عيناه عينيها على سقف القلب لتضيء إلى نبضه بالحب المقدس كي يسمو بهذا الحب ويرتقي على درجات البقاء والخلود، وقوله: (الذي شق رمل الصبابات / صبحاً على مشرقيك ..) أي على الطريق الطاهر العفيف الذي رسمه الشوق واللهفة والحنين فأضاء كالصبح على مشرقيها، لسانها وقلبها، وقوله: (أنا الآن أعبر (سم) التوجس) يعني التكرار هنا (أنا الآن) أنه في آن آخر جديد وهو آن العبور من الخوف، وهو في حالة الانضمام إليها وقوله: (بين جنوني وصبرك) يوضح ما تقدم، أي هو في حالة قصوى من الغضب والانفعال، وهي في حالة قصوى من الهدوء والتعقل، هو في حالة قصوى من الانجذاب والإقبال والتوق وهي على النقيض في حالة من الصبر والتمنع، وقوله: (غنيت حتى تشربت صوتك) أي كان في حالة من الفرح فغنى حتى بلغ صوتُه صوتَها فكادا أن يصبحا صوتاً واحداً، وقوله: (واللحن أضحى نخيلاَ من الشوق في راحتيك ..) أي وأصبحت الموسيقا تتسامى وتعلو كشجر النخيل المزدهر بالشوق بين يديها الحنونتين، لعله يعبر بين يديها سم الخوف إلى فضاء اليقين بالحب المقدس .

الصورة والبيان:

الفرع غني بالصور الشعرية، والشاعر يحاول أن يقدم صوراً مبتكرة جديدة، فقوله: (أنا الآن برقٌ) تشبيه وفيه كناية عن الحضور والوضوح والسرعة، وقوله: (أرتقَ شعري ب(شعرك)) استعارة، وقوله: (ترسم عيناي) استعارة، وقوله: (عينيك في سقف قلبي) استعارة، ويصبح التركيب (ترسم عيناي عينيك في سقف قلبي) صورة ثنائية البعد لأنها تتضمن استعارتين معاً، وقوله: (تضيئان للنبض درب الخلود) استعارة، وقوله: (الذي شق رمل الصبابات) استعارة، وقوله: (صبحاً / على مشرقيك ..) استعارة، ويصبح التركيب (تضيئان للنبض درب الخلود

الذي شق رمل الصبابات صبحاً / على مشرقيك ..) صورة حرة لأنها تتضمن أكثر من ثلاث استعارات في آن واحد، وهذا النوع من الصور الشعرية هي صور نادرة في الشعر العربي خصوصاً وفي الشعر عموماً، وقوله: (أنا الآن أعبر (سمَ) التوجّس) استعارة، وقوله: (غنيت حتى تشربت صوتك) استعارة، وقوله: (واللحن / أضحى نخيلاَ) تشبيه، وقوله (نخيلاً من الشوق) استعارة، وقوله: (من الشوق في راحتيك ..) استعارة، ويصبح التركيب (غنيت حتى تشربت صوتك / واللحن / أضحى نخيلاَ من الشوق في راحتيك ..) صورة ثلاثية الأبعاد، وهذا النمط من الصورة يدعى الصورة العميقة وفق المنهج والقصيدة التي تتسم صورها بهذا النمط تدعى قصيدة عميقة، أما القصيدة التي تغلب عليها الصورة الحرة فتدعى القصيدة الحرة، لأنها تمتلك أكثر من ثلاث درجات من الحرية.

الفرع الثالث:

يقول الشاعر:

(أنا الآن

بابٌ يواربه المشتهى

وسط التّيه منتصباً

تشتريه العناكب من مارد الريب

تنسج من حوله سور وهمٍ سميك..

***

أيا امرأةً صنعت عرشها

من مرايا جنوني

وخطت على ماء روحي قصائد

لم تسبر الجن أغوار إلهامها

ثم غنّت فماست غصونُ الجوى في حبورٍ

على ضفتي نهرها ألعسجديّ المفاتن..

والغيم صفّ على فُرش الزيزفون الممرد

من تمتمات الضحى

في خشوع يصلي عليك ...)

يبين هذا الفرع صورة الشاعر باباً للعبور وعقدته (أنا الآن بابٌ) وشعابه الرئيسة هي: (يواربه المشتهى) و(تشتريه العناكب من مارد الريب) و(تنسج من حوله سور وهمٍ سميك..) و(وخطت على ماء روحي قصائد) أما شعابه الثانوية فهي: (وسط التّيه منتصباً) و(أيا امرأةً صنعت عرشها) و(لم تسبر الجن أغوار إلهامها) و(ثم غنّت فماست غصونُ الجوى في حبورٍ) و(على ضفتي نهرها ألعسجديّ المفاتن..) و(والغيم صفّ على فُرش الزيزفون الممرد / من تمتمات الضحى) و(في خشوع يصلي عليك ...) .

في المعنى:

الأسلوب في هذا الفرع يجمع بين الخبري والإنشائي، حيث يتجلى المعنى من خلال البناء والرصف الشعري المتقن، فالشاعر الذي بدأ بإحداث المعاني في القصيدة بتقديم الأحوال الآنية المتعددة لأناه، ففي الفرع الأول بدا التعدد في تلك الأحوال بينه وبينها، حينا ينضم إليه وحينا ينضم إليها، ثم تتحول الأحوال لديه ليبدو كالبرق سريعاً واضحاً وهو يعبر سم التوجس، وفي هذا الفرع يتحول الشاعر إلى مكان للعبور، ولكن لعبور من؟ وكيف؟، في قوله: (أنا الآن) يعني حالاً جديداً، في برهة جديدة، وهذا التكرار الذي يقصده الشاعر ليبين لنا أنه معها في أطوار متعددة من الحالات المتبدلة تبدلاً سريعاً كالبرق قبل العبور ومعه، ولكن هنا بعد العبور واجتياز الحد الفاصل للخوف فقد وصل إلى غايته التي تمكنه من أن يكون بابا للعبور، وقوله: (بابٌ يواربه المشتهى) أي إنه كالباب فاتحا ذراعيه إليها للمجيء والدخول، غير أنها لا تصارحه بأنه هو الغاية والمشتهى، إنما تبقى مواربة في إيحائها، متمنعة عن كشف حقيقة مشاعرها، مخاتلة في أسلوب انجذابها والتعبير عن اشتهائها له، وقوله: (وسط التّيه منتصباً) أي وحيداً بعيدا في مكان يتيه الشخص فيه ولا يهتدي إلى مخرج، أو يعني وسط متاهة أي وسط سلسلة من الممرات بعضها مغلق وبعضها مفتوح تستخدم لقياس قدرة الخاضع للاختبار على الاستفادة منه، وهذا المعنى أضعف من دون شك، ويصبح معنى القول: (وسط التيه منتصباً) أي كأنه الباب المشرع لها مخرجاً أنى تشاء وكيف تشاء حين يصعب عليها أن تهدي إلى الممرات التي تقودها إلى مخرج آمن، ولا نغفل هنا أن (التيه) يعني فيما يعنيه (التكبر والصلف) والسياق في التركيب الشعري يستبعد هذا المعنى إذا لا يشير السياق إلى تكبر الشاعر بل على العكس فهو يبدو منضماً إليها وإن كانت الحالة اللحظية تشير إلى المسافة فيما بينهما هنا، كما يعني (التيه) أيضاً التيه العقلي، الاضطراب الذهني الذي يعوق عن بلوغ الهدف، وهو ضعيف في سياق التركيب الشعري في النص، وقوله: (تشتريه العناكب) يشير إلى أنه الباب الذي ترغب به العناكب ويروق لها أن يكون كي تبني شبكتها عليه، وقوله: (من مارد الريب) أي من الجبار العملاق الذي يستحضر الظن والشك والتهمه، وهذا المعنى التفسيري القريب، لكن المعنى المراد من التركيب الشعري (أنا الآن / بابٌ يواربه المشتهى / وسط التّيه منتصباً / تشتريه العناكب من مارد الريب)،إن الشاعر يبقى باب هدايتها إلى المخرج الآمن وإن كان الشك الذي يحلم به العذال والحاسدون ويدفعون من أجله ثمناً كبيراً قد راودها، وقوله: (تنسج من حوله سور وهمٍ سميك..) أي كما تنسج العناكب بيوتها وشبكاتها السميكة على مثل هذا الباب المنتصب في التيه، فإن الحاسدين له ولها، ينسجون لها بقصصهم ووشاياتهم سوراً من الوهم المتراكم الذي يجعلها أكثر شكاً به وبحبه فتزداد الفجوة بينهما . وقوله: (أيا امرأةً صنعت عرشها

/ من مرايا جنوني) أي مجدها بنته من حقيقة حبه ومشاعره التي عبرت عن حالة من الخروج عن المعقول في انجذابه إليها، وقوله: (وخطت على ماء روحي قصائد / لم تسبر الجن أغوار إلهامها) أي إنها كانت الملهمة التي استطاعت أن توقظ مخيلته وتحفز طاقاته الإبداعية المختزنة في الأعماق لكتابة القصائد التي لم تستطع شياطين الشعر من الجن أن تستحضر له ما استطاعت أن تستحضره هي له، وقوله: (ثم غنّت فماست غصونُ الجوى في حبورٍ/ على ضفتي نهرها ألعسجديّ المفاتن..) أي عندما غنت وأخذت غصون الشوق تتمايل اختيالاً وتبختراً بفرح وبهجة عارمة على سرير الجسد المتموج كالنهر وهي ترقص وتبدي خفايا مفاتن ضفافها الملهمات، وقوله: (والغيم صفّ على فُرش الزيزفون الممرد / من تمتمات الضحى / في خشوع يصلي عليك ...) أي كأن الجسد الأبيض الناعم المثير قد تغطى بغيم كثيف وأخذ يبدده الضحى عن تفاصيل جسدها الراقص فينكشف جماله، وفي حضرة البياض كأن الغيم قد أدهشته مفاتنها فبدا خاشعاً وكأنه يصلي عليها. أما (....) أي بهاء الصورة وروعة الحضور تستوجب الصمت لأن الكلام يصبح عاجزاً عن التعبير لاستحضار المعاني الدالة على موضوعها . وهنا يمكن أن نستدل أن الشاعر يكون بذلك قد عبر سم التوجس ووصل إلى فضاء اليقين.

تقاطع الأزمنة:

زمن القصيدة كما يقدمه الشاعر آني لحظي ويدل على ذلك أنه يفتتح معظم فروع القصيدة بقوله: (أنا الآن) ونلاحظ أن زمن الفعل تناغما وانسجاماً مع هذا الزمن الآني جاء في الفرع الأول مضارعاً (أنضم) و(يسمني)، وفي الفرع الثاني يفتتح الشاعر بقوله: (أنا الآن) ليشير إلى استمرار الزمن الآني على الرغم من الزمن في نهاية التركيب الشعري يشير إلى التحول لقوله: (أنا الآن خيط من النار) .. (خيط من النور) وقد استمر الفعل المضارع في الفرع الثاني انسجاما مع استمرارية الزمن الآني الذي يريده الشاعر بقوله: (أرتق) و(ترسم) و(تضيئان) أما استخدام الزمن الماضي في سياق الزمن الحاضر بقوله: (شق) و(غنيت) و(تشربت) و(أضحى) فذلك يشير إلى أن الزمن الماضي أصلاً مستمر في الحاضر، وإن محور الزمن يبقى أحادي الاتجاه، وهو اتجاه الموجب ولا يمكن للزمن أن يعود إلى الوراء، ويكرر الشاعر الافتتاح في الفرع الثالث بقوله: (أنا الآن) في إشارة منه إلى استمرار الزمن الآني، ففي التركيب الأول من الفرع الثالث تبقى الأفعال مضارعة لقوله: (يواربه) و(تشتريه) و(تنسج)، وإن كان قد استخدم الفعل الماضي في التركيب الثاني من الفرع الثالث لقوله: (صنعت) و(خطت) و(غنت) و(ماست) و(صف) فإن استخدامه للفعل المضارع في نهاية الفرع الثالث بقوله: (يصلي) فهذا يشير إلى أن زمن القصيدة هو تقاطع الأزمنة في الوقت الراهن الذي يعيشه الشاعر، والآن لدى الشاعر تمتد من الماضي إلى الحاضر نحو المستقبل، يضاف إلى هذا الزمن الغائب وهو زمن المرأة التي يعنيها الشاعر، إنها الشاعرة الغائبة كما غاب زمنها، إضافة إلى الزمن الذي استغرقه الشاعر في كتابة القصيدة، إضافة إلى أزمنة موسيقا الشعر على تفعيلات المتدارك (فعولن فعولن فعولن فعول) وزمن الكتابة وكل ما يتعلق بزمن القصيدة قبل إعلانها للعامة، ويبقى زمن القصيدة هو تقاطع أزمنة أفعالها وأزمنة مكوناتها الحاضرة منها والمستترة.

التوازن وتمثيل القصيدة:

إن مركز توازن القصيدة هو (أنا الآن أعبر سم التوجس) الذي يمثل نواتها المركزية ونقطة انبثاق أشعتها، وبالإضافة إلى عقد الفروع نجد أن الفروع الثلاثة تشترك ب(أنا الآن) فهي تشكل نقطة توازن في القصيدة، وإذا لاحظنا أن الفرع الأول والفرع الثالث يتقاطعان ب(جنوني)، فإن الجنون بالمعنى المجازي يشكل نقطة توازن أيضاً، وكذلك الفرع الثاني والثالث يتقاطعان ب(الغناء) فهو يمثل نقطة توازن في القصيدة. فإذا مثلنا مركز توازن القصيدة بدائرة مركزية ثم مثلنا العقد ونقاط التوازن على محيط دائرة واحدة، ومن ثم مثلنا فروع القصيدة بأشعة منطلقة من المركز، ثم مثلنا الشعاب الرئيسة والثانوية لكل فرع على محيط دائرة أيضاً نحصل على تمثيل دائري للقصيدة ومنه نتبين كيف أن القصيدة تميل في تكوينها إلى تحقيق التوازن .

التركيب الشعري والتركيب الاحتمالي:

هل هناك كلمة شعرية وكلمة ليست شعرية؟ وهل صفة الشعرية تكون للكلمة بحد ذاتها أم تكون للكلمة في سياق التركيب الشعري؟ لا أعتقد أن أحداً من العاملين في حقل النقد الشعري يقر بتصنيف الكلام بالشعري وغير الشعري، ولكن لا بد من أن يكون الكلام مرصوفاً في التركيب الواحد بحيث يحافظ على النسقية المناسبة تماما كحجارة الرصيف، وإن الشاعر هنا برصف المفردات في سياق الجملة الشعرية والتركيب الشعري كالبنّاء الذي يختار الحجارة المناسبة لتكون متناسقة في صف واحد من دون اختلاف في الارتفاع، وتراه يستخدم الخيط والبلبل والمسطرة الزئبقية كي يحافظ على التناسق والدقة، فإذا كان الأمر كذلك لدى البناء فكيف يكون الأمر لدى الشاعر؟!.

لست أدعي أنني أستطيع أن أنفذ بتطبيق هذا المنهج في النقد إلى آلية إحداث المعنى لدى الشاعر في لحظة الإبداع الشعرية، ولا ينبغي لي أن أدعي أيضاً أنني في منهج النقد الاحتمالي قادرُ على الوصول إلى الحدوس لدى الشاعر في توليد المعنى الشعري، ولكن المنهج يوفر إمكانية منطقية لفهم تلك الآلية في إحداث المعاني الشعرية وكيف تشكل حواس الشاعر الأسس الفعلية لها، وسأجري للمرة الأولى تطبيقاً في هذا الإطار على التركيب الشعري: (أنا الآن

بابٌ يواربه المشتهى

وسط التّيه منتصباً

تشتريه العناكب من مارد الريب

تنسج من حوله سور وهمٍ سميك..)

أما قوله: (أنا الآن) فقد سبق أن تحدثت عنه وقوله (باب) هو اسم نكرة ويعني كل باب حقيقي مهما كان نوعه أوصفته، وقد وضعت هذه الكلمة في القاموس لتعني معنى ما وضعت له الكلمة (باب) وبذلك تكون الكلمة قد فتحت شبكة من الأذرع التي لا تحصى لإحداث معنى من خلال اشتباك هذه الكلمة مع كلمة مجاورة في الجملة الشعرية، بالإضافة إلى أن الباب يمكن أن يأخذ معنى مجازياً وبذلك يكون احتمال إحداث المعاني أكبر، وهنا سنتحقق بالتطبيق العملي ماذا تعني الكلمة الشعرية، إن معيار الشعرية لهذه الكلمة مثلاً يرتبط بمقدار مؤالفتها مع قرينتها بالتجاور المكاني الذي ينسجم مع المعنى المراد في سياق التركيب الشعري، وهذا ما سيتوضح شيئاً فشيئا من خلال هذا التطبيق، فإذا لاحظنا أن الكلمة التالية المجاورة لها هي (يواربه) والأصل فيها (وارب، يوارب، مواربة، فهو موارِبٌ، والمفعول موارَبٌ) لوجدنا أنها تعني ((1) لجأ إلى طرق ملتوية فيها مخاتلة .. خادع .. راوغ.. داور كالقول: "وارب لبلوغ مآربه " (2) فتح نصف فتحة .. فتح قليلاً كالقول: " وارب باباً " (3) عدم الوضوح والمصارحة (4) وارب منافسه: أي تكلم بكلام يحتمل معنيين، كالقول: "تكلم من دون مواربة " أي بصراحة ووضوح، ثم تجاورها الكلمة (المشتهى) وهي اسم مفعول، أي ما يشتهيه الشاعر منها وهو متعدد ومتنوع، ويكون الأصل في الجملة (المشتهى يوارب الباب) وهنا يتوضح الرصف والتجانس في التجاور ليستقر المعنى الذي يحدثه الشاعر بالجملة الشعرية، أي المشتهى من المرأة التي يعنيها وهو إعلان حبها له ويقينها بذلك الحب يفتح الباب قليلاً ليسترق النظر عما في الداخل، وهو المعنى القريب للجملة التي توحي بالمعنى وهو الذي ذكر سابقاَ، والشاعر لم يأتِ بالتركيب على صيغة الأصل إنما قال: (باب يواربه المشتهى) والصدارة في هذه الجملة للباب الذي يستخدمه الشاعر معادلاً له لجهة المشتهى من المرأة، والمواربة تأتي في الدرجة الثانية من الأهمية ومن ثم المشهى، وهذه الجملة نفسها: (بابٌ يواربه المشتهى) يمكن أن تصاغ بأحد الأشكال، التي تشكل جملاً احتمالية، (1) بابٌ يواربه المشتهى، (2) باب المشتهى يواربه، (3) يوارب الباب المشتهى، (4) يوارب المشتهى الباب

(5) المشتهى يوارب الباب (6) المشتهى البابَ يوارب . وكل جملة لها معنى يختلف عن الآخر إنما الشاعر أراد الجملة التي تعني ما يريد، والمؤدى أنه إذا كانت كلمة (باب) يمكن أن تأخذ مثلا عشرة معان – وفي الحقيقة يمكن أن تأخذ معاني مضاعفة ولكن فقط للتوضيح- وكلمة (يواربه) كما تبين لها أربعة معانٍ وبافتراض أن كلمة (المشتهى) لها عشرة معان أيضاً - وكذلك لها معانٍ مضاعفة - فيمكن في هذه الحالة أن تولد الجملة (بابٌ يواربه المشتهى) أربعمئة معنى، وهو نتيجة جداء عشرة بأربعة بعشرة وفق المبدأ الأساسي في العد،ولنا أن نتخيل التعدد الاحتمالي للمعاني التي يمكن أن يولدها النص، لكن النقد يتوقف عند المعاني التي يمكن أن يولدها النص الفعلي في القصيدة وإن كانت المعاني الاحتمالية تبقى افتراضية من دون شك، وفي الجملة التالية من التركيب (وسط التيه منتصباً)، فكلمة (وسط) تعني: (1) متوسط بين طرفين، كالقول: "مركز وسط"،(2) معتدل، مقبول، بين بين، كالقول: "حل وسط " (3) ما هو متوسط بين اثنين، كالقول: "لون وسط بين لونين"، (4) عادي، متوسط، كالقول: " صنف عادي " (5) واقع في وسط المدينة، كالقول: " حي وسط "، (6) نقطة على مسافة متساوية من طرفي شيء، كالقول: " وسط الشارع " (7) حالة قائمة بين طرفين، كالقول: "بقي في الوسط أثناء مناقشة " (8) طور بين البداية والنهاية، كالقول: " وسط الحياة" (9) مركز، كالقول: "وسط صناعي" (10) مجموع أعضاء مجلس سياسي يجلسون في الوسط، كالقول: "نواب الوسط" (11) موضع الزنار من جسم الإنسان، كالقول: غمره الماء حتى وسطه، (12) محيط، دائرة إقامة الإنسان، مجال نشاطه الحياتي، كالقول: "وسط عائلي" (13) مجتمع يعيش فيه الإنسان ويتأثر به، محيط، بيئه، كالقول: "لم يشعر أنه في وسطه"(14) وفي الهندسة تعني: مركز الدائرة .

ونلاحظ في المعاني كلها أن الوسط لا يعني المنتصف إلا في المسافة بمعناها الحقيقي، وكلمة (وسط) على تعدد معانيها فإنها مؤهلة للتجاور عبر هذا الطيف من المعاني مع المجاورات التي تحدث معاني شتى، أما كلمة (التيه) المجاورة فتعني: (1) كِبر وصلف، كالقول: "يختال تيهاً " (2) ضلال وعدول عن الصواب، اضراب ذهني يعوق عن بلوغ الغاية، كالقول: تيه العقل (3) الأذن الباطنة، (4) مكان يتيه الشخص فيه ويضل ولا يهتدي إلى مخرج منه، مَضَلْ، كالقول: " تيه أزقة حيّ قديم " (5) سلسلة من الممرات بعضها مغلق وبعضها مفتوح تستخدم لقياس قدرة الإنسان أو الحيوان على الاستفادة من الاختبار. وبإضافة (وسط) إلى (التيه) تصبح الجملة (وسط التيه) حاملة لمعاني متعددة أما السياق فيشر إلى أن الشاعر يعني بها: مركز المتاهة، منتصباً أي: (واقفاً) أو (مهيّأً) أو (قائماً) ويصبح عدد المعاني الاحتمالية للجملة للجملة (وسط التيه منتصباً) في سياق التركيب هو ناتج جداء أربعة عشر بخمسة بثلاثة ويساوي مئتين وعشرة معاني، اما المعنى المرجح للجملة هو(واقفاً في مركز المتاهة). فإذا أضيف هذا الناتج إلى سابقه يصبح الناتج ستمئة وعشرة معاني، أي الجملتان معاً تنتجان هذا الرقم من المعاني الاحتمالية، وكلها ممكنة وكلها واقعية بالمعنى النظري، فهي إذن افتراضية، وفي النقد الكلاسيكي يتوقف عند حدود المعاني القريبة الضيقة أما المنهج الاحتمالي فإنه يحاكي بنية النص الاحتمالية ويمكننا من البحث عميقاً في المعاني الافتراضية، والهدف هنا ليس البحث في المعنى الافتراضي للنص بقدر ما نهتم بالبحث عن المحمول الدلالي للنص الفعلي وإن كانت المنهجية غدت واضحة إلى حد كبير، وسيكون ضربا من الترف المجاني أن نذكر بالتفصيل المعاني الافتراضية كلها، وهذا لا يمنع من فعل ذلك عندما يكون التركيب الشعري قصيراً كفاية لكي تتوضح الصورة أكثر فأكثر، وهكذا يمكن أن نتابع في تقصي عدد المعاني الاحتمالية الممكنة في تتمة التركيب الشعري، (تشتريه العناكب من مارد الريب / تنسج من حوله سور وهمٍ سميك..).وسنجد أن الرقم كبير جداً، فإذا كان الأمر هكذا في هذا التركيب المختار! لنا أن نتخيل كم يمكن أن يكون عدد المعاني الاحتمالية في القصيدة الواحدة، إنه رقم كبير جداً جداً .

النص الاحتمالي (الممكن) 

القصيدة تتألف من ثلاثة فروع كما رأينا، ويمكن إعادة ترتيب هذه الفروع بست طرق، أي هناك ست قصائد ناتجة عن إعادة ترتيب الفروع فقط، وإذا وجدنا أن الفرع الأول يتألف من ثلاث شعاب رئيسة وأربع شعاب ثانوية فإن عدد إمكانات ترتيبها هو(5020)، وكذلك الفرع الثاني يتألف من ثلاث شعاب رئيسة وخمس شعاب ثانوية فيكون عدد إمكانات إعادة ترتيبها هو(40320) أما الفرع الثالث يتألف من أربع شعاب رئيسة وثماني شعاب ثانوية فيكون عدد إمكانات إعادة ترتيبها في هذا الفرع هو (479001600) وتصبح عدد إمكانات إعادة الترتيب للشعاب في الفروع يزيد عن الخمسمئة مليون ونصف أي هناك ما يزيد عن هذا العدد من النصوص الاحتمالية الممكنة،ولا يمكن لعقل أن يحصي عدد المعاني الممكنة في القصيدة الشعرية الواحدة، وإنني إذ أقد هذا العدد الممكن للقصائد المتولدة عن النص الواحد فلكي أبين المبدأ من جهة، ولكي أبين أن كل نص ممكن هو نص احتمالي، فهو نص افتراضي وإن كان واقعياً، والشاعر لا يعترف إلاّ على نصه الشعري الذي أعلنه للناس. 

 

مفيد خنسه - شاعر وصحافي وناقد من سورية

(مؤسس منهج النقد الاحتمالي)

رئيس تحرير صحيفة الثورة السورية سابقاً

  

في المثقف اليوم