تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قراءات نقدية

عبد العزيز قريش: قارئ من الزمن الماضي إلى هشام فتحي قارئ من الزمن الحاضر

عبد العزيز قريشسيرا معا نحو المستقبل، استشرافا لقصة رحلة العمر نحو المجهول: (طريق إلى الجحيم)*، لكاتبها اليافع هشام فتحي

ما أجمل أن يقرأ المرء ليافع عن معاناة الآخرين في مسيرة حياتهم، لعله يتخذ منها صوى طريق مستفيدا من أحداثها وتفاصيلها في درب سنينهم الدنيوية، تلك التي قد تأخذ فيها الأحداث طابعا قهريا اجتماعيا، يخلقه الآخر للآخر، ويبدعه للسيطرة عليه والتسلط عليه وقهره تحت عناوين عدة ومسميات متنوعة التعابير والتراكيب ومفاهيم ركبت باسم المؤسسة، والمؤسسة هنا متعددة المضمون والأشكال، تنضبط مظهريا لقانون التشريع والتنظيم والهيكلة؛ بدء من الأسرة وانتهاء بالدولة ومجموع مؤسساتها الرسمية والمدنية. واستثمار العقائد والإيديولوجيات والثقافات والتقاليد والعادات والموروثات الإنسية في إضفاء المشروعية على قهر الأحداث، فتارة باسم بالسخرة، وأخرى باسم الصراع الاجتماعي، وثالثة باسم التدافع الحضاري، ورابعة باسم القناعة، وخامسة باسم القدر، وسادسة باسم التدبير السياسي، وسابعة باسم طبيعة المجتمع الإنساني وتركيبته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية وعاداته وتقاليده وضرورياته ... فتتعدد الأسماء؛ وتظل النتيجة واحدة، المعاناة والقهر والإحباط واليأس والذل والهوان والخنوع والاستسلام لمشيئة الآخر المستبد في عالم الضعفاء والمقهورين والفقراء والبؤساء والمحبطين واليائسين. فأغلب المتاعب والمصائب والعذابات هي من صنع الاستبداد والقهر، الذي يعلو الإنسانية كلها في العالم. فلا يترك للأمل فسحة حضور أو وجود، فهو يرهب ويخيف كل ضعيف بائس يائس، ويدفعه إلى الهروب من حياته، بل من وجوده! مأساة إنسانية يعيشها القارئ مع أحداث الطريق إلى الجحيم، التي تشكل مجموعة من الأسئلة الحارقة والمحرجة مخترقة وعي الإنسان لمساءلته عما فعل ويفعل بنفسه أولا قبل الآخر. فهل هناك أشد وطء على الإنسان مما ينزع عنه إنسانيته ويحيله إلى كتلة لحمية وجودية تقتات على المعاناة لتعيش رغد الحياة أو ضنكها؟ كل فيها يتسابق على تملك الأشياء حتى التخمة والترهل وتبلد الإحساس! فيغدو طفلا يتمحور العالم حول ذاته لكثرة أنانيته؛ فكل شيء له دون منازع وإلا فالبكاء والحرب سبيلا لتحقيقه نوازع ذاته وأحلامه ومتطلباته؟! هو الفراغ الروحي والتكلس العقلي والتخلف النفسي، ومحدودية الرؤية وانحسار فضائها وضيق أفقها تقتل الوعي والعقل والقيم، وتحيي حنين الهجرة والهجر في نفوس المظلومين والمقهورين والبائسين فاقدي الأمل في العيش والتغيير، وتسافر بهم إلى المجهول مقامرة ربحا أو خسارة ... فتطوى أوراق وصفحات من التاريخ الإنساني، وتفتح أخرى في دفاتر الذكريات، وتدون سجلات الميلاد الجديد لأرواح تولد من جديد بعد عودتها من رحلة الموت، فتحكي ما جرى لها من محن وتجارب في سبيل الالتحاق بالآخر والعيش في كنفه منعما أو معدما؟ وهو لا يدري كيف يجيب عن علامة الاستفهام التي قطع المسافات الطوال من أجل رسمها على كل خطوة يخطوها إلى المجهول، فتحفرها في أسمال رحلته نحو الأمل المولود من رحم خيوط الفجر في بلاد المهجر. ذلك الذي طلع أخيرا في أحد صباحات أوروبا المشرقة على أسماء دونتها رحلة من دول الموز إلى دول الحرية والفرص وتحقيق الذات ...

هي المأساة التي عاشها ويعيشها المهاجرون السريون غير الشرعيين طلبا لحياة أفضل، تبني رؤية سيميولوجية تحمل نقدا للمجتمع ومؤسساته وأفراده، وتسائله عن جدوى وجوده على وجه البسيطة، وهو بائس يستجدي الآخر الكرامة والرفاهية، ويستقي منه وجوده الإنساني حتى صار مضرب كل مثال في حياتها! وقد كان من الممكن أن يكون له ذلك في موطنه الأصلي لو كان الوعي الإنساني يستوطن سماءه وأرضه ومياهه، وتستولي عليه القيم الإنسانية الواردة إليه من عالم السماء والأرض! لكن تصمت اللغة على شفاه نهاية الحكي؛ حين تحقق حلم المهاجر غير الشرعي بالالتحاق بعالم الآخر، العالم الذي سيظل يجذب إليه البؤساء واليائسين من الضفة الأخرى حتى يتحطم على فقر الوعي المحمول على قوارب الموت. فحينها سيعلم ما جنت يداه حين لم يمدها إلى الجنوب تنمية وتطويرا، وحصرها في النهب والاستغلال والقتل. فها هي تعود إليه ملفوفة بورق السلوفان وعلى الفطرة والبراءة، تحمل في جيبها عشبا وورقا وعود ثقاب، وفي عقلها عقما، وفي قلبها حقدا وغلا لما فعلته تلك اليد الأثيمة بالأسلاف ومازالت تفعله بالخلف!؟ فها هي دول من الشمال تنحدر إلى الجنوب، ويستوطنها ما يستوطن جمهوريات الموز؛ حيث الانحدار يعلو سلوكها مع المهاجرين، ولغتها متخلفة تخلف خطابها، وسياستها أخرق من سياسات تلك الجمهوريات التي تسمها هي بالتخلف. فقد تعرت في زمن " كورونا " من فساتينها الزاهية؛ لتبدو سوءتها المنحطة في أسوء مشهد إنسي! فهي في الواقع ليست أرقى منا، ولا أفضل منا، ولا أحسن سلوكا منها ... فمشاهد القتل والإجرام بحق مواطنيها قبل إجرامها بحق الشعوب الأخرى دليل على الانحطاط الإنساني والقيمي والخلقي والمسلكي. فهي تمتاز عنا فقط في فرص المعيش اليومي الذي لا يساوي جناح بعوضة عند الوعي والعقل العاقل ...

هي معاناة في الرحلة ما كان الحكي يقف عندها؛ وإنما كان عليه الاستمرار في السرد عن المعاناة الكبرى التي يواجهها المهاجر السري في تسوية وضعيته بالمهجر، واندماجه في مجتمعه، وما يتعرض إليه من الاستغلال الاقتصادي والنفسي والجسدي! بل؛ ما يتعرض له من عبودية جديدة في بلاد الحرية والفرص، وكيف يرمى به على قارعة الطريق مسكنا وملبسا ومأكلا ومشربا؟ وكيف تنظر إليه تلك الدول وهو يتوسل مساعدة؟ وكيف تتعامل ثقافيا معه ومعطياته الاجتماعية والثقافية والعقائدية والإيديولوجية؟ ... كيفيات تطرح مجموعة من علامات الاستفهام على المهاجر؛ كفيل واقعه المعيش المستور بورق التعالي منه أو التورع عن ملامة النفس أو النأي بالنفس عن فتح الجراحات والملفات المدفونة في اللاوعي تفاديا للألم والحسرة على زمن مضى ويمضي إلى كتابة تاريخ المعاناة في بلاد المهجر، الأمل المفقود لمهاجر سري قلما يفلح في تسوية وضعية إقامته بربوع مهجره! فالأمل المفقود يظل مطاردا من المهاجر الذي هو الآخر يظل مطاردا من الشرطة وأعين المجتمع ونظراته المشؤومة ... فالجوع عند الوعي العاقل في وطن الأصل والمولد ألذ من كسرة خبز ملوثة بالحقد والاحتقار والسخرية والعنف الرمزي إن لم يكن عنفا ماديا بألف درجة. لكن في ظل تغير القيم وتبدل الرؤية وفلسفة العيش أضحت الرفاهية الاقتصادية هدفا لذاته ولا وسيلة!؟ فترى من صنع كل ذلك بنا؟ أهي الحياة جحيم بطبيعتها أم هي بشريتها صانعة ذلك؟ ...

ففعلا؛ الحياة جحيم صنعته البشرية الغائبة عن فهم معنى الحياة، ووعي حقيقتها، حين سقطت في أتون الصراع عن ألوان طيفها، لتحصيل لوحاتها الفاتنة، الآخذة بلب عقولها، وبناصية رؤوسها إلى حتفها الأبدي، الذي تتكسر على صخوره البازلتية أحلام مفردات جمعها الكتلي، الذي يحلم بأساسيات الحياة متوفرة توفر الأوكسجين في غلاف كرتها الترابية؛ يمد كل كائن حي فيها بنبضات قلب تدخ في جسده الاستمرار في الأمل المحمول على شرفات المستقبل، المطل من إشراقة شمس كل يوم جديد. يتأمل منه الخلود لمخاطبة العقل والقلب، كي يفكر ويحب؛ يفكر في بعث كل يوم فكرا حرا مستقلا يغدق على الإنسانية عطاء ورفاهية، ووعيا وحضورا بكل تجلياته الإنسانية واختراعاته التكنولوجية. ويحب كل الإنسانية بكل العواطف والقيم النبيلة، التي تجسر القلوب والعقول، وتمحو كل الذنوب والخطايا، وتمسح عن الإنسانية عذابات وآلام الدروب والصروف، وما ارتكب الإنسان من حمق وزلل. لكن؛ ومع الأسف الشديد، مازال الإنسان في عالمنا العربي والعالم المتخلف، يحلم حتى الثمالة بغد مشرق من صباحات العالم المتقدم، أساسيات الحياة متوفرة، ومساحات التفكير واسعة وشاسعة وكبيرة، وفضاءات الحب جميلة فاتنة. وفرص الحياة الكريمة مضمونة؛ قليلة هي الاستثناءات والشوارد في شوارع حياة المجتمع، ونادرة هي الأحداث المؤلمة ... فالتقدم الإنساني يحصل عندما يرتفع العقل إلى العقلانية، ويرتفع الإنسان إلى الإنسانية. وعندما ترتفع الإنسانية إلى مقامات السمو النفسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي والفكري والسياسي ... ترتفع قوارب الموت من على شواطئ الحياة القاسية، فيحيا الإنسان ويرتاح ضميره من عبثية الوجود، وما الوجود في عالم الأناسم إلا وجود إنسان الإنسانية، وما العدم في دبيب الحياة سوى انعدام إنسان الإنسانية ووجود حوافر وظلوف، وزد أذيال على قرون وقوائم. من تصنع قوارب الموت، وتعبد طريق القبور بإسفلت الجهل وموبقات الوجود، وبأمواج البحر وأحلام اليقظة، وبسجن اليأس وموت الضمير ... هكذا؛ يصنع الإنسان فاقد الإحساس، المتجلد والمتبلد، في عالم المتخلفين عربا وعجما حلما وأملا، ويضرب بعصاه البحر فينفلق بقوارب المجهول نصفين، فيكون كل فرق كالطود العظيم؛ فيغرق الحلم الأمل إلى الأبد أو تبدأ العذابات من حيث ينتهي الحلم، ويشرق الأمل، ويبقى البليد المتجلد متخلفا يصنع القهر واليأس، ويقتل الحياة في مهدها مبتسما فرحا بما فعل! ساديا مريضا لا يدري ما صنع أو يدري ذلك ويتصنع الجهل به؛ فيكون به جاهلا جهلا مركبا. بل؛ هو أحمق أكثر مما نتصور! يبدع أسباب الهجرة السرية والمعلنة معا، الأولى لليائسين والثانية للطامحين، يفرغ الوطن منهما معا؛ لكي يتربع هو فقط على كرسي مهترئ يظنه عرشا دائما مدى الدهر!؟

فالهجرة غير الشرعية في كنف فكر الحمقى والمعتوهين وأعمالهم سيميولوجيا استسلام لواقع جثم عليهم قبل أن يجثم على الإنسان المقهور، ونسف فيهم قوة إرادة مواجهة التاريخ، وقتل في مقهوريهم روح رفع الصوت في وجه الطغيان بكل أنواعه وأصنافه وضروبه. فالهجرة غير الشرعية هي انهزام في معركة التغيير الذاتي والمجتمعي، وزيادة معاناة وآلام وعذابات للمهزوم ورفع لأنانية القاهر والطاغي، وتشجيع له على التمادي في سحق الآخر ... !  فسيميولوجية هذا النص الروائي تفيد أننا أمام رحلة من الذات إلى الذات حيث التفكير في الهجرة يجب أن يراجع لما فيه من تفريغ الوطن من طاقاته، وحشد كل أعدائه الداخليين والخارجيين ضده باسم الواقع المر، الذي يتطلب رؤية مختلفة لما نعتبره سلبيات باتخاذها فرصا نحو التغيير. وهو ما يطرحه النص حين ينصح بعدم المغامرة والمخاطرة لما في ذلك من تأليم الذات والآخر؛ فتصوروا معي وقع خبر ارتقاء الروح إلى السماء على الوالدين والأهل والأولاد والأحباب والأصحاب! ولا تحصروا تصوركم في نجاح العبور والوصول إلى الضفة الأخرى؛ فهي ليست جنة بالطبيعة ولا بالضرورة، وإنما هي احتمال يحمل كل الوجوه المتناقضة. فهل من متعظ محمول على لوح وماء يقرأ جيدا واقع الحلم المأمول والأمل المنشود المفقود؟ فمن كان البارحة من المترفين أصبح اليوم من المفقرين؛ فأين المسير؟ وأي مصير؟ ... نداء قارئ لقارئ يشي بأن الرفاهية صنع بكد وجد وليست عطاء ومنحة! فالرفاهية في الإنسان لا في المظاهر والأشياء والحجر ...

 

عبد العزيز قريش

.......................

* قد تبدو هذه القراءة مبتورة من سياقها الواردة فيه؛ لكنها مقدمة لكل حكاية من حكايات الهجرة السرية والتخلف الإنساني والحضاري ...

تحمل في طياتها جان ومتجنى، لكل قارئ رؤيته الخاصة لكل منهما، وتبقى المأساة والمعاناة جارية بيننا مادام التخلف العقلي والإنساني وتوابعه يخطو إلينا وعبرنا في صمت منا ...

وهكذا يصنع الموت على ألواح طافية على الأمواج ...

 

 

في المثقف اليوم