قراءات نقدية

أمان السيد: بين المشتهى والمحرم

امان السيد قراءة في رواية "يوميات عجوز مجنون" للروائي الياباني "جونيشيرو تانيزاكي"

 في الروايات الناجحة يستطيع الكتّاب أن ينسلوا بالقارئ إلى جحور في وديان لا يتجرأ بنفسه أن يميط لثامها أحيانا، وإذ بها تفتحه على أبعد الأمداء، فيخلع برقع حياء مجتمعيّ كريه قد يعتبر المصدر لبؤسه، وتشوهاته. لنكن صريحين حين نعترف أن الكبت هو المُدان الأمكن في هذا الموضع!

 إنه الكبت بمختلف أنواعه وأشكاله وألبسته من قمصان إلى فساتين، إلى وجوه مبرقعة، وضحكات عاهرة، وتهجّم وعبوس في مقابلة الحياة رغم ما فيها من جمال لا تنكره عين.

 ماذا، وإن كان الجنس الذي نكبته في نفوسنا هو ذاك المدرج الأول للاستئثار بالخفاء لتقمّص صورة يرضى عنها المجتمع، بينما صاحبها في أعماق نفسه ينتحب وهو يئدها، ويركم عليها التراب والأسمنت ركما؟!

 رواية "يوميات عجوز مجنون" للياباني "جونيشيرو تانيزاكي"، تحيلك إلى ذلك الفضاء الأجرد من أي قيم، فتترك للنفس أن تتعرّى بمختلف قذاراتها، أو ما اصطلح على نعته بالقذارة دينيا ومجتمعيا، فتروح تغتنم الفرص بوضاعة الدنيء أمام شهواته التي تقفز فوق المحرمات لتمارس حقوقها في إشباع نزق يرى أن من حقه أن يرتع صاعقا في طريقه كل شيء، من قيم متعارف عليها، ومن اعتبارات، وروابط عائلية، فتروح تثير من الجدليات الملعونة ما يستحق المتابعة، والتقصي، والاستنباط، وكأنك بالروائي المذكور أعلاه يعول بمعوله بلبلة في خزائن النفس البشرية في أدق ثنياتها مرخيا لها الانطلاق على سجيتها، وعبث فطرتها، وهي تنشد الارتواء، والانتشاء.

 العجوز الذي يُفصح منذ أوائل صفحات الرواية عن رغباته التي من صورها التلذذ بالشذوذ المأفون مجتمعيا، ثم إنه الحريص على تدوين يوميات يودعها درجا غير متقصد إغلاقه!

  يوميات، تراتيل أيام لا تنتهي مع أمراض الشيخوخة التي تتكالب على رجل مثله تجاوز السبعين من العمر، هي أمر عادي، ولكن الروائي يحلو له أن يقدّم بطل روايته العجوز لقارئه عبر منصتين حساستين بينهما اتصال لا يخفى للقارئ: العجوز المتآكل المتهاوي المصاب بالعنّة، والإنسان المتماسك الذي ما يزال يشعر بالنشوة الجنسية، وإن كانت غير مكتملة، ولكنها كافية لأن تسمح له بأن يمرر لعابه بلسانه على فخذ امرأة، وإن كانت تلك المرأة الصبية كنته!

  المرعب في الأمر، وهنا أعود إلى المجتمعيات، والخلفيات الدينية، والأدبية كأي مبنى يتراصّ على طول زمن بما حُشي من مبادئ وقيم، وارتكازات خُلقية لأستثار من الدهشة والامتعاض في الوقت نفسه، فكيف لرجل أن يشتهي كنته، وأن ينحدر به الإسفاف إلى استجداء أطراف من المتعة معها، ويذل نفسه في سبيل تلك الشهوة، بل ويكتريها بالمال، بينما وحين أكتب من منطلق المحلل، ورافع ألوية الحريات أرى أني أمام كائن ضعيف يتحامل على ساقيه، وعجزه، وهو يرى أنه ينحدر إلى أراذل العمر، ولكنه حريص على التشبث بالحياة، وممارسة قناعاته ما دام يشاركها مع طرف يتوافق معه في الرأي، والرغائب أيضا!.

 أليس في الجنس الإحياء للجسد الذي يأتلق بالحب، حتى وإن نُعت بالنقيصة، والانحطاط، والعار؟! ثم أليست النفس الإنسانية لجج عميقة من دوامات، ومجاهل وتحليقات، وانتفاضات، وبراكين، صاحبها بها العليم، وغير العليم في الوقت ذاته، فإن تكشفت له اشتهاءاتها، لن يتمكن دوما من مغالبة شراستها، وما توحي إليه به من سعادة، وإن كانت قاتلة؟!

روائي قدير، وذكي في انتقائه للشخصية المحورية هنا، عجوز ثري مالك يريد الجميع إرضاءه بما أنه المغدق، فلا يمتنعون عن الرضوخ إلى طلباته، ويغضون النظر عما يستدعي حقا الثورة، والتأجج، والاتهام، ثم المقاصصة، والمعالجة النفسية!

 إن الازدواجية تتبدى في الرواية حلة رئيسة للشخصيات في المجمل، فالزوجة، الحماة، تدرك ما يفعله العجوز مع كنته، ولكنها لا تحتج، بل إنها تصمت مقابل ما يقدمه الزوج من العطاء، وأيضا اتقاء لفجور، وسفاهة كنة أرغمت على قبولها. البيت واسع ثريّ التضاريس، الحياة رفاهة، إلى ما إلى ذلك، أما الكنة الشابة التي تعيش حياة البذخ بعد أن كانت راقصة تعرّ في كاباريه، فلا تقنع بما حازته من حياتها الجديدة، بل هي تساوم حماها، وقد استشعرت شهوته تجاهها على مجوهرات فادحة الثمن، وسيارة فارهة، والمال الوفير، وتمارس في الوقت نفسه حياة زوجية مفتوحة إلى درجة مخيفة، فلا هي تكتفي باستغلال اشتهاء العجوز لها، والسماح له معها بممارسة سلوكيات جنسية مستهجنة، بل تجعل منه الراضخ لغرائزها وشهواتها أيضا، تصطحب عشيقها إلى بيت العائلة للاستحمام تحت حجة واهية لا تلبث أن يسقط قناعها، حيث تمرره إلى غرفتها، وإلى حمامها فيتشاركانهما سوية، والعجوز في منتهى السعادة، والمرح، بل إنه الملحّ في طلب مشهد يعوضه عن عنته، ونقص أداء جنسي ما يزال في شره إليه!

 للمصداقية، إن روائينا الياباني لا ينعت بجرأة الطرح فقط، بل إنه وافر الشفافية، والواقعية في سبره لما في الأعماق من الانتكاسات، والانفعالات التي يحرم خروجها إلى العلن، والذي يحرص المجتمع منذ الأزل على تهذيبها، وتأطيرها في أطر دينية، ومجتمعية، والتي إن أفلت لها القياد، فستودي بتلك المجتمعات إلى الهلاك شرقا وغربا، وكم من ممارسات قد ترد على الذهن، والقارئ يبحر في القراءة بلا قيد أو رقابة مع نفسه، وحوله، منها ما خضع أصحابه للعلاج النفسي، ومنها ما أدى إلى الإجرام، ومنها ما ظل حبيس جدران الذات، أختار  أو أورد منها جانبا من حلم كان يرد بإلحاح على مراهقة ويمنعها من مواصلة حياة طبيعية مع الخارج،  ترى أنها معلِّقة نفسَها إراديا عارية على حبل، أو عمود يماثل أعمدة السيرك، وأسفلها حشد من الرجال يتناوبون على ارتشاف ثدييها، وهي في خدر لا انتهاء له، فلا هي تمكّنهم من مرغبهم، ولا هي تمنعهم عنه، وهي الآمرة الناهية، والجمع في تداول سكينة، والتفاف طوفي!.

 من تراه ذاك الذي يجترئ على تعرية مشاهد تنحشر في بؤر البشر سوى كاتب، أو فنان، أو قناص غير مبال.. أولئك الملعونون من مجتمعات تتجلل بالخطيئة سرّا، وتتربع موائد لذائذها جهارا، وبكل صفاقة؟!

***

خاص/ صحيفة المثقف

أمان السيد

 

 

في المثقف اليوم