قراءات نقدية

منذر فالح الغزالي: غمزة أم نداء الوجد؟ قراءة في قصة (غمزة) للكاتب زهير كريم

منذر الغزاليالقراءة: غمزة أم نداء الوجد؟

مدخل: وضعنا الكاتب أمام حكاية غرائبية مثل كثير من القصص ذات الموضوع الفلسفي؛ والفلسفي هنا لا يعني الفلسفة كعلم، ونظريات؛ لكنها الرؤية، رؤية الكاتب التي تتجاوز رؤية الواقع والعالم المحيط، لتضعنا مع الغيب وجهاً لوجه؛ يعرض علينا وجهة نظره في الموت والحياة، كوجهين لا بدّ منهما كي يكتمل وجود الإنسان، أو الذي يبدأ من عدم ثم ينتهي إلى المجهول.

ونثر في تضاعيف نصه نظراتٍ في أربعة مواضيع محدّدة ومؤطره بدلالات وإشارات لا تخفى على القارئ.

رؤية الكاتب للحياة:

ابتدأ القصة بعرض قدوم الموت على الرجل، واستقباله استقبالَ الضيف الرسول يستردّ (أمانةً) مضى عليها ثمانون عاماً

" صاحب الأمانة التي لديه، قد أرسل مبعوثاً عنه، وهو قادمٌ بعد ثمانين عاما لأخذها. لم يكن في غبطة ولا في حزن..."

إذن الحياة في نظر الكاتب هي أمانة تُسترَدَّ بمشيئة صاحبها، واستردادها يكون بنذيرٍ لا يدركه إلا صاحبها.

والنذير هنا هو نذير داخلي، خوف أو طمأنينة، حدسٌ داخليّ يدركه المرء من خلال أعماله، من ضميره الذي يقيس- في لحظات الموت الأخيرة- الحسنات بالسيئات، ويسترجع تاريخ حياته ويحاسب نفسه، قبل أن يحاسبه أحد.

"حدث له ذلك حين حصل على اطمئنانٍ داخليٍّ بأن زيارة المبعوث له ستكون بمذاق ليس مرا كما يحصل لآخرين، بل خفيفة وبسيطة، خاطفة لن يشعر بها أحد غيره"

وفي رأيي هنا يضع الكاتب رؤيةً بماهية الدين، أو بكلامٍ أدقّ: ماهية الضمير الديني، ذاك الذي يرشدنا للخير في حياتنا، ويحاسبنا في لحظات اليأس الكبرى، أو في لحظات الموت الوشيكة.

رؤية الكاتب للموت:

الموت، كما وصفه النص في المقطع الأول هو تسليم أمانة إلى مؤتمنها؛ لكنها أيضا هي رحلة إلى عالمٍ مجهول، غيبيّ.

" وان الرحلة ستكون مثل حلم طفوليّ إلى جزيرة العجائب، وأنه يحتاج لكي تكون النزهة مثالية الى رفيق، وأن هذا الرفيق لابد أن يكون مستعدًا للسفر"

هذه الرؤية للموت تتنافى مع فكرة العدم، وتنزاح، انزياحاً ليس بالقليل، عن فكرة البعث من القبور.؛ هي، بحسب دلالات النص، انتقال من حالٍ إلى حال، وهي، لدى شخصية النص، نزهةٌ، بل ونزهة قد تكون مثاليةً، إذا تحقق لها شرط، سنورده لاحقاً.

استوقفتني إشارة الكاتب لمفردة تكرر ورودها مرتين في النص، مرة حين ذكر غمزة سلمان، شخصية النص الرئيسية لزوجته، وهو يتهيّأ للموت...

"نظرَ بعينيه المتراخيتين لزوجته سليمة، غمزَ لها فابتسمتْ، كانت غمزةٌ ذات طابع تخديري."

وأخرى وهو يصف تهيئة زوجته للحاق به:

"فنظرتْ إلى السماء عبر شبّاك الغرفة المفتوح على العتمة، كانت هناك نجمة وحيدة، نجمة تومض كأنها ترسل غمزات متوالية، عجولة ومدوّخة..."

في كلا التركيبين ترد الغمزة مترافقةً بشعور مخدّر.

رؤية الكاتب للنعيم:

الموت، في نظر النص، هو انتقال المرء من حالٍ إلى حال أخرى.

سالم كان مطمئناً أن رحلته التالية هي نزهةٌ، لن تكتمل سعادته بها إلى برفيق يصاحبه في تلك الرحلة:

"وان الرحلة ستكون مثل حلم طفوليّ إلى جزيرة العجائب، وأنه يحتاج لكي تكون النزهة مثالية الى رفيق، وأن هذا الرفيق لابد أن يكون مستعدًا للسفر".

وأن هذا الرفيق يجب أن يرى رفقته سعادة ويختار الذهاب معه في تلك الرحلة طواعية، دون إكراه أو خجل:

"... أن رحلته الى العالم الآخر لن يكون لها معنى إلا برفقتها. ابتسم هو أيضا مطمئنا لإجابتها السريعة الواثقة على دعوته، فقد بعثت في نفسه الشعور بالسلام، ابتسامتها التي كانت متقنة، تلقائية لم يمنعها من الظهور قيد أو شرط"

من يقبل مثل هذه المغامرة التي ستفقده حياته، وتأخذ به إلى المجهول إلا حبيبٌ مغرم به حد التماهي؟

وعارف أيضا، مثله، أنه مقدم على حال أفضل من الحال التي سيظل عليها بدون رفيقه؟

هذان السؤالان يصلان بنا إلى دلالة العنوان، غمزة، ما هي تلك الغمزة التي ملـأت بالطمأنينة قلب سالم المفارق حياته للتوّ؟  وملأت قلب زوجته بالسعادة وهي تومئ لها بالحالتين؟

قراءة العنوان: غمزة

رغم ما في النصّ من دلالاتٍ ومعانٍ عميقةٍ تتجاوز الواقعيّ لتدخلنا في الغيبيّ والفلسفيّ، فقد اختار الكاتب مفردةً بسيطةً عنواناً للنصّ، تمرّ في الحبكة بحدثين متباعدين، كما ذكرنا. بل ويختم النصّ كله على هذه (الغمزة)؛ لكن بعد أن حمّلها معانيَ وإشاراتٍ أوسع من طبيعتها المادّيّة، وجاءت خاتمةً بمفرداتٍ تحمل شحنةً رومنسية... 

" كانتْ تفكر بغمزة سالم الرائعة، تفكر بالبيت الذي أمسى ساكناً كما لو أن العالم لم يعد، غمرها شعور بأنها آخر إنسانٍ على وجه الأرض فنظرتْ إلى السماء عبر شبّاك الغرفة المفتوح على العتمة، كانت هناك نجمة وحيدة، نجمة تومض كأنها ترسل غمزات متوالية، عجولة ومدوّخة، ابتسمتْ لها، أغمضتْ عينها فأحسّتْ بجسدها يصير خفيفاً، يرتفع عن السرير ويطير خارجًا عبر النافذة، مخترقًا العتمة الى هناك".

هنا، يتوجّب أن نعيد النظر في قراءتنا، فالعنوان والخاتمة تحيلان إلى عالمٍ آخر، إلى دلالات أـخرى، أزعم أنها تحمل إشاراتٍ صوفية مضمرة.

سأدلل على افتراضي من داخل النص، من لغته ودلالاته.

"غمزَ لها فابتسمتْ، كانت غمزةٌ ذات طابع تخديري، سلب منها كل إرادة لأنها انطوت _ كما تلقتها_ على رسالة تتضمن أن رحلته الى العالم الآخر لن يكون لها معنى إلا برفقتها"

المتمعّن للفقرة أعلاه يرى حبيباً مفارقاً يدعو محبّه أن اتبعني، بإشارة من عينه هي الغمزة، وهذه الإشارة تبعث السعادة في نفسه، وتجعل المحبّ في حالة خدَر، عجز كلي، هو أشبه بالسكر.

هذه الإشارة ذاتها تأتيها في نهاية النص من شخصٍ آخر، أو حبيب آخر علوي سماوي، عبّر عنه الكاتب بالنجم، يظهر بإشراقة نوره، وكلّ شيء عداه في عتم، لا يُرى.

"... فنظرتْ إلى السماء عبر شبّاك الغرفة المفتوح على العتمة، كانت هناك نجمة وحيدة، نجمة تومض كأنها ترسل غمزات متوالية، عجولة ومدوّخة، ابتسمتْ لها، أغمضتْ عينها فأحسّتْ بجسدها يصير خفيفاً، يرتفع عن السرير ويطير خارجًا عبر النافذة، مخترقًا العتمة الى هناك".

هل النجم إلا ذاك الحبيب العالي المتعالي الذي ينشد السفر إليه كلّ صوفيٍّ عاشق؟

وهل تلك (الدوخة) إلا غيبوبة السكر الصوفي نفسها؟

وفي كلا النداءين، وفي كلتا الحالتين تكون السعادة غامرة، والاحساس بالجسم يتلاش، لأن المحبّ قد فقد الإحساس بالوجود الأرضي ودخل مقام الوجد.

اهتمّ الكاتب بمفردةٍ غمزة، وأرفقها بحالة شعورية ذات دلالة واحدة، أو متشابهة بمعنى الغيبوبة... هذه المفردة الأكثر اتصالا بالصوفية والحالة الصوفية.

تلك الدوخة، وقبلها الخدر الذي ينتاب المرأة هي، باللغة الصوفية الوجد، وللوجد مقامات.

يقول الشيخ عبدالحق بن سبعين:

 "من قام به الوجد المحض، والميل المستولي، ولا يحدثه الضمير بذلك … فهو المولّه:

والإمام القشيري يقول:

"الشوق: هو: اهتياج الوجد عند إحساس البعد."

وأخيراً يقول الصوفي أبو سعيد الأعرابي في كتابه "الوجْد:

"إن بواعثَ الوجد هي: "ذكرٌ مزعج، ....... أو شوقٌ إلى غائب...... أو استجلابٌ إلى حال، أو داعٍ إلى واجب"

إذا كانت الغمزة هي نداء الشوق في قلب الصوفيّ العاشق، فإنّ الخدر، والدوخة، هي حال من حالات الوجد، أو مقام من مقامات السفر الصوفي.

أخيراً:

قد يسأل البعض، هل يكون العشق الصوفي إلا للمعشوق الواحد الأحد، العالي المتعالي، الخالق المعبود؟ وهل الرحلة الصوفية برمتها إلا رحلة عبادة وصلت حدّ الذوبان بالخالق؟

نعم.. اقول ألم يكن جلال الدين الرومي صوفياً عاشقا؟ ... ألم يكن شعره برمّته إلا ترجمةً لمشاعر حبّه لشمس التبريزي الذي قتله عشقه؟

ألم يحبب جلال الدين الرومي رفيقه شمس، وبعد مقتله كتب فيه ديوانه الضخم (المثنوي)؟

واقول أيضاً: ألم يعشق ابن عربي (النظام)، وهو بجوار بيت الله في مكة؟

الم يكتب عنها ترجمان (الأشواق)، وهو الشيخ الأكبر؟

 

منذر فالح الغزالي

بون 26/10/2021

............................

غَمْزة قصة قصيرة بقلم زهير كريم

عندما شعرَ سالم، جارنا في قطاع 55 في مدينة الثورة، بأن صاحب الأمانة التي لديه، قد أرسل مبعوثاً عنه، وهو قادمٌ بعد ثمانين عاما لأخذها. لم يكن في غبطة ولا في حزن، لكن شيئا من الخفة قد غمر كيانه، حدث له ذلك حين حصل على اطمئنان داخلي بأن زيارة المبعوث له ستكون بمذاق ليس مرا كما يحصل لآخرين، بل خفيفة وبسيطة، خاطفة لن يشعر بها أحد غيره، وان الرحلة ستكون مثل حلم طفوليّ إلى جزيرة العجائب، وأنه يحتاج لكي تكون النزهة مثالية الى رفيق، وأن هذا الرفيق لابد أن يكون مستعدًا للسفر.

وكان سالم يحتاج_ قبل ذلك_ للقيام بشيء وحيد وأخير، حركة وجدها في غاية الضرورة، نظرَ بعينيه المتراخيتين لزوجته سليمة، غمزَ لها فابتسمتْ، كانت غمزةٌ ذات طابع تخديري، سلب منها كل إرادة لأنها انطوت - كما تلقتها - على رسالة تتضمن أن رحلته الى العالم الآخر لن يكون لها معنى إلا برفقتها. ابتسم هو أيضا مطمئنا لإجابتها السريعة الواثقة على دعوته، فقد بعثت في نفسه الشعور بالسلام، ابتسامتها التي كانت متقنة، تلقائية لم يمنعها من الظهور قيد أو شرط.. وحين وصل المبعوث أغلق سلمان عينيه، فبدا كما لو أنه طرحَ آخر أسراره، ولم يعد يضمر في قلبه عن العالمين أي شيء، مقتنعا بوصول نهره إلى المصب، فهيط إليه كما يحدث لكل الأنهار.

ثم مرتْ أيام الواجب وسليمة دخلت في الليلة السابعة سريرها، كانتْ تفكر بغمزة سالم الرائعة، تفكر بالبيت الذي أمسى ساكناً كما لو أن العالم لم يعد، غمرها شعور بأنها آخر إنسانٍ على وجه الأرض فنظرتْ إلى السماء عبر شبّاك الغرفة المفتوح على العتمة، كانت هناك نجمة وحيدة، نجمة تومض كأنها ترسل غمزات متوالية، عجولة ومدوّخة، ابتسمتْ لها، أغمضتْ عينها فأحسّتْ بجسدها يصير خفيفاً، يرتفع عن السرير ويطير خارجًا عبر النافذة، مخترقًا العتمة الى هناك.

 

 

في المثقف اليوم