قراءات نقدية

محمد الأحبابي: التكرار في الشعر العراقي الحديث، شعراء السبعينيات.. دراسة أسلوبية (2)

محمد الاحبابيمستويات التكرار

للتكرار أنواع وأساليب فهو ينقسم إلى قسمين تكرار بسيط وأخر مركب، أما التكرار البسيط، فيخص تردد الكلمة (حرفًا أو فعلًا أو اسمًا) دون مراعاة السياق الذي وردت فيه، وأما التكرار المركب فيخص تردد السياق (جملة أو عبارة)، وسوف أعرض التكرار البسيط مبتدئين بالحرف، فالكلمة وكذلك العبارة، ثم نعرج على التكرار المركب مُبْرزين في كل ذلك أهم الدلالات التي يجلبها، حيثُ وَظَفَ الشعراءُ التكرارَ البسيط توظيفاً مكثفاً مقارنةً بنظيرهِ التكرار المركب، ويرد التكرار البسيط في موضعين متقاربين أفقياً وعمودياً، إلّا أن التكرار الذي يرد أفقيًا أكثر تواترًا من التكرار الذي يرد عموديًا (1)، وسوف نُمَثِل لظاهرة التكرار البسيط بدايةً بتكرار الحرف، محاولين إبراز دلالته وغايته  الجمالية . وكما يقول صلاح فضل (يمكن للتكرار أن يمارس فعاليته بشكل مباشر، كما أنَّ من الممكن أن يؤدي إلى ذلك من خلال تقسيم الأحداث والوقائع المتشابكة، إلى عدد من التمفصلات الصغيرة، التي تقوم بدورها في عملية الاستحضار) (2)

المبحث الأول: تكرار الحرف

لقد أهتم القدماء بالأصوات، فقد أخذت حيزاً واسعاً من تفكيرهم اللغوي وعملوا على تحديدها وطرائق نطقها، يقول ابن جني(إعلم أن الصوت عرض يخرج من النَفَس مستطيلاً متصلاً، حتى يعرض له في الحلق والفم والشفتين مقاطع تثنيه عن امتداده واستطالته،فيسمى المقطع أينما عرض له حرفاً، وتختلف أجراس الحروف بحسب اختلاف مقاطعها) (3) .

وقد يسهم تكرار الحروف في نسج النص، متجاوزاً دوره الصوتي إلى درجة يتعدى فيها الحالة الموسيقية أو جرس القصيدة، ليدخل في بنيتها، وربط الجمل فيما بينها، أي يكون لتكرار الحروف دور بنيوي يتعدى الحالة الموسيقية ليدخل في تركيبها (4) وهذا يدلنا أن (التكرار لا تقتصر وظيفته على تلخيص الغرض، أو توكيده بهدف التأثير في المتلقي وتنبيهه، ولا على اعتباره لازمة تفصل المقطع عما يليه، وإنما يؤدي التكرار دورًا بنائيًا داخل بنية النص الشعري بوصفه يحمل وظيفة إيقاعية وتعبيرية، الغرض منها الإعلان عن حركة جديدة تكسر مسار القراءة التعاقبية، لأنها توقف جريانه داخل النص الشعري، وتقطع التسلسل المنطقي لمعانيه، وهذا كله يتطلب البحث عن عمق الدلالة النفسية لأثر التكرار في تحقيق جمالية النص وقوته البلاغية) (5)

يُعدُّ تكرار الحرف عند شعراء العصر الحديث ظاهرة فنية تبعث على التأمل، والاستقصاء ولاسيما إذا أدركنا أن تكرار الحروف  ينطوي على دلالات نفسية معينة، منها التعبير عن الحزن، والغربة، والقلق، فهو يدلُّ على الحالة الشعورية لدى الشاعر، وطبقاتها النغمية ضمن النسق الشعري الذي يتضمنه (6)، وأبرز ما يحدثه من أثر في نفس السامع أنه (يحدث نغمة موسيقية لافتة للنظر لكن وَقْعها في النفس لا يكون كوقع تكرار الكلمات، وأنصاف الأبيات، أو الأبيات عامة، وعلى الرغم من ذلك فإن تكرار الصوت يسهم في تهيئة السامع للدخول في أعماق الكلمة الشعرية)(7) ومعرفة ما تحمله من مضامين فكرية.

وأنّ لكل حرف مخرجه الصوتي وصفاته التي تميّزه عن غيره، (فالتكرار الحرفي هو أسلوب يكرّسه الاستعمال اللّغوي لمحاكاة الحدث بتكرير حروف الصيغة مع ما يصاحب ذلك من إبراز الجرس)(8) وتكرار الحرف يعطينا المقدرة على المعرفة بالأصوات والتهيؤ لسماعها واستقبالها، إنه عنصر معلوم في إحساسات سمعية لدى المتلقي، مما يتيح للأذن التوازن مع الايقاعات الخارجية (9) .

وتكرار الحرف يُعدُّ من (أبسط أنواع التكرار، وأقلّها أهمية في الدّلالة، وقد يلجأ إليه الشعراء بدوافع شعورية لتعزيز الإيقاع، في محاولة منهم لمحاكاة الحدث الذي يتناولونه، وربما جاء للشعراء عفواً أو دون وعي منهم)(10)، ولتكرار الحرف: يلجأ بعض الشعراء إلى التنويع في الإيقاع الداخلي بنصوصهم الشعرية، عن طريق استثمار بعض الأصوات أو الحروف، يعمد إلى تكرارها بشكل لافت للنظر، وإلى توزيعها على مساحة صغيرة أو كبيرة في النص الشعري، وقد يضيف إليها بعض الأصوات التي تماثلها في صفاتها الصوتية، فيعطي نصه إيقاعاً خاصاً قد يثير الدهشة في نفس المتلقي ويسهم في تلوين الإيقاع(11).

وقال عز الدين السيد عن تكرار الحرف في كتابة التكرير بين المثير والتأثير: (لتكرير الحرف في الكلمة ميزة سمعية وأخرى فكرية الأولى ترجع إلى موسيقاها والثانية إلى معناها)(12)،وقال كذلك إبراهيم أنيس عن تكرار الصوت أنه (ظاهرة طبيعية ندرك أثرها قبل إن ندرك جوهرها)(13)، وقدعَرَّفه أحمد مختار عمر حيث قال (إن الأصوات هي اللبنات الأولى التي تشكل اللغة أو المادة الخام التي يبنى منها الكلمات والعبارات)(14) .

ولتحديد بروز هذا النوع من التكرار في قصائد شعراء العراق في مرحلة السبعينيات، عمدتُ إلى دراسة دواوين شعراء المرحلة، وتحديد أنماط ومستويات وبواعث التكرار فيها، فهي واحدة من أهم التقنيات التي اعتاد أن يستخدمها الشعراء مثل أديب كمال الدين حتى سُميَ شاعر الحروف وخزعل الماجدي ويحيى السماوي ومعد الجبوري وغيرهم من الشعراء، وطوروها  بشكل واضح، وهذا ما يُسمى تقنية (الوحدة والتكرار)، التي يطرح الشاعر من خلالها فكرة شعرية واحدة في نفس النص، تنشأ وتنمو من خلال حروف متكررة ومتسلسلة بالمنطق الشعري المثير.

وفي هذا المقطع يبرع الشاعر يحيى السماوي في عملية الاستبدال حيث يُستبدل بكل ما هو أصيل وراسخ في الوجدان الشخصي والجمعي من معاني الشرف والجمال والقداسة، وما هو دنيء وقبيح وموغل في الدنس كما جاء في قصيدة (اطلقوا سراح وطني من الاعتقال) حيث اهتم الشاعر الوطني بدعوة الشعوب إلى التحرر من الاستعمار والدفاع عن الأوطان وبذل النفس من أجلها، وفضح جرائم المستعمر وتهديده، والتمرد عليه حيث يقول (15):

إستبدلوا:

بكوفيتي خوذة

بحصاني دبابة

بحديقتي خندقا

بنخيلي أعمدة كونكريتية

بأساوري قيودا

بـ " زهور حسين " " مادونا "

بالقرآن مجلة ستربتيز

ودماً بمياه الينبوع

وساندويشة ماكدونالد بخبز أمي

ويحكم الشاعر قبضته على التكرار الحرفي المعبّر عن الموجات الانفعالية الصاخبة حين يتحول بعد سبعة استخدامات لجمل تبدأ بالباء (الاستبدالية) المكانية، بجملة إضافة تبدأ بالواو (الزمانية) ؛ ليخلق انفتاحًا شاسعًا مدويًا بعد طول احتباس – وتوصيفًا للمكان والزمان لحرفي الباء والواو، فقد تكرر حرف (الباء) ثمان مرات فلتكرار الحرف في هذا النّصّ وظيفة تعبيريّة متناغمة مع الدّلالة التّي قصدها الشّاعر، لكن المفارقة التي تصدم تجربته في صميمها تتمثل في أن من جاءوا بالاحتلال يتصورون أنهم قد أطلقوا سراحه في الوقت الذي حبسوا فيه البلاد بكاملها .

وقد عمق  يحيى السماوي حدث السلام، والمحبة في أكثر من موقع، مؤكدًا نظرته الوجودية السامية وحسه الإنساني والشعوري النبيل، ليعكس ما في الداخل إلى الخارج، بمصداقية واضحة مقرونة بإحساس عاطفي سامٍ بالوجود، والإنسان، والكون، فالتكرار كان من أهم العناصر في تماسك المعنى وانسجامه، حيث يقول: (16)

العيدُ عِندي:

أنّ يملـُـكَ كُلُّ طفلٍ:

الدُميةَ ... الأرجوحَةَ ... والحقيبةَ  المدرسية..

وكُلُّ عاشِقٍ:

منديلَ مَسَرَّتِهِ... قيثارَتَهُ..

وحديقة  نجواه...

أنْ تكُفَّ نواعيرُ الدمِ عن الدوران...

وأنْ تغدو أرغفةُ  الجِياعِ أكبرَ من الصحنِ..

والصحنُ أكبرَ من المائدة...

وأن يتطهَّرَ بُستانُ الوطَنْ...

من خنازير الاحتلال !

هذه القصيدة هي ارتدادٌ مرجعي لمثيرات الطهر، والصفاء الوجودي، وليس القتل والدمار، وهذه الخصيصة لدى الشاعر في سرد الحدث، وتعميق الرؤية، وهكذا يؤسس السماوي مثيرات قصيدته على مركز الحدث، وتكثيف المشهد الشعري وبلورة مغزاه الفني، لذا جاء التكرار في لفظتي (أن، الواو) منسجمًا  في السياق الكلي للقصيدة، واستخدم الشاعر أسلوب: الواو + أن + الفعل المضارع، استطاع صنع دلالة إيقاعية متصاعدة ترصد حالة الخيبة الشديدة بدلالات جديدة، وكرر الشاعر حرف الجر(من) ثلاث مرات، وهذا الذي يتمنى الشاعر تحقيقه بحياة أفضل للعراقيين، وأن يتحقق الأمل وهو تحرير الوطن وفي صور إنسانية رائعة على بساطة تراكيبها، لكنها ذات دلالات إنسانية ووطنية وأخلاقية رائعة وفيها تجريم للمحتل وقد أحسن الإحسان كله عندما وصفهم بالخنازير.

وفي قصيدته (في ليلة الميلاد) يقول: (17)

حبيبتي

في ليلة الميلادْ

كتبتُ عن تفاهة الميلادْ

وعن سنين الجوع والجرادْ

في القدس . .

في عمان . .

في بغدادْ !!

وعن ربيع الموت والرمادْ

عن قلعة السجون والجلاّدْ

عن وطن يحكمه الأقزام

نرى في المقطع صوراً فنية موسيقية وواقعية تؤطر بإطار قومي فهو لا يكتفي بذكر بغداد العروبة والإسلام، إنما يذكر القدس، وفي ذكر القدس دلالات ومعاني الأسر والاحتلال والهيمنة الصهيونية على المقدسات، فالقدس ترمز إلى أشياء كثيرة، دينية، تاريخية، حضارية، أما ذكره للمدينة العربية (عمان) فمن لا يذكرها وقد أصبحت محط رِحال العراقيين عامة والأدباء والمثقفين خاصة، فجاء تكرر حرف الجر ( في) أربع مرات، وكذلك حرف الجر (عن) أربع مرات،  فاستهل قصيدته  بالنداء على الحبيبة دون أن يستخدم حروف النداء لكونها قريبة منه، كما كرر حرف العطف (الواو) خمس مرات، وجاء بتكرار حرفي الروي (الألف، الدال) في نهاية أغلب الأبيات مما زاد من إيقاع الجرس الموسيقي في القصيدة، واختلفت حروف الجر في الدلالة، مما جعل القصيدة بعيدة عن الحشو في بنيتها،  وهذا التكرار يمنح امتداداً وتنامياً في الصور والأحداث لذلك يعد نقطة ارتكاز وأساس لتوالد الصور والأحداث .

تكرار الاسم

ونقصد بـ (الاسم) أن يكرر الشاعر الاسم تكرارًا بنائيًا مؤثرًا، لتشكل الكلمة المكررة محور ارتكاز القصيدة، إنّ تكرار كلمة واحدة في أول كل بيت من مجموعة أبيات متتالية في القصيدة، هو لون شائع في شعرنا الحديث ومنبع ثقلها الفني (18)، ويكون (تكرار الكلمة أو ما يقارب جذرها تكراراً يفيد المعنى نفسه أو معنى  مقارباً) (19)، ويُعدُّ هذا النوع من التكرار أكثر الأنواع  انتشارًا  في الشعر العربي، ولعل تكرار الأسماء يشكل القسم الأكبر منه، ومن المناسب قبل الدخول في بحث الأثر الإيقاعي الذي يحدثه تكرار الاسم في دلالة وتشكيل بنية القصيدة.

وفي بعض الأحيان يستخدم التكرار ليكون صدى وتأكيدًا للمعنى والفكرة المعبر عنها، ولا شك أن تكرار كلمة العراق في القصيدة (شدي شراعك) ليحيى السماوي تدلّ على شدة تعلق   الشاعر ببلده وحنينه إليها وحزنه على ما آل إليه أمر شعبه حيث يقول: (20)

هـذا عـراقـكِ  يا عصـورُ. . رغيفهُ

حَـسَـكٌ  ... وكــوثــرهُ  دم ٌ ووُحُولُ

تحتَ الكراسي في الـعـراق جَماجِمٌ

وعلى الكراسي في العـراق ِمَغـولُ

وما يلبث الشاعر أن يردد مرة أخرى كلمة الوطن (العراق) فالشاعر يخاطب العصور بما وصل إليه العراق بعد أن كان قبلة العالم ومهد الحضارات، وقد كرر الشاعر عبارة (الكراسي في العراق) مرتين وقد اقترنت الكراسي بـ (الجماجم و المغول) فأصبح خبزه حسكاً وماؤهُ دمًا ووحولاً، ومن أجل المناصب والكراسي كثير من الجماجم دفنت لأن الحاكمين مغول لكن الكارثة هي أن حلم الشاعر قد تهشم.. ونداءاته التي جرّحت روحه وأدمت أوتار حنجرته قد ضاعت طاقاتها. فبعد الطغيان يأتي الاحتلال.

تكرار الضمير والعبارة

1- تكرار الضمير:

يشكل تكرار الضمير ظاهرة لافتة للنظر في الشعر العربي الحديث، خاصة في الاستهلال السطري أو الفاتحة النصية، بوصفه تكراراً يحدث هزة شعورية لدى المتلقي، للتنبيه على حالة شعورية معينة، أو لتوكيد الذات، وتضخيمها في بعض السياقات التي تتطلب ذلك كالفخر والغزل، والرثاء، والحماسة،  ومن الأساليب اللغوية في ديوان يحيى السماوي والملفتة للنظر، أنّه كثيرا ما كان يستخدم ضمير المتكلّم في التعبير عن ذاته. (21)

يقول في قصيدة (أربعة أرغفة من تنور القلب): ( (22)

بنيتُ في خيالي

مئذنةً...

وملعباً طفلاً..

وطرزتُ الصحارى بالينابيع التي تجولُ

في غابات برتقالِ..

وعندما غفوتُ

تحت شُرفةِ ابتهالي

شعرتُ أن خيمتي حديقةٌ

وأنّني سحابةٌ

رسمتُ بالإشارةْ

نسجتُ للكوّة في الجدار

من هدب المُنى ستارةْ

أن تكرار ضمير المتكلم كان ملازماً لبنية القصيدة من أول سطر في المقطع فجاءت (بنيت، طرزت، غفوت، شعرت، رسمت، نسجت) الأفعال الماضية والتاء ضمير متصل في محل رفع فاعل، وهذه الأفعال التي قام بها الشاعر لا تتعدى الأحلام، لأنه سرعان ما يواجه الواقع المرّ بكل أحزانه، وهكذا يؤدي تكرار الضمير فاعليته في بنية القصيدة الحداثية التي تتحرك على أكثر من مثير، ودلالة، وهذا ما انعكس على بنيتها النصّية التي تتحرك على أكثر من محور، وأكثر من رؤية، وأكثر من دلالة .

ولقد ارتكز الشاعر يحيى السماوي على تكرار الضمير في قصيدته (كذبتُ صدقي كي أصدق كذبها ) حيثُ يقول: (23)

صَدقتُ كِذبي

كي اكَذّبَ صِدقها ..

فأنا صَديقي مَرّةً ..

وأنا عدوّي والعَذولْ

وأنا المُغامِرُ في تَهيّمِهِ بكأسِ زفيرها

وبلثمِ مُقلةِ نهدِها المائيِّ ..

والطفلُ المشاغِبُ ..

كرر الشاعر ضمير الرفع المنفصل (أنا) ثلاث مرات، وجعلة أساس البنية في المقطع الشعري، لدلالات مختلفة منها الصديق والعدو والعذول والمغامر، وتجتمع هذه الدلالات والصور للوصول إلى التيه حتى الثمالة، فهو ذلك الطفل المشاغب، والصبى الجائع إلى ما يريد في حقل الغواية، ولقد كانت المفارقة الجميلة في هذا المقطع الشعري فالشاعر يكذب صدقه كي يصدق كذبها وهو عنوان القصيدة، وسرعان ما يقول(صدقتُ كذبي كي أكذب صدقها) لقد اختلط عليه الأمر حتى وصل به الحال إلى تصديقها بكل شيء من أجل إرضائها، غير إن تكرار (أنا) في هذه الأبيات يكشف عن حالة التوحد التي يسعى إليها الشاعر من خلال اقتران ضمير المتكلم بـ  لفظة (صديقي، عدوي، المغامر ) إذ يفصح هذا التوجّه عن رؤية شعرية شكلت من خلال البنية التي تعلن الوصل بين الشاعر ومن يحب، وتلغي أي فاصل بينهما.

ويقول يحيى السماوي في قصيدة  ( يشقيك يا ليلاي ما يشقيني ) (24)

أنا ذلك البدويُّ ..تحت عباءتي         بستان اشواق ونهر حنينِ

أنا ذلك البدوي ..عرضي أمة          ومكارم الاخلاق  وشمُ جبيني

غنيت والنيران تعصفُ في دمي      عصف اليقين بداجيات ظنونِ

لكنها الأيام إلا فسحة                    منها بحقل كالجنان أمينِ

وجدنا أن تكرار العبارة – لدى السماوي – يشكل مرتكزًا مهمًا في تكثيف الرؤية، وتحفيز المنظور الشعري، بما يملكه من حركة نسقية، وتمازج صوتي رهيف بين الكلمات، وكأن العبارة منظومة تنظيماً إيقاعيًا محكمًا... تحفز قارئها تحفيزًا صوتيًا، وتكرار الشاعر جملة (أنا ذلك  البدوي) في مستهل المقطع الشعري إنما أراد أن يجسد تاريخه، فالبدو هم سكان الصحاري وأهل الإبل والمواشي، وقد رعى جميع الأنبياء الغنم، وقد أرسل نبينا محمد (ص) إلى بني سعد من هوازن ولا تخفاكم الغاية التي أرسل من أجلها، لذلك أراد الشاعر بهذا التكرار أن يكون امتداداً لذلك التاريخ الناصع معتزاً به .

"يتبع"

 

د . محمد الأحبابي

...............................

(*) من  البحث الذي حاز به الباحث شهادة الدكتوراه في النقد الحديث .

(1) - انظر، لغة الشعر العربي المعاصر، عمران خضير الكبيسي، وكالة المطبوعات، الكويت، ط 1، 1982م، ص 144.

(2) - بلاغة الخطاب وعلم النص، صلاح فضل، سلسلة عالم المعرفة / عدد164، الناشر المجلس الوطني للثقافة والفنون والادب – الكويت، 1992 م، ص 264 .

(3)- سر صناعة الاعراب، أبو الفتح عثمان بن جني، تحقيق د.حسن هنداوي، دار القلم، دمشق، ط1،1988، ص 6.

(4) - انظر، فنية التكرار عند شعراء الحداثة المعاصرين، عصام شرتح، مجلة رسائل الشعر، المملكة المتحدة، العدد 9، 2017م، ص66.

(5)- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث، خلود ترمانيني ، كلية  الآداب والعلوم الانسانية، جامعة حلب،2004م، ص306.

(6) - انظر، المصدر السابق، ص 70 -75.

(7) - التكرار في الشعر الجاهلي، دراسة أسلوبية، موسى ربابعة ، ص170.

(8) - معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، مجدي وهبة – كامل المهندس، مكتبة لبنان، ط2،  1984م،  ص118.

(9) -انظر، مسائل فلسفة الفن المعاصر، جان ماري جيو، ترجمة سامي الدروبي، دار اليقظة العربية، دمشق،ط2، 1965 م، ص70 .

(10)- لغة الشعر المعاصر ، عمران خضير الكبيسي، ص144.

(11) - انظر، التكرار وأنماطه في شعر عبد العزيز المقالح، نصر الله عباس حميد، مجلة ديالى، كلية التربية للعلوم الإنسانية، العدد67، 2015م، ص225.

(12) - التكرير بين المثير والتأثير، عز الدين علي السيد، ص9.

(13) - الأصوات اللغوية، إبراهيم أنيس، مكتبة نهضة مصر، ط 5، 1975م، ص9.

(14) - دراسة الصوت اللغوي، أحمد مختار عمر، عالم الكتب، القاهرة، (د-ط)،1997م، ص40.

(15) - ديوان (شاهدة قبر من رخام الكلمات)، يحيى السماوي، دار تكوين، دمشق، ط1، 2009م، 32.

(16) - ديوان (مسبحة من خرز الكلمات)، يحيى السماوي، دار تكوين، دمشق، ط1، 2008م، ص86.

(17) - ديوان (قصائد في زمن السبي والبكاء)، يحيى السماوي،، مطبعة تموز، كربلاء، 1966م، ص 44 -45 .

(18) - قضايا الشعر المعاصر، نازك الملائكة، ص231.

(19) - المرجع نفسه، ص 23 .

(20) - ديوان (هذه خيمتي فاين الوطن )، يحيى السماوي، استراليا، ط1، 1997م، ص76 .

(21) - انظر، ديوان (قليلك لا كثيرهن)، يحيى السماوي، استراليا، 2006م، ص5، 55، 65-70، 116.

(22) - المصدر نفسه، ص 93.

(23) - ديوان (اطفئيني بنارك)،  يحيى السماوي، تموز للنشر والطباعة والتوزيع، دمشق، ط1،  2013م، ص 16 .

(24) - ديوان (الأفق نافذتي)، يحيى السماوي، استراليا،ط1، 2003م، ص78.

 

في المثقف اليوم