قراءات نقدية

إدريس الكريوي: أسلوب الكتابة في قصص القاسمي.. اللغة والتقنيّات الفنيّة

لقد استطاع علي القاسمي أن يكوّن له أسلوباً متميِّزاً خاصّاً به، يستطيع القارئ المتتبِّع لإبداعه أن يعرفه ببساطة، لما يتضمَّنه من خصائص لغوية وأسلوبية متنوعة، وخصوصيّات لا تجدها عند غيره من الكُتّاب. ولم يتحقَّق له ذلك بيسر، بل جاء نتيجةَ جهدٍ وتجريبٍ مستمرَّين. فقد بدأ الكتابة الفنِّيَّة (القصصيَّة) بأسلوبٍ قريبٍ من القارئ قُرباً لا يفقده مقوّمات الفنِّ القصصي وعناصره السردية والمخيالية، كما لا يفقده الرسالة المستهدفة والعِبر المتوخَّاة من هذا الفنِّ الجميل. وهذا القُرب كان وراءه نزوعٌ تربويٌّ يريد الكاتب أن يرسِّخه في أذهان فئة من القراء، كحقوق الإنسان والوطنيَّة والحرِّيَّة والنزعة الإنسانيَّة والتسامح وحقِّ التمدرُس وحرِّيَة التعبير ....

وإذا أردنا نعتَ المرحلة الأولى لمسيرته القصصية، نعتناها بالالتزام بالقضايا الإنسانية والقيم المُثلى عند الإنسان؛ تلك القضايا الكبرى التي لا يحيا الإنسان إلا لأجلها، كحبِّ الوطن والتمدرُس والمعرفة والحرية والكرامة والتأقلم مع الأوساط الغريبة والأجواء المفروضة...

وإذا كانت نصوص القاسمي تتميَّز عن بعضها البعض من حيث الحمولة النفسية والإيديولوجية والتراثية والعلمية والتربوية، فـإنَّ هنــاك نصوصاً تتميــز بالأسلوبية (بالأسلوب) من بدايتها إلى نهايتها دون أن يتملَّص هذا الأسلوب من المعنى والموضوع المؤطّر بأحكام، بل هذا التميُّز سُخِّر لخدمة المضمون والأحداث وإبراز مقوِّمات الشخصية في السراء والضراء. فما هي أبرز عناصر الأسلوب في قصص الكاتب؟

إذا تجاوزنا الانطلاق من الأسلوب السلس والتراكيب الجزلة، والبساطة الموضِّحة غير المخلة، وتساوق اللفظ والمعنى، وعدم اختلال التوازن بين القصر والطول (الإيجاز والإطناب) كما هو مبلور في كُتُب البلاغة، فإنَّنا سنتطرَّق إلى بعض العناصر الأسلوبية واللغوية الطاغية فيها قبل أن نتطرَّق إلى الجانب الفنِّي والتقني المألوف والحداثي التجريبي في قصصه.

المُعجميّة:

من هذه العناصر التي لم يتخلَّ عنها القاسمي في قصصه إلا نادراً - وذلك بحكم انشغالاته وهمومه المهنية (التدريس الجامعي وصناعة المعاجم وحضوره في المجامع اللغوية مساهماً وعضواً بناء ....) - الاهتمام بالبناء المعجمي من خلال الإكثار من المرادفات والمشترك اللفظي أو المعنوي، أو البحث الدؤوب عن أسرة الكلمة أو معناها، واشتقاقها، وأحيانا الإفصاح عن مبرر الاهتمام بها، بوصفه مساهماً ومهتماً بحقلٍ من حقول اللغة ...

اجتمعت للقاسمي حصيلةٌ من اللغة والأساليب والتراكيب فوظَّفها توظيفاً فنِّياً أضفى على اللقطات رونقاً وبهاءً، من خلال التصوير الدقيق والوصف الشمولي الذي لا يدع جزئيَّة تمرُّ عليها العين دون أن يعكسها للقارئ، والنماذج عديدة في هذا السياق .

التصوير الدقيق

هذا التصوير يشعرك بالصدق الوصفي وتستطيع أن تقف منه مواقف مختلفة.. فكأن الوصف بعناصره خطاطة أولية وأساسية معدة للإخراج المسرحي أو السينمائي، وهذه عقيدة يؤمن بها الكاتب القاسمي في قصصه، حيث وضع بياناً للكتابة يعتمد على الوصف الناجح لتقريب الحدث والموضوع من القارئ ....

وأحياناً يضفي على الأسلوب الوصفي ظلالاً وألواناً كتلك التي تشي بها اللوحة التشكيلية، مما ينمُّ عن حسِّه المرهف ومعانقته هذا الفنّ الجميل،... إنه تصوير ووصف مطعَّم باللون والظلِّ والحركة والانعكاس الضوئي والرونق والنسائم ...

الأسلوب الشاعري:

نادراً ما تجد قصة تخلو من لمساتٍ فنيةٍ أسلوبيةٍ وجدانيةٍ تذكِّرك بأسلوبِ المنفلوطي الحزين وهو يصوِّر المهمَّشين، وقلة ذات أيديهم، وغربتهم في مجتمعهم وبين ذويهم؛ أو بأسلوبِ جبران الحالم في بعض اللمسات الفنية التي يصوِّر تجنُّح الخيال، والتحليق في الملكوت العلوي، وفي عالم المثل...

ومن قصة (رسالة إلى فتاة غريرة) التي هي قصة أسلوبية بامتياز، نقتطف فقط هذه الفقرة:

" حبّي لكَ قاربٌ صغيرٌ بلا مجداف في بحر المجهول، تتقاذفه رياحُ الحرمان وأمواجُ اليأس، وسينتهي به الرحيل محطَّماً فوق صخرة الأحزان في جزيرة الوحدة..." .

التشبيه

ويطغى مُحسِّن التشبيه في نصوص عديدة بشكلٍ أسلوبيٍّ جميل، ناهيك عن التشبيهات العارضة المألوفة فيها ... ففي قصة (رسالة من فتاة غريرة) يقدِّم المشبَّه واحداً ويقابله بأربعة مشبهات بها:

الاستعارة

أما الاستعارة فحاضرة في أسلوب الكاتب في مواقف عديدة، خاصة في الموضوعات الرومانسية التي يتشبّث فيها السارد بالطبيعة، ويستعين بها على مصابه.

الكناية والرمز

أما الكناية فهي موظَّفة كثيراً وبمستوياتٍ مختلفة، بين كناية ذات مرجعية ومفهومية متَّفق حولها ...

التكرار

ومن مظاهر الأسلوبية التكرار، وأبسط أنواعه تكرارُ عبارةٍ عدّةَ مرّات في القصة كاملة، أو في فقرة أو فقرتين منها بهدف جمالي صرف، أو بهدف جمالي له علاقة بالمضمون، كالإصرار والتحدّي والإثبات أو النفي ؛

التدرُّج

وهو بدوره قد يتمُّ عبر عبارة أو جملة أو فكرة أو حدث، يتدرَّج في إحداها إلى ما هو أكبر وأعقد أو إلى ما هو أصغر وأجلى وأبين،

تراكم الأفعال

وسيكون لتراكم الأفعال مضارعة أو ماضية في القصص نكهة لذيذة لإبراز هذه اللهفة أو الشوق أو الخوف والهواجس والاضطراب النفسي والقلق والحبّ ..

وقد يلجاً الكاتب إلى مراكمة الأفعال الماضية، وذلك لاستنطاق الذاكرة، ونفض الغبار عنها

السجع

وقد يأتي الأسلوب مفعماً بالسجع العادي (تساوي الجمل والفواصل) والموقع المقفى، وذلك عفو الخاطر لا مبالغة فيه، ولا تصنُّع، ولا افتعال،

التوازي

وقد يعتمد هذا السجع الموقَّع على التوازي

ومثله في قصة (رسالة من فتاة غريرة) مؤكِّداً القسم على صدق حبِّها:

1- وأقسم لكَ بالقَدَر الذي جمعنا .

2- اقسم لكَ بنور الصباح الذي التقينا فيه.

3- أقسم لكَ بعينيك .

وقد ورد في قصة (رسالة من فتاة غريرة) مستوى أعلى من سابقه، تميَّزَ بالإضافة إلى التوازي بتكرار بعض العبارات من الجُمل المعطوفة، ومنه قوله في الفقرة الثالثة من القصة:

1- هطل المطر بعد أن نسيت العصافير طعمه فهجرت الخميلة،

2- هطل المطر بعد أن اشتاقت إلى ريقه ذرات التربة الظمأى،

3- هطل المطر بعد أن تلهفت إلى وقعه وريقات الأشجار الجافة،

4- وبعد أن تاقت البراعم الذابلة إلى لمساته الندية،

5- هطل المطر بعد انحباس طويل وجفاف عريض ...

خمس جمل تبدأ بفعل (هطل) وفاعل (المطر) وظرف (بعد) مقرون (بأن) وفعل ماض، مع تغيير طفيف كتقدير الفعل والفاعل في الجملة الرابعة، وحبذا لو كرَّر الكاتب الصياغة ليعطي للرؤية البصرية حضوراً متميزاً، لأنَّ الواو (واو العطف) رغم قيامها بالعمل النحوي لن تستطيع أن تمنح جمالية الرؤية على الصفحة ..

وبعد نيابة المصدر (انحباس) في الجملة الخامسة أن والفعل (أن انحبس) ...والتوازي الوارد في الفقرة ساعد على المعنى الجميل (الحنين إلى عهد الخصوبة) حيث أثَّث الكاتب هذا الحنين بعبارات عاطفية (نسيتْ - اشتاقتْ - تلهَّفتْ - تاقت - انحبست [ انحباس ].....، وتوديع عهد المحل والقحط مؤثثاً المشهد كذلك بعبارات:

هجرة الخميلة - ظمأ التربة - جفاف الأشجار - ذبول البراعم- الجفاف العريض.. والإتيان بالمستفيد من الحالة المقبلة التي سببها هطول المطر والناجي من الحالة الثانية التي سبّبها - كذلك - فقدان هطول المطر: (الخميلة - العصافير - التربة -وريقات الأشجار - البراعم ....).

وقد يلعب الطول والقصر (التفاوت) في هذا التوازي، دوراً جميلاً مرده إلى جمالية الأطناب البلاغية وهي حلية لها خصوصياتها وإضافاتها التأكيديّة، كما في هذه القصة نفسها التي يحتدم فيها الحوار بين المتحابين إذا تمَّ التفاهم، أو قد يصطنع فيها أحد الطرفين هذا الاحتدام الحواري وهو حبٌّ من طرف واحد فقط:

1- قد تظنُّ أنَّ ذلك نوع من الغباء، ولك الحقُّ فيما تظنّ .

2- وقد تظنُّ أنَّ ذلك نوع من اللعب ... ولك الحقُّ فيما تظنّ.

3- وقد تظنُّ أنَّ ذلك من نوع من الجنون الخالص، ولك الحقُّ فيما تظنّ.

4- وقد تظنُّ أنَّني فتاة لعوب تهوى غواية الأزواج ...، ولكن ليس لك الحقُّ في ذلك، يا حبيبي.

ثلاث جمل تعطي الحقَّ للمحبوب أن يظن بها الظنون، وجملة نهائية تؤكِّد حبَّها ولا تعطيه الحقَّ في تلك الظنون. هذه الجملة الأخيرة تتعلَّق بشخصيّة المحبوبة وبكرامتها، فيتبع الإصرار على عدم إعطائه الحقَّ في الظنِّ.

التقسيم

ومن جمالية التقسيم، وهو فن بلاغي رائع، ما ورد في قصة (رسالة من فتاة غريرة) حيث يأتي بجنس الزهر(الزهور)، ويبدأ في تفصيل ألوانها وفق اختلاف الحواس: الرؤية، الشم، السمع ... وهذا أيضا نابع من الانطلاق من الكلِّ إلى الجزء تبعا للتصور الجشطلتي السابق الذكر، فيكون المنطلق هو الحديقة، ثم الإسقاط على جنس الزهور بألوانها المختلفة - ويبدأ السارد في رؤية محبوبته وسماع صوتها وشم أريجها في كلِّ لون من ألوانها على حدة *:

" ... وما إن ادلفُ إلى الحديقة حتى تطالعني أنتَ في كلِّ زهرةٍ من زهورها:

أراكَ في بياض الياسمين،

وفي اصفرار النرجس،

وفي احمرار الأقحوان.

أشمُّكَ في عبق الورد،

وشذى الفل،

وعطر الزنابق.

وأشاهد ملامحكَ في براعم الأزهار،

وأوراق الأشجار .

وأسمع صوتكَ في خرير الجداول،

وهبوب النسيم،

وحفيف الأغصان..."

تطابق الأسلوب والمضمون

ومن التقسيم كذلك لجوء الكاتب إلى تكرار ثنائيّات ضدِّية لتزيين النصّ وإبراز تردُّد الشخصية...

ومن الأساليب المتميزة في نصوص القاسمي، أسلوب التراسل، وهي موضوعة جديرة بالاهتمام مضموناً وشكلاً، لأنَّ الكاتب استطاع أن يوفق (بل أن يطابق المضمون والشكل) في قالب فنيٍّ مثيرٍ في قصص عديدة تستند إلى التراسل، وهذا سنتطرق إليه فيما بعد .

وقد اعتمد أسلوب الحِجاج في قصص عديدة ...

ومن أجمل ما يمكن أن يثار في أسلوب القاسمي تطابقه مع الحالة النفسية للسارد أو الشخصية، فيأتي هذا الأسلوب معبِّراً بسلاسته عن الموقف إذا كان رومانسياً حالماً، أو بتعقيداته وعباراته السوداوية وتعدد مصطلحات ومفاهيم تخدم مجالاً معينا بعينه.

وهناك أنماط أسلوبية كثيرة أُخرى سخَّرها القاسمي لخدمة النصِّ (المضمون)، أو لتبرير سلوك الشخصيّة، كالحِجاج والتراسُل والوصف وملاءمة التراكيب للنَّفَس الخطابي للشخصية (الطول والقصر والحذف، وعلامات التعجب والاستفهام والعارضتان ونقطتا التفسير ...). وقد طغى أسلوب الاختصاص في بعض القصص بهدف بلورة الحدث أو الوصف وتحديده وتخصيصه في شخص دون آخر ... وهذه خصائص ستفيدنا في البناء الفني للنصوص عند القاسمي .

وإذا كانت هناك نصوص - كما اشرنا - تتميَّز بخاصيّة شكلية أو مضمونية، فإنَّ نصوصاً معيَّنة يمكن وصفها بالنصوص الأسلوبيّة أكثر من غيرها، ولكن في تواؤم تامٍّ مع المضمون، ومنها قصة (رسالة من فتاة غريرة) التي باستطاعتها أن تريك في أسلوب القاسمي جماليةً هي أقرب إلى البلاغيِّين منها من القصاصين. وإذا استطعنا تفكيكها إلى عناصر الجمالية عثرنا على مقابلات وتوازيات ومقارنات ومفاضلات وتشابيه واستعارات عديدة بحجم القصة ذاته. وتعجب كيف استطاع الكاتب أن يضمن هذا النصَّ القصير هذا الكم الهائل من الأساليب، مبقياً على الحبكة والأحداث والصراع والتصوير الجسدي والانفعالي للشخصية، مُحدِثاً للقارئ تطهيراً catharsis وتعاطفاً مع الشخصية، وانبهاراً أسلوبياً وإيقاعياً له في الآن نفسه .

للاطلاع على القصة

 

علي القاسمي: رسالة عاطفية من فتاة غريرة

إدريس الكريوي

...................

مقتطف من كتاب:

إدريس الكريوي، جماليات القصة القصيرة: دراسات في الإبداع القصصي لدى علي القاسمي (الدار البيضاء: دار الثقافة، 2010) ص 399 ـ 405

 

في المثقف اليوم