قراءات نقدية

الكائنات التجريبية والخروج من تحت ذائقة التلقي الروائي.. رواية "مذكرات دي" أنموذجا

حيدر عبدالرضادراسة في عوالم أحمد سعداوي الروائية

الفصل الرابع ـ المبحث (2)

***

توطئة: لعل المادة الروائية التي تطرحها أجزاء وفصول رواية (مذكرات دي) هي العمل الخالص بذلك المد التجريبي المتوافر في مجال استكمال الطبيعة الميتاحداثوية في وظائف (المادة ـ جهة الموضوعة ـ نواة المرجع ـ القرائن ـ الزمن الطردي) وخلوصا منها إلى الإنتاج السردي المرتبط في موضوعة الرواية في أشكالها التبئيرية المحدثة . إذ واجهتنا مسوغات وتجليات من الانخراط الموضوعاتي في أوجه محققة بواقعية القصد التأليفي، وذلك عبر مستويات من الصياغة الإحالية المبثوثة في عناصر وعوامل النص، كواسائل بدت تجريبية في قرار إختيار ذلك المعنى الاجرائي المجرد والمتوهم والمستبعد من مداليل المفترض الدلالي المحتمل.

ـ الزمن الارتدادي بين وسائل المرجع إلى أفق التخييل المستعاد .

قد تبرز لنا عبر فصول مخططات البناء الروائي، ذلك الوازع التراتبي الرابط إيحاءا، الذي من شأنه استثمار المرجع للواقعة التأريخية، وإضفاء عليها من جهة ما حس من المعالجة التي يخولها نحو التشكل بذاتها جوهرا في ترتيب يوازي صوغا بين وحدتان حكائيتان تبدوان ظاهرا منفصلتان، ولكنهما بموجب المؤطر المدلولي متضامنتان في وحدتان أكثر تمثيلا وتشكيلا في صيغة الأفعال السردية المروية. وذلك الأمر ما جعل من تقانة (زمن الارتداد) أكثر تكثيفا ومؤولا بين حسية الواقعة الزمنية في محتوى العامل الشخوصي، إلى جانب مقاصد العلاقة الواردة بطابع صيغ الإنتاج السردي.

1ـ استجلاء مقاصد النبوءة وخيبة آلهة الورد المصيري:

أن القارىء لدلالات فصول رواية (مذكرات دي) لعله يخمن مع ذاته ما تنطوي عليه وحدات وأجزاء المشاهد والفقرات السردية من مرام دلالية مضمرة، خصوصا وأن طابع وبيئة هذا الموضوع الروائي جاءنا وفق ارتباطات وشرائط ومقدمات تمهيدية مسبقة. وليس لنا في صدد مكوناته التجريبية، سوى التسليم بأن الشكل الروائي راح يتوارى بذاته داخل جلباب من الإحالات والمرموزات والمعادلات الموضوعية التي انشغلت في وظائف النص ومساراته، على أن لا يبدو لنا كصيغة تقليدية في الانشاء الروائي. وعبر هذا النحو نتعرف من خلال الصفة المرجعية في وظائف النص على جملة أحداث وأفعال ومتواليات منقسمة ما بين (نير سوت) والدة ذلك الزعيم الملقب بـ (نندا شيرمانو)وقد أخبرتنا عتبة المستهل السردي في زمن الخبر الروائي وليس الخطابي، أن هذه الأم قد تهيأت لها رؤيا نبوئية ما بأن ولدها سوف يختط لذاته مصيرا اعتباريا مرموقا، إذ أنها كانت تظن بأن مكانة وليدها نندا شيرمانو تكمن في مجال قدراته القيادية كحاكما للبلاد، ما لا يمكن أن تأخذه الأقدار العادية كالموت، سوى ما يمكن تسميته على حد تكهناتها بـ (سبع الأرض).  يمكننا أن نستنتج من خلال زمن هذه الاخبار في مستهل الفصل الروائي ، بأن سعداوي راح ينشط فاعلية مرجعية ما داخل وحدات السرد الروائي، خلوصا منه إلى تلك العلاقة المتعلقة بعالم الأطياف المنصبة في خدمة العناصر البشرية على الأرض الكامنة داخل ازمات محورية متشعبة بالاختلاف والنقائص في مظاهر وجودها الخارجي والداخلي.  وهذا الأمر بدوره أيضا ما جعل سعداوي يرشح لنا ذلك الطيف أودوحديم الخاص بشخص الحاكم نندا. وهذا الطيف قد زاول كل مراحل ممارسات الملك نندا، ومنذ صيرورته النواتية على وجه الحياة: (كان تقدم نندا شيرمانو العسكري يثير الإعجاب ، حتى أن مساعديه والجنود تحته كانوا مؤمنين تماما أن نندا لو ذهب لفتح ممالك الأرض كلها، فأنه قادر على ذلك وسيتبعونه بثقة عمياء أينما توجه .  / ص42 الرواية) تخبرنا حكاية هذا الفصل الروائي، بأن هناك تمفصلات عديدة حول أفعال هذا الملك (الذي تنبأت أمه، أو تلقت نبوءة السماء عنه، بأنه لا يقتل على يد رجل من الرجال / ص40 الرواية) الأهم من كل هذا ما كان متصلا في سمات هذا الملك (أكا) كونه يقود الحملات العسكرتارية التي كانت تلاقى بالتأييد والدعم من قبل الملك وحاشية الكهان، فيما كانت حملات نندا محاطة بالشكوك والريبة من قبل الكهنة، خصوصا وأنه يضع قلادة مفصصة من أنياب سبعة أسود قد قتلها بنفسه على حد اخبار الرواية.

2ـ الفاعل المحور بين هواتف الطيف ومصرع سبع الأرض:

بما أننا نتوخى ترك التفاصيل الحرفية في وظائف الرواية ذكرا وتفصيلا ، إلا أننا في الوقت نفسه نود اطلاع القارىء من أن البنية الحكائية في هذا الفصل ذات أصواتا وأحداثا متعلقة في بناء الخطاب السردي. كما أن ما نراه مناسبا هو الاستشهاد في حدود موجهات المقاربة المبحثية في وظائف النص، وليس حكيا منا إلى كافة مواضع ملفوظات وسياق تفاصيل الحكاية في ملزمات هذا الفصل. نستنتج إذن من بعض أخبار الرواية المتعلقة في فحوى هذا الفصل تحديدا، بأن هناك حالة مهاتفة طالما كانت تلازم هذا الملك الشاب، تبلغه صوتا: (لا يمكن أن تهرب من عدو خفي لا يتجول في أزقة المدينة، ولا تراه في طرقاتك الطويلة بحثا عن صيد طيور أو دواب الأرض إلا بالمصادفات. أنه ليس عدوا يهجم عليك إن لم تأت أنت إلى مرابعه ومرابضه.  ص40 الرواية) على هذا النحو نعاين بأن جميع محفزات التأويل والتفاسير لدى العامل الشخوصي المتمثل بنندا، ما عادة تتوافق مع هواتف المحمول الغيبي الذي ينص عليه بهذه الأيعازات المحفوفة بروح النذير والوعيد، وما هو غير مكشوف له من سمات ذلك العدو المتربص به، وهو الذي صارع ودحر كل الأسود قتلا لها بعد أن سلبها أنيابها وجعلها داخل سلسلة حول رقبته فخرا له: (في نهاية عهده لم يكن لملك كيش وكاهنها الأكبر آكا أبن سوى أبنتين .. هذا الملك العظيم الذي قارب على إخضاع كل الممالك السبعة لم يكمن له وريث ذكر. وكان المعاونون من الكهنة الأعوان والكهنة الصغار يعرفون أن هناك تهديدا بانفراط عقد كل شيء بوفاة آكا. / ص41 الرواية) أن قابلية الحدود الممكنة في معادلات موضوعة رواية (مذكرات دي) ترتبط ثيماتيا في مدى استجلاء استرسالية عالم الأطياف، وهذا ما لا خيار دونه طبعا، لذا وجدنا في ما يتعلق بالعاملية الشخوصية الخاصة بـ (ديالى) وهي تواجه ذات الهاتف والرابط والحس والإرسالية من الطيف المخول بها . عموما لا بأس من هذا النوع من التوظيف الذي ينصب في خصائص الرواية التجريبية، حتى وأن كنا لا نوافق من جهتنا علاقة الأبعاد الدلالية الموجودة بين وحدات السرد الفصولية من زمن الرواية، ولكن الأحداث والمواقف في مسار الرواية تطرح في ذاتها انموذجا مسكونا بانفعالات دواخل النموذج ومجمل استجاباته الحسية المرافقة له من ذاته أولا وأخيرا، من قبل أن يكون هناك ما هو أشبه بعوالم الأطياف المتحكمة.

ـ تعليق القراءة:

تأتي ورقتنا في هذا السياق من مبحثنا، لغرض الكشف والقول، بأن قدرات المخيلة مهما كانت نشطة في طرحها للمغاير والاختلاف في الآفاق والأسلوب والثيمة والرؤية، فلها مساحة مقيدة من التصديق أواللاتصديق إجمالا؟السعداوي راح يسعى في فصوله الأولى من روايته إلى إظهار اتجاهات دلالية وفنية تخترق الزمن والتأريخ والرقعة المصدرية الموثقة في طيات مخطوطتها المرجعية، ولكنه كما الحال مع شخصيته ديالى والملك نندا الذي خابت نبوءة آلهته ومات مقتولا بلدغة أفعى وليس سبع الأرض، أردت القول أن السعداوي لا يتعدى حدود ذلك الطيف و وصاياه المقيدة من قبل آلية مجلس الأطياف.. حقا هي أفكار جديدة وصياغات غير مطروقة، ولكننا لو تأملنا رويدا في قيمتها الدلالية والروائية كخلاصة لقيمة تجريبية ما، فما تنتج لنا كل هذه المواقف والآليات في النتيجة القصوى من الدليل السردي؟فهل وفق سعداوي فعلا في روايته الإيهامية هذه رغم المحافظة على طلائها من قبله بمؤثرات ميتاحداثوية ذات نزعة غير بعيدة من الواقع المتخيل؟ لو أحصينا قليلا نسبة النصوص التجريبية في الأدب العربي قديمة وحديثة من النجاح بنسبة ما، لوجدنا معدل اخفاقات واضمحلال النسبة الأعلى من هذه النصوص التجريبية حيث لا تكلف القارىء النخبوي سوى جهد تلفظ سطورها عن مواضعها .. أنا شخصيا لا أكيل الإدانة إلى بناء الرواية ولا من جهة ما إلى أدواتها السردية، ولكنني أدين أسلوب نزعتنها التجريبية التي تسعى إلى إظهار اللامعقول والأوهام في نقطة تحسب على تيارات حداثوية ما ، دون وضع لها مؤشرات موجبة بقبولها أو رفضها من ناحية ذائقة التلقي والقراءة ذاتها لأجل إتمام ما قلناه سابقا أود التنويه إلى أن رواية سعداوي (فرانكشتاين في بغداد) قد سوقها موضوعها الخاص بأدب رواية الإرهاب تحديدا، ولم يحرز موضوعها بذاته على جائزة الاستحقاق ببوكر. وأنا على يقين تام لولا تعلق أمر هذه الرواية بدلالات خاصة في مجال مرحلة كانت مهتمة بمجال معالجة الإرهاب ، لما جاز لها أن تكون سوى رواية خاصة بأدب الفنتازيا أو ما هو دون ذلك من أدب عالم الرواية الخاصة بالناشئة؟على أية حال فأنا لا أعول على جهود هذه الرواية كحال باقي أقراني من النقاد، لأنها أولا الصورة المستنسخة من رواية الانجليزية ماري شيلي والتي تحمل روايتها تقريبا ذات المدلول والعنونة، وثانيا في كون رواية سعداوي لا تنتمي لأي أرضية واقعية في نسيج دلالاتها اللامقنعة فنيا. ورغم كل هذا سوف نعمل على دراسة روايات سعداوي في شكلها الكامل، حينها سوف نقدم للقارىء في كتابنا أخلص النتائج التحليلية التي تتعلق بمشروع هذا الكاتب في رواياته التجريبية والعجائبية؟.

***

حيدر عبد الرضا

في المثقف اليوم