قراءات نقدية

زهير ياسين شليبه: قراءة في رواية "زينب" للدكتور عارف الساعدي

بين "زينب" الرواية العربية الأولى (1911) لمحمد حسين هيكل و"زينب" الثانية لعارف الساعدي (2020) قرن من الزمان ونيّف، لكنهما لا تتشابهان بالعنوان نفسه فحسب، بل واستخدام اللهجة وعلاقة الإنسان بمجتمعه والمشاعر الرومانتيكية! ولا أقصد هنا المقارنة بين هاتين الروايتين، بل التذكير بتشابه العنوانين بالدرجة الأولى!

تتسم رواية "زينب" لكاتبها د. عارف الساعدي بسردٍ واضحٍ، لكنها ذات مضمون فريد وحزين ومؤلم، بحيث تبدو كأنها قصة حقيقية!

تتحدث "زينب" عن امرأةٍ عراقية تعود أصولها إلى قرون في هذا البلد لكنها تُضطر لإخفاء هويتها الأصلية، و"الانسلاخ" منها، على الأقل ظاهرياً!

تزوجت سعاد من شيوعي عراقي، وعاشت حياة قاسية جداً، وحيدةً مع ثلاثة أبناء بعد إعدامه ومقاطعة أهله لهم، في ظروف مالية قاسية جدا، بالذات في فترة الحصار على العراق. وسأتحدث لاحقا عن المضمون التشويقي!2141 زينب محمد حسنين هيكل

غلاف رواية زينب للكاتب محمد حسين هيكل 1888-1956

تتميز هذه الرواية بحضور حوار فيسبوكي من خلال تواصل البطلة زينب، ابنة سعاد مع صديقها حازم وتختلط اصوات السرد بين "صوت" الكاتب وزينب وآخرين كما سنرى.

تعيش سعاد مع أطفالها الثلاثة في كربلاء، متماهيةً مع سكانها الشيعة، تمارس طقوسهم وظلت مخلصة لها بحسن نية، بعد أن كانت مجرد مجاملات. وصارت تعرف تفاصيل الأماكن المقدسة. ص 69

يسرد حياتها عندما بدأت تتعرف إلى شاب قَدِمَ من الناصرية إلى بغداد، وسكن في احد الأقسام الداخلية، وفي النهاية يتزوجها متجاوزين بذلك االفوارق بينهما. وطبعا هذا الأمر يُحزنُ عائلتَه فتقاطعه.

أغلب حوارات هذه الرواية باللهجة العراقية، مما أعطاها جماليتها وقدرة كبيرة على السخرية والتهكم، كما يظهر ذلك في سردية زينب وملاسناتها. ص 34

حوارات زينب منذ بداية الرواية حتى نهايتها تهكّمٌ دائمٌ، بالذات من المظاهر الدينية، تقولُ لصديقها حازم عن والدتها سعاد: "هي ما تنام، لك هاي أمي بين مدة ومدة تخترع من كيفها مناسبات دينية لأهل البيت، مرة ولادة ومرة وفاة، ومرة استشهاد، وتعرفهم كلهم وتعرف أقاربهم ونسوانهم وولاداتهم، تقول كأنما عاشت ويّاهم..."  ص 36 - ص 37

وتقول له إن أمها سعاد لم تكن متدينة!

الحقيقة، إن الكاتب يتميز بالجرأه فهو يمارس السخرية بموضوعة استغلال الدين وتسييسه في العراق، فيقول أيضاً على لسان زينب: "وكأن الحسين سيأتي أيام محرم هو وأصحابه وإخوته وأبناء عمومته بأطفالهم ونسائهم وقيامه إلى بيتنا ياكلوا ويشربوا، كان هذا الهوس الجنوني هو المهيمن على فكرة أمي، فهي تحضر لشهر محرم كل شيء". ص 37 . وتقول زينب: "ولا ادري لماذا دائما تراودني فكرة مفادها ان بيتنا لا يبعد اكثر من ميل عن ضريح الإمام الحسين فربما يكون الحسين قد وصل بفرسه إلى هذا المكان قريباً من غرفة نومي". ص 38

وهناك ملاحظة بأن الكاتب استخدم صوت زينب بلسانها السليط لتنتقد، فهي الآن تشتم أبيها الميت، يقول عنها الكاتب: "تحتفظ بصندوق من الشتائم"... تتفنن بشتم أبيها مبررة ذلك "باليتم الذي اكلهم وهم صغار... وبالجِدّ الذي طردهم". ص 39 لكنها أيضاً لغة تجسد حالة المجتمع العراقي في السنين الأخيرة بعد الاحتلال حتى وقتنا الحاضر، "لغة الأيام والساعات" على حد تعبير باختين. إنها فترة سقوط الايديولوجيا وقيمٍها، وصعود أخرى مثل الدين السياسي والطائفي، والفوضى باسم الحرية والدمقراطية الأميركية!

تعتمد بنية الرواية على سرد مباشر من خلال فصول مكرّسة لأبطالها: لحياة والد زينب، محسن ووالده داوود حيث يصف انزعاجه من اهتمام ابنه (محسن) بالفكر الشيوعي بتأثير من ابن عمه محمد، بينما كان يريده أن يكون مسلما شيعياً حقيقيا ملتزما، لا سيما أنه ولد بعد نذور وزيارات لآية الله محسن الحكيم، ولهذا أسماه باسمه تبركاً به ص 43. ثم ينتقل السرد عن الأم وتلعب زينب الدور الرئيس فيه منافِسةً والدتها سعاد الشخصية المحورية.

يقول الكاتب عن زينب "إنها تثرثر مع حازم معظم الوقت وتروي له بين كلمات الغزل ذاكرتَها وذاكرةَ أهلها...". ص 44. وهكذا، فنحن هنا أمام سرديتين: الأولى للأم (سعاد) والثانية لابنتها (زينب) "بنت الطبيعة" مرةً بصوتهما وأخرى من خلال الكاتب، الذي يوزعها بطريقة تبدو عفوية، لكنها "عادلة" تتسم بالمناصفة والموائمة.

زينب ناقمة! كأنها تمارس رد الفعل ، أو "الثورة" بدلاُ عن والدتها سعاد الراضية بمصيرها! زينب شابة  تنشدُ الحرية، مطلّقة في جوّ خانق، متعبة من إطفاء غرائزها افتراضياً، تبث همومها إلى حازم، ومنزعجة منذ طفولتها لمقاطعة أهل والدها لهم، وهم يعانون من المرض والقسوة، لكنها تحب جدتها تقول: "تدري حازم، فأنا دائما أذكر حبّوبتي فأنا حاملة اسم جدتي... لأن أبويه كلّش يحبها، وبعدين اسمي منذور على اسمها.". ص 46

زينب تتهكم من كل شيء بلا حدود حتى من والدها الميت: "هدأت زينب بعد موجة الشتائم التي اطلقتها على أبيها، ومن ثم راحت تضحك، وكعادتها بدأت تنسج الحكاية على أبيها وتقول "هَمْ زين انعدم لو بقي حيا لتحول إلى أحد الأحزاب الإسلامية، وهو الآن بدرجة وزير أو عضو برلمان وربما انتفخ جيبه كثيرا، و أطلقت ضحكة مستهترة ومخنوقة في نفس الوقت،... مات نظيفاً، لم تتلوث يداه بأموال العراقيين". ص 48

هل هناك أكثر من هذا النقد اللاذع للفساد وربطه بالأحزاب الدينية التي تسيطر على البلد؟ وهل كان يمكن أن يقدم عليه كاتب آخرمحسوب على دين آخر أو طائفة أخرى؟

في الفصل  الخامس يتحدث الكاتب عن سعاد، يقول: "إنها غريبة الأطوار، ألبومها الوحيد... حين اطّلعت عليه زينب وجدت أمها شخصية أخرى غير تلك التي تغرق بين العدّادات والملاّيات.. امرأة حسناء ... ترتدي الميني جوب..." ص 50

ويتحدث عن اللهجة العراقية البغدادية يقول إنها "مدنية ناقعة بغنج بغدادي متصل بخيوط من عوائل العصر العباسي". ص  50

وبعد إعدام زوجها الشيوعي نذرت حياتها كلها له، وصارت تصلي من أجله لأنه لم يكن ملتزماً لتعوض عن تقصيره! ويتحدث عن زوجها محسن وبنتها زينب التي تحبها امها كما يبدو واضحاً من حواراتهما كأنهما صديقتان، زينب تنادي أمها: "بربوك"!

ولاحظتْ زينب أن والدتها سعاد تحضّر "عصير" عنب بطريقة خاصة، يصفها الكاتب بالتفصيل، لكنها تبعثه لأخيها كمال. قالت زينب: "عندما كبرت عرفت أن هذا ليس عصير، والدتي كانت تتقن صنعته منذ كانت صبية في أحياء بغداد". ص 53 حيث تخلت عن كل شيء، الملابس والزيارات والسهرات والحفلات، ... وارتكنت إلى كل ما يخالف هذه الحياة بخشونتها وفقرها إلا أن الواين بقي رفيقا لها أينما تذهب". ص 53

قد يرى بعضهم أن الكاتب يبالغ في تصوير"تحرّر" زينب هي وصديقاتها في كربلاء في 10 محرم حيث يحضرن حفلات سكر سرية، يتضح ذلك من خلال حديث زينب لصديقها حازم بأنها تشرب الخمرهي وصديقتها التي تدبّره. ص 54

لكن الكاتب يورد مثل هذه الوقائع بالتأكيد رغبةً منه لاكتمال الصورة البونورامية عن المجتمع العراقي، بالذات بعد السقوط! وإن ما يحدث في الخفاء أعظم بكثير من العلن!

بعد احتلال العراق يعاد الاعتبار إلى والدهم محسن ويعتبرونه شهيداً رغم صعوبة الأمر لأنه لم يكن من الأحزاب الدينية، فيحصلون على تعويضات وتقاعد وتُعيّن زينب موظفةً في البلدية، وتقول لحازم: "يعني شتريد؟ بنيّة وبكربلا ومطلقه وبنص مجلس المحافظة تشتغل؟ ويمها الحسين والعباس شتلبس؟ أكو غير هذا الجادر الخانقني، لك آني حتى من أنام اتخيل نفسي لابسه حجاب". ص 54

موضوعة هذه الرواية الرئيسة هي حياة الناس المخفيين من خلال شخصية سعاد المحورية، قد تكون آخر يهودية لم تغادرالعراق، بعد 80 صفحة تعلن إلى أبنائها أنهم يهود الأصل لأنها يهودية والأطفال يتبعون أمهم، وتبدأ المعاناه.

الشخصية الرئيسة الأخرى هي زينب ابنة سعاد تحمل رمزية خاصة، فمن ناحية اسمها زينب تيمناً بجدتها لوالدها، لكنها مهووسة بالجنس، ما هو السبب؟ لماذا تعشق الحرية؟ تزوجت وتطلقت من زوجها الأول الملتزم "الإسلامي" مهند وبدأت بعلاقات جنسية مع (قيصر) صديق طليقها! ثم تتواصل مع شخص آخر(حازم) الفيس بوكي؟

هذه الشخصية برأيي نتاج فترة الحصار والاحتلال ويتمة الأب، "لا تحب الأديان وريثة أبيها" ص 155 وقد تكون باعتبارها من أصل آخر "العرق دساس"، لكنها أيضاً معتدّة "بهويتها" ترفض فيما بعد ضغط أخوالها اليهود لتغيير اسمها زينب كي تحصل على الجنسية الإسرائيلية أو انتقادهم لها لابتعادها عن تعاليمهم اليهودية.

نجح الكاتب في تصوير شخصية سعاد وصدقها وإصرارها على وفائها لزوجها محسن وعلاقاتها مع الناس في كربلاء. قد يعدّها بعضهم ذات وجهين او منافقة، لكنها تجسد الصدق والالتزام في العلاقات رغم ان ابنتها زينب تسهر الليالي هنا وهناك، فهي تلتزم لكنها تخمّر العنب لأخيها كمال "سرّاً"، علماً أن هناك مسلمين يقومون بالأمر نفسه في الخفاء.

يهمني أنا شخصيا كقارىء وناقد الاطلاع على كيفية وصول الكاتب إلى هذا المضمون والحبكة، هل هي قصة حقيقية سمعَ عنها؟ أم أنها مجرد خيال يمكن أن يحدث؟ فمن الصعب مثلاً على اليهودي أن يتخفّى بين مواطنيه المسلمين بحيث يحصل على وظيفة مرموقة، بالذات في القصر الجمهوري مع صدام حسين.

بل إن الكاتب يبين لنا فيما بعد على ألسنة يهود يعملون في دائرة الهجرة الإسرائيلية، يتكلمون عن حال أقرانهم لا يزالون يسكنون في النجف ولا يرغبون الرحيل منها إلى إسرائيل! ويطلع القارىء على معلومات عن مقبرة اليهود في الحبيبية في بغداد وأمور أخرى لا يعرفها عامة الناس عن هذه الفئة من البشر التي عاشت في العراق منذ البابليين، لكنهم غادروه في ليلة وضحاها ليحلّوا محلّ الفلسطينيين بعد أن اغتصبوا أرضهم! والآن تحترق غزه والمدنيون فيها  يعانون الأمرّين بسبب المتطرفين منهم!

لكن المهم هنا هو أن الروائي وُفّقَ بإدارة أغلب الحوارات البغدادية والجنوبية: بين حازم وزينب عبر الفيس بووك، وكذلك بين الأخيرة ووالدتها سعاد بنوع من السخرية والتهكم، وكل أفراد العائلة حتى في تنقلاتهم بين هلسنكي وإسرائيل بحيث إنها تجسد وعياً جديداً بين جيل الشباب.

وكل هذا حدث بفضل خزين اللهجة العراقية التي أعطت زخما كبيرا لموضوعات الرواية رغم ابتعاد بعض مقاطعها عن السردية الفنية واقترابها من الشرح، وهي معروفة وواضحة يمكن تلافيها. وهذه السمة أضحت منتشرة في عدة روايات صدرت في السنين الأخيرة.

اللهجة العراقية، وبالذات الجنوبية هنا قد تحدّد انتشار الرواية بين القراء غير العراقيين، لكنها أعطتها طاقة زاخرة كبيرة جدا وضخّت في شخصياتها الحياة والنمذجة من خلال خزينها الحضاري الذي يعود إلى آلاف السنين. لكن قد يكون التأثير مقتصراً بالذات على قراء يجيدون أو يستسيغون وقع اللهجة الجنوبية مثلاً.

‏الدين من أهم موضوعات هذه الرواية! تطرق الكاتب إليه بجرأةٍ كبيرة تُحسب لعمله وقدمَ العديد من المواقف التي تجسد تأثيره على علاقات الناس ولم يخشَ أن يجاهر بدين "الحب" اهم من الدين العادي. انظر ص 90 عندما يصور حب سعاد لرجل مسلم!

شعور المواطن بالغربة وهو في وطنه موضوعة أخرى كرّس الكاتب روايته لها، من خلال سلوك سعاد، رغم إن اسمها يدل على حقيقة مشاعرها، لكنها تعاني أيضاً، وإلا فكيف تكون معاناة الإنسان النفسية الداخلية عندما يُضطر إلى أن يعيش حياة خفية وآخرى صريحة، فهي تمارس طقوس المسلمين علناً، لكنها تلتزم بيهوديتها بالخفاء!

وعندما تقرر أن تخبر أطفالها بحقيقتها تبدأ التواصل مع اهلها المقيمين في هلسنكي وتبدأ بالتماهي مع أهلها من جديد، وهنا تحصل رحلة الفرح والعذاب وتبدأ بالتفكير بكيفية الهجرة من العراق، وهي مسألة ليست صعبة فحسب، بل قاسية للغاية عليها! العودة إلى الجذور ليست دائماً سهلةً!

وإعادة الاندماج بيهوديّتها والتماهي معها بدون التخلي عمّا تعودت عليه من طقوس المسلمين، أيضاً ليس سهلاً عليها!

لكن زينب بالذات توّاقه إلى ممارسة الحياة بحرية كونها الكبرى والأكثر "وعياً" أو إحساساً من أختها وأخيها، بالذات هي تنتقد مظاهر الدين والمتاجرة به، وهو وعي شبابي جديد ظهر في العراق كرد فعل على الفساد السائد، ولهذا نسمع على لسانها وعلى لسان أخيها أثناء وجوده في إسطنبول لوحده، ليقول لأخته: "شوفي زينب شوفي هاي شوارع إسطنبول لعد شبيها كربلاء بس تراب والنظافة صفر؟" ص 94 " ليش يا رب يعني بكربلا ويم الحسين ويبوكون، بعد وين نودّيهم ليش ذولي تركيا موهمّين مسلمين". ص 94

‏ الحرية هي الموضوعة الأخرى، لكن يتم تصويرها كإنفلات أخلاقي غير مقبول في مجتمع محافظ، أو على الأقل يجري كل هذا في الخفاء وبنوع من النفاق والتظاهر بمظهر آخر! نلاحظ أن ابن سعاد (دانيال) عندما يسافر إلى تركيا يلتقي بامرأة منفصلة عن زوجها، ونفهم من علاقتهما أنها تمارس حريتها لأنها خارج البلد. ص 96

يحدث الأمر نفسه مع زينب عندما تلتقي "صدفةً" بطليقها مهند في ألمانيا وباليهودي سامان في إسرائيل الذي يغدق عليها بالهدايا، وإعجاب يوسف ابن خالتها بها وهذا تأكيد على أن العراقيين مكبوتون، توّاقون إلى الحرية الشخصية.

‏وعبرت سعاد عن صعوبة إخفاء الإنسان لمشاعره وبالذات دينه وتقول: "هل تغيرت ديانتنا في لحظة واحدة كم هي صعبة على المرء أن يخفي حتى دعاءَه من أقرب الناس إليه". ص 108

‏الناستولجيا موضوعة إيجابية في الرواية، يعرف الكاتب تفصيلاتٍ دقيقةً عن حياة اللاجئين ومشاعرهم تجاه وطنهم، والحياة في فنلندا وإسرائيل. اليهود لديهم تسهيلات كثيرة، ويمكنهم السفر بفيزة وبدون التعرض للخطر بفضل تواصلهم مع السلطات المحلية في أغلب بلدان العالم، لكن الكاتب اختار التهريب إلى اليونان ليصف الواقع، وهناك التقى (دانيال) بابن خالته يوسف وسهل له كل مهمات الانتقال إلى فنلندا.

‏وهكذا فالكاتب يهيأ القارىء لذروة النهاية بمقاطع مؤثرة في الرواية:

ولترتيب ذروة النهاية في بنية الرواية  لجأ الكاتب إلى عامل "الصدفة"، حيث التقوا بأهل والدهم، فيبرر ذلك على لسان زينب، "تعرف حازم والله اللي ديصير ويّانه بالروايات ميرهم، والله كأنه فيلم". ص 124

يتحقق الهرونوتوب (العلاقات الزمكانية) في لقاء سعاد وزينب بِأهل والدهم في الصحن الحسيني قبل مغادرتهم العراق حيث  كانوا يزورون "حضرة الإمام علي بن أبي طالب"  "وذهبنا إلى المقبرة مباشرةً وتعبنا كثيرا بجانب القبر وها نحن مسترخين وكان الموقف مؤثراً اتسم بالعتاب والاعتذارات من قبل جدّهم ليس بدون تأثير اللهجة الجنوبية بالذات واختلاطها مع البغدادية. ص 123- 114

يمثل هذا اللقاء مجمل العلاقات الزمكانية ويعيد القارىء إلى صور تراجيدية قبل أكثر من عقدين، وكأننا حقّا في فيلم نتطلع إلى مشاهد قديمة: سعاد وحدها مع ثلاثة أطفال تُطرد من قبل جدّهم بالعراء في زمن الحصار لا من معيل ولا كفيل ولم يلقوا الحنان "المعنوي" إلا من جدّتهم زينب!

وصوّر الكاتب سعاد "اليهودية" أنها على خلق عظيم و"براءة الذمة" أكملت صحيفة زوجها محسن الدينية وملأتها بالفروض والطاعات". ص 131 وتقول زينب: "طبعاً انبهر أجدادي بالعمل العظيم الذي قامت به تلك اليهودية". ص 131

طريقة السرد:

بدأت الرواية بأصوات زينب وصديقها الفيسبووكي والراوي (صوت) الكاتب، كذلك في عدة حالات يأتي السرد بطريقة بسيطة وواضحة سلسة، بالذات في مقاطع يحاول الكاتب أن يبين أن أصول الأديان إنسانية ومتشابهة والرب واحد، بخاصة عند مقارنته بين دعاء كميل وأدعية إسرائيلية. ص 139

وهذا يعني، إنه صوّر أصالةَ سعاد، رغم أنها كانت تجامل المسلمين، لكنها أيضا تعبر عن أحاسيس دقيقة لحب زوجها وتقول له: " كنت لي "أنا سعاد اليهودية" بلسماً تداويتُ به من علل الأنام". ص 139

إنه موقف حساس ومؤلم ومحزن، وعندما تقرر سعاد اليهودية مغادرة العراق تطلب من الحسين السماح، تقول: "أتأذن لي بالخروج، اتأذن لي بالخروج؟" ص 140

وتقول سعاد لبنتها زينب: "شوفي لِج زينب آني علاقتي بالحسين اكثر من كل الناس تشوفين هاي الآلاف اللي تجي وتزور وكلهم مسلمين وشيعة آني أشعر آني سعاد اليهودية أشعر أقرب من هاي العالم كلها من أحجي ويا أبو عبد الله كأنه أحجي ويا أبويه". ص 142

السخرية:

حقيقة إن الكاتب أيضا كرّس عمله لموضوعات إنسانية يتحدث عنها العراقيون دوماً مثل الحنين الى الوطن والمتاجرة بالدين والشعور بتأنيب الضمير بسبب هجرة اليهود "فرهود مال اليهود" بأسلوبه الساخر معتمداً على اللهجة كما قلنا، وبالذات الجنوبية أحيانا.

نقرأ في الرواية: "أخت سعاد سوسن تطلب منهم صابون رقّي الأصلي ومشط خشب وبهارات الصبّه مع قطع قماش كوردي". ص 143

‏تتضح السخرية السوداء أيضا في محاولات حازم الحثيثة لتأمين مكان يختلي فيه بزينب بدون انفضاح امرهما، يُضطر لأخذها إلى منزله، إلا أنه لم يحالفهما الحظ، حيث عادت زوجته إلى المنزل قبل الموعد المتفق عليه مما اضطرهما هو وزينب إلى الهروب قبل أن تراهما، او حادثة الفندق عندما اكتُشفَ أمر زينب مع قيصر "متلبسيّن بالجريمة" لولا رشاوي كبيرة دفعوها لوقعت هي بالذات في فضيحة كبيرة جدا.

وكمثال على سخرية زينب، تقول لوالدتها: "أمي إشكد أنت بربوك أنت مو قبل يومين جنتي يم الحسين وشبعتي صلاة وزيارة وأدعية وهسه تريدين تروحين للكنيس؟ ما ملّيتي من الزيارات والأدعية مال الشيعة حتى تجين تكملينها الأدعية اليهوديه". ص 155

وعندما رأت زينب والدَتها تصلي خلسة وهي تضع ورق الزيتون بدل "تربة": قالت لها بسخرية: "ها أمي شتسوين، ما خلصنا من صلاتج، و الله دوختينه، هسه شنو أنتي على يا دين؟؟". ص 156

وتلاحظ زينب أن مناجاة اليهود والشيعة متشابهة من خلال دعاء كميل. ص 158

‏ويصور الكاتب هوس زينب بالحرية بطريقة ساخرة يجعلها تخرج مع بنت خالتها في احد شوارع هيلسنكي شبه عارية! ص 161

‏زينب تقارن أسلوب كلام اليهود عند حديثهم عن مظلومية سبي نبوخذ نصر لليهود إلى بابل بطريقة حديث رجال الدين الشيعه! ص169

وتسخر زينب، تقول لأمها عندما كانوا في هيلسنكي مع أهل والدتها اليهود: "لا، إن شاء الله تريدين من عدنه نلطم: نلبس أسود ونتصخم بصخام الجدورة تريدين نجيب خالاتي (اليهوديات) وبناتهم زوجات أولاد خالاتي نسوي مجلس حسيني موعيني هيجي تردين؟ ص 172

إنها حالات مؤثرة بالذات بالنسبة للمغتربين العراقيين الذين لم يسمعوا مثل هذه الكلمات العراقية الدارجة:

"ونتصخم بصخام الجدورة"!

***

د. زهير ياسين شليبه

في المثقف اليوم