قراءات نقدية

مملكة الموتى بين الإيحاء الموضوعي إلى فضاء المتخيل الإمكاني

حيدر عبدالرضاقراءة في رواية (خازن المقبرة) للكاتب عبد الرضا صالح محمد

توطئة:

يمكن أن نقول ـ تجوزا ـ إن للأفكار الأدبية ذلك المنحى التداخلي ـ التراسلي ـ الظلي، خصوصا فيما يتعلق وسمة العلاقة التأثيرية الكامنة في تنافذ المقروء بين علاقة قراءة ووظيفة كتابية تتركز في مؤشرات تبئيرية، وبالتالي قد نعاين بين ما يحدث بين النصوص الروائية هي علاقة مؤثر وتأثير، خاصة وما يلتقي وجوانب الموضوعة أو تلك العلامة المشتركة بين فكرة هذا النص أو أوليات ذلك الانفتاح حول استثمار الغائية الواحدة التي تتقاسمها مجموعة نصوص في حدود من التأويل المتطابق أو اللامتطابق في الآن نفسه.في قراءتنا إلى رواية الصديق الروائي عبد الرضا صالح محمد (خازن المقبرة) لاحظنا ذلك التأسيس المعادل بحكم رجحان القيمة الموضوعية إلى تقانة (المعادل الموضوعي = المعادل النصي) تزامنا مع حيثيات فكرة رواية (فرانكشتاين في بغداد) لأحمد سعداوي.ونحن هنا في سياق أشارتنا لا ننوه إلى القول بأن عبد الرضا صالح قد أستقى مجمل رؤية وأدوات رواية سعداوي، إنما الروايتان تصبان في ذات الهم الموضوعي من إمكانية ذلك التماثل المعادلي في روح خلق الرمز الأبعادي في مشاغل حكاية الرواية التي تندلق في مساحة المابين (الإيحاء الموضوعي = فضاء المعادل النصي) وكما نعلم جيدا بأن محفزات المعادل الموضوعي ليست هي المقصودة بـ (المعادل النصي) ذلك لأن مجمل إمكانية السياق الروائي حلت في حدود مساحة من المقاربة المعادلة، وليس تجزءا على فقرة أو وحدة أو مجموعة وحدات من الرواية تحديدا.تواجهنا في جملة محمولات الحكاية الروائية ثمة مؤهلات اختصت بحيوات شخوص خزنة المقبرة، لذلك نوع من التوطين الموقعي المحال إلى جهات خاصة من (المرجع = التخييل) أو (المكان =اللامكان) أو (الواقع =اللاواقع) تواصلا مع موقع شخصية ذلك العشاب الذي هو نفسه الدكتور أشرف الأستاذ الجامعي الذي حوصر من قبل جهات حكومية خاصة بتصفية أصحاب الكفاءات والطاقات في مجال العلوم التكنولوجية والعلوم الفيزيائية والكيميائية والنووية وما شابه من المعارف الأخرى: (نبح الكلب بتور نبحتين، ثم سكت وعاد إلى نومه، وبعد لحظات أهتز سرير العشاب وأنبعث صوت له دوي: أنهض يا بقايا تنابلة الرشيد، بعد ساعة ويطلع الفجر؟فز العشاب مرعوبا من نومه، لكنه بقي ساكنا في فراشه ولم يأت بحركة تؤكد بأنه مستيقظ./ص17 الرواية).

ـ العامل الذاتي: العامل الموضوعي.

لقد قلنا سابقا أي في مستهل قراءتنا بأن الروائي صالح محمد كان يحمل روايته موقفا يماثل الانفصال عن الحقيقة للحالة الواقعية، ولكنه لا يبتعد بهذا الانفصال إلا وهو يعاود تقديما لفواعل اتصالية من ناحية الإمكانية الاتمامية للنص في مجمل أدواته الذاتية والموضوعية، فهو بعمله هذا يشكل انقساما في حضور المعادل الآخر للمعنى من لدن العاملية السردية في حكاية النص: (لقد صار الطارق حقيقة قائمة لا يمكن التخلص أو التملص من، فها هو ذا جالس على الطاولة أمامي، لا يريد الانصراف حتى يبلغني ما جاء من أجله/ انزاح العشاب بجسده نحو رأس السرير حتى أصبحت الوسادة تحت كتفيه، وأزاح الغطاء قليلا فهاله ما رأى شخصا طويلا كما هو في الصورة مع الجد بملابس عسكرية./ص17 الرواية) إذا تأملنا سير عملية الخطاب السردي في حكاية المستهل من مسار الرواية، لوصلنا إلى حقيقة من ثنائية (الارتداد الاسترجاعي ـ قناع الحكي) خلوصا نحو ما يكشفه السارد من آليات أخذت تعتمد (الصورة الفوتوغراف ـ نباح الكلب ـ الطارق الشبح = مستهل الحكي) ولو اطلعنا مليا في متواترات الزمن لوجدنا بأن المؤلف راح يعتمد عدة تقانات (الاسترجاع ـ المسافة السردية ـ الواصلة الزمنية ـ إطار الحكي) وهذا الإطار من المعادلة أخذ لذاته حلولا خارجيا للنص الذي تم فيه الخطاب الروائي بمختلف مستوياته وأبعاده، وصولا منه إلى إن حقيقة المتخيل قد تمت عبر أسلوب (المعادل الرمزي ـ مسرحة الحكي) ومهما يكن من ذلك الاسترجاع فإنه يحكي عن اللاتمييز بين الحفيد المتلبس بثوب جده العشاب، الذي كان جنديا مع ذلك الملازم حامد آمر سريته في الجيش: (على كتف من أكتافه نجمتان لامعتان.. متأبطا عصا ممشوقة يظهر لمعانها، ذا سحنة خشنة وصوت أبح يأتي من داخله دون أن يحرك فمه، جمع العشاب شجاعته وسأله: ـ من أنت، وماذا تريد؟ يا سبحان الله لم يتغير صوتك بعد كل هذه السنين، أنا صديقك الملازم حامد آمر سريتك، في اللواء التاسع عشر، في مدينة حلبجة، هل نسيتني؟./ص18 الرواية).

1ـ تفعيل العلاقة السردية بين التمويه وأخفاء الهوية:

في الحقيقة إن مجرى الأحداث والوقائع المتداولة بين (العشاب = روح الضابط) ارتبطت برؤية التمويه من جهة العشاب، تكتما من السارد الذي أوضح بأن روح الضابط قد أخطأت في التعرف على العشاب جيدا، إذ إن ما كان معه في الجيش هو جده، ولكن مع ذلك لا نرى بأن الحفيد قد نكر دور جده ومهامه رغم إنه لم يكن يعرف هذا الضابط من ذي قبل، ولكنه تواصل معه على إنه العشاب الجد وظل الحفيد يتابع العملية بالتوارث في مهنة العشاب عن طريق جده.كل هذا لا يعنينا طبعا بل إن الأهم من كل هذا ما قاله روح الضابط إلى الحفيد العشاب: ـ (اه تذكرت..ولكن الملازم حامد قد مات وشبع موتا!. نعم أنا ميت جسدا، أما روحي فما تزال حية، وجئت أزورك، ولي حاجة عندك: ـ لم أسمع في حياتي إن ميتا يأتي ليطلب حاجة من الأحياء!./ص18 الرواية) .

2ـ تجليات ما بعد الوجود وعلاقة المعادل الدال:

قد تأتي أحيانا جملة خيارات التجريب في المعالجات الميتاسردية ضمن عملية استيعابية، إذا افترضنا بأن جل مبررات الدلالة الموضوعية في النص قادمة على أساس محمول اللامتوقع أو اللامصدق، ولكنه جائزا في الوقت نفسه أن يحل حلولا من صياغة المعادلة الفنية من خلال وسيلة الاختيار أو الاستبدال أو القناع الذي من شأنه تخصيص المسلمات السردية في الأحداث والأفعال على نحو من القيمة والاستخراج الدلالي المتحول، إي أننا بمعنى ما لاحظنا بأن روح هذا الضابط جاءت عن طريق اللاتحديد نحو شخصية حفيد الجد العشاب الملا عبود، الذي عمل جنديا معه في أحدى خنادق الحرب، ولكن التواتر اللاتحديدي هو بذاته مكسبا استراتيجيا لجعل شخصية الحفيد بموضع التعرف على خصيصة هذه المعادلة الموظفة نحو الاستكشاف والكشف عن مواطن تلك الحقائق التي له يدا فيها في حقيقة الأمر، كونه ذلك الدكتور المتخفى بجلباب الحفيد العشاب، امتدادا نحو كشف أقرانه وأرواحهم في عوالم البرزخ المفترض: (قبل أيام دفن إلى جواري أستاذ جامعي بدرجة بروفيسور من جامعة بغداد قسم الفيزياء، أسمه أنور طه، قتل هذا الأستاذ على أيدي عصابة محترفة، بينما نجد صديقه الذي كان يرافقه الدكتور أشرف عبد اللطيف الذي كان هو المستهدف./ص19 الرواية) في الحقيقة هناك حالة من المفارقة التي ربما لم يتنبه إليها الروائي بصورة دقيقة: كيف يمكن للأرواح ان لا تتعرف على أخبار من الذي مات ومن هو لحد الآن على قيد الحياة، أقول من الغريب أن روح الضابط لم تكتشف موت الملا عبود وقد إلتبس عليه الأمر بقصد إن الحفيد هو الجد نفسه ؟ تبعا لهذا ترد إلينا من قبل السارد جملة من المحكيات الخاصة التي قامت روح الضابط بسردها على مسامع العشاب منها اغتيال أساتذة الجامعات وكيفية تصريفهم قتلى بطرائق أكثر حذقا وتدبرا في الجريمة، وعند أحد فصول الرواية يخبرنا السارد بما خلفه حادث مقتل ثلة من الأساتذة وكانت منهم الدكتورة ليلى وكيفية مجريات الأسباب التي قام بها أولئك المجرمون على الإقدام بقتلها مع ثلة كبيرة من ذوي الكفاءات والشهادات العليا: (كان قتلها ضمن مشروع خطير يهدف لتصفية العلماء والكفاءات من مهندسين وأطباء وأكاديميين وتعريضهم إلى إبادة خطيرة./ص23 الرواية).

3ـ خازن المقبرة الثائر للأرواح المغتصبة والمدافع للأجساد المطاردة:

تذهب الثيمة الروائية في الرواية (خازن المقبرة) إلى معانقة الشخصية الروائية في الرواية (فرانكشتاين في بغداد) فهي الأخرى وعبر بطلها الإيهامي الملقب بـ (الشسمه) الذي يتكون جسده المخاط من أجزاء ضحايا الانفجارات والعمليات الأرهابية التي كانت تقوم بتصفية ذوي الكفاءات وكل الناس الكادحين من أجل قوتهم اليومي، إلا إن الأمر مع شخصية خازن المقبرة والأرواح المحصودة ظلما وقهرا على أيدي جهات حكومية لها كل المصلحة في أن يظل وضع البلاد كما هو عليه في أقصى دركات الجهل والأمية.هذا بالضبط ما تحدث عنه خازن المقبرة المتمثل بروح الضابط حامد: (وبما إني خازن المقبرة وصاحب هذه الفكرة، اختاروني لهذا المقام الشريف، واشترطو علي أن يشهد على هذا التتويج أحد من الأحياء، فكرت في الكثير من الأصدقاء وأخيرا وقع أختياري عليك: ـ ولماذا من الأحياء لا من الموتى؟ ـ لأننا بحاجة إلى تدوين الحوادث لمعرفة الأحياء بها.وكيف عرفت أني ما زلت حيا؟.بحثت عنك وزرتك هنا في دكانك دون أن تشعر بي، فوجدتك على حالك كما تركتك من قبل./ص125 الرواية) العلاقة الحوارية في وحدات السرد تأخذ لذاتها كوسيلة إجرائية كاملة في رفد موضوعة الرواية ذاتها، فلو لاحظنا لوجدنا ثمة مساحة خاصة للحوارات تتقادم في مسار السرد بوظائف ذا قيمة في بث مواطن التبئير والكشف عن المسلمات الأخرى المخفية من النص ، وعلى هذا النحو وحده قد أدركنا عبر المحاورات الجارية بين الحفيد وخازن المقبرة، إلى تفكر الحفيد نفسه بالكشف عن هويته الحقيقة لذلك الخازن الواهم بأن هذا الحفيد هو ذاته الملا عبود العشاب صديقه الجندي القديم في السرية التي كان يقوم برأستها، ولكن ذلك لم يتم رغم رغبة الحفيد بالإفصاح عن حقيقة ما وقع فيه هذا الروح العشوائي من خطأ وإلتباسية في أمر تعرفه على حقيقة هذا الحفيد: (لما لا أعترف له بشخصيتي الحقيقية بأني لست الملا عبود وإنما حفيده وأتخلص منه./ص25 الرواية) غير أن هذا الحفيد على ما يبدو فضولا منه أحبب أن يبقى هذا الروح متوهما بكونه جده الملا عبود، لا أدري لماذا استطابت له فكرة الفضول بأن يبقى بهيئة جده بحثا في مؤشرات الإطلاع حول حقيقة هذا الطارق الملتبس في الذاكرة.

ـ استيهامات و تداعيات النبي حمدان في مملكة الموتى.

قد يندرج التأويل التحييني في مشروعية الأوصاف والأحداث والمواقف في ملفوظ وحدات الرواية، على أساس من وجهة نظر مؤولة في نطاق اشارات وعلامات ومداليل ذات مؤديات محفوفة بالأبعاد الأيبستيمولوجية وغيرها من التأويلات المتصلة في أوجه عمليات خاصة من مفاهيم المعادلات المدلولية المتماثلة وهوية الأسباب والمسببات في المعنى الروائي.إذ أننا نعاين من جهة غاية في الأهمية نحو فرضيات تلك الروح العائدة إلى ذلك الضابط، أو إلى جملة تلك الأرواح العائدة بالكيفية الاستثنائية إلى فئة الذين حصدت أرواحهم عصابات البطش الحكومي المسيجة بعشرات الأقنعة والأشكال التي أخذت تغتال من زمن الأعمار وخلع كل مشروعات أمالهم المشروطة بوحدة الحياة الناجحة والطموحة، فما كان لهم إلا القتل وتشتيت ممن لم يقتل منهم في فجوات الحدود عندما فكروا في الهجرة بعيدا عن بطش الأيدي التي تسعى إلى حصد أعمارهم وأحلامهم برمشة جفن.هكذا وجدنا في سكان المقبرة في دلالات الرواية، تجارب ثمينة وعقول نادرة في حظوظ من المصائر المحزنة والمخيبة تأتي لنا في مشاهد سريالية مؤثرة من وحدات النص: (القبور تتفتح كما الصناديق المغلقة..وخرج منها الموتى على مد البصر، وقفوا تترنح هياكلهم، ثم تماسكوا وزحفوا نحوهما، آلافا تتهاوى وهي تخطو خطوات وئيدة، كانوا بهيئة مخيفة بعضهم خرج بجسده الطري وبعضهم الآخر بهياكلهم العظمية وآخرون خرجوا بهياكل تامة ينقصها أما القحف أو الصدر أو الأيدي/تمايل خازن المقبرة الملازم حامد وألتفت إلى العشاب: ـ هذا رئيس خزنة المقبرة، وهؤلاء الخمسة وعشرون هم الخزنة./ص29 الرواية) لعل الروائي الصديق متأثرا بمشاهد الأفلام السينمائية المصورة ، خصوصا ما يتبين لنا من وراء مشهد حشود الأموات وهم يزحفون نحو الحفيد وروح الضابط، لا أعتقد من جهتي إن حدود الدلالة تبدو موفقة في هذا العرض من المشهد، خاصة ونحن في صدد عملية روائية تترشح عناصرها من حدود ملمات واقعية معقولة وإن لم تكن معقولة فهي مؤثرة، إذ بدا هذا المشهد من المسلمات في الإثبات الانموذجي الذي يقر بأن أغلب الموتى هم من العناصر التي قامت حياة الحروب في دحرها ناهيك عن التصادمات مع المنظومة الأمنية الباطشة، خصوصا تلك الفئة من ذوي أصحاب الكفاءات العالية، هذا كله ينمو في ظل إن خازن المقبرة هو أيضا من دركات ومخلفات الحروب وآليتها العابثة.

1ـ النسيج السردي بين حكاية الحكي والاستقطاب الشخوصي:

في السياق ذاته من الفعل السردي تتابعا نحو فكرة أن الشخصية الجد الملا عبود كانت من سكان مدينة العمارة، ولما أن الحفيد العشاب كان رهينا لواقعه المأزوم والمضغوط من قبل ذلك القصاص الباطش، لذا اختار لنفسه أن يجسد دور الملا عبود ـ ملاذا ـ على ضوء مجليات الإمكانية الواصلة بحياة ممن كانوا يحيطون به من أهالي تلك المدينة ويهيمون به حبا ورهبة: (توقفت الحافلة بهم في مرآب مدينة العمارة حصرا، وفي الطرق سأل جليسه عن المدعو الملا عبود: ـ نعم أعرفه إنه شخص معروف من جميع أهالي المدينة، بما فيها من ضواحيها، بل والأكثر من ذلك أنه معروف حتى في المدن الأخرى، ولكنه غادر المدينة منذ وقت، وربما توفي ومضى إلى دار حقه/ربما يكون الجد ما يزال على قيد الحياة وإن الرجل الذي أخبره متوهم، وبذلك يحالفه الحظ ويسكن مع جده في البيت./ص33 الرواية) تبقى علاقة الشخصية الحفيد مع هذه المدينة ذات علاقة خلقتها الضرورة ، وليس الإقامة فيها حبا لها، فهو كما نعلم جاء لضرورة أحوالية ملاذية، يمكننا تسميتها المعاشرة مع ألفة المكان، الذي ليس هو بالعدائي أبدا، فهي المدينة التي أعتاش فيها جده طورا من الزمن، عبر إقامته في دكانه لبيع الأعشاب بعد أن استأجر بيته إلى عائلة طيبة الخلق بعد موت الجدة وزواج أبنتاه فضيلة وخديجة: (توقف أمام البيت للحظات ثم طرق بابه، بعد قليل فتح الباب ليكشف عن امرأة كبيرة في السن، حياها وحيته وقالت: تفضل خالة، ما حاجتك؟سألها عن جده الملا عبود، صمتت قليلا تفكر، ونظرت إليه لترى ملامحه، ثم قالت:ـ هل أنت أبن خديجة لو فضيلة؟./ص41 الرواية) تخبرنا الرواية على لسان أحد شخوصها وهي المرأة المتقدمة في السن بأن الجد الملا عبود قد قضى فترة من الزمن في منزلها هذا، وبعد أن أحيل من الجيش بعد استكمال سنه القانوني ، راح يشغل ذاته في دكانه عبر مشغل صيانة الأطباق والقوارير لغرض التزجية فحسب، فيما كان الرجل رغم تقدمه في السن شغوفا بحب العمل، لذا ظل يتاجر بالعقاقير الطبية العشبية وتدوين الرقيات القرآنية والأحراز الخاصة بالأولياء الصالحين، لكن للأسف بعض الناس أساؤا له فراحوا يبثون الوشاية من حوله بشتى الأوصاف والنعوت الجارحة، فما كان منهم أن يصفه بـ (أبو القواري) وآخرين ينعتونه بالساحر أو المشعوذ، وعلى هذا النحو راح الحفيد يفضل السكن والإقامة في دكان جده، بعد أن كان يطمح في السابق إلى أن يجد جده الملا عبود حيا ليأنس بصحبته ردحا من الزمن.لاحظنا بأن النسيج السردي في مسار الرواية، وتحديدا منذ قدوم الحفيد نحو مدينة العمارة وبعد تجواله الطويل في شوارعها والتغذي في مطاعمها والنوم في ذلك الفندق الشعبي، ثم بالسؤال عن جده، كل ذلك جعل من الأفعال والأشواط من الزمن السردي في وسائط نسيجية متلائمة بتراتيب منغمة في مشاهدها الأكثر بلوغا نحو لغة واقعية تتوغل فيها مجمل العادات والأنساق المتصلة بطابع وروائح الحياة الجنوبية وجمالها، كما ولا ننسى بأن الرواية هي فن الزمن وتفاصيل حكاية الحكي عن بنية المكان في جمل خاصة من الأيقونة الوصفية الدقيقة في سياق وشعاب الرواية موضع دراستنا.

2ـ العشاب الحفيد ورحلة تضاريس العشق القروية:

يتضح لنا بأن للمكان تماثلات خصوصية من شأنها تقريب البعيد وأبعاد القريب، وضم الأغتراب في المعايشة الحميمة.غدت موجهات التشخيص في الشخصية المتمثلة بالعشاب الحفيد أكثر رسما بالتحول نحو حياة تغمرها ملامح جمالية الحب والعلاقة الحميمة مع تلك الفتاة القروية حليمة بائعة اللبن والقيمر والحليب المحلي الطازج: (بعد يوم من عمله في الدكان حضرت حليمة أم الروبة وأمها، وقد اعتادت أن تأتي عند الفجر وتجلس أما الدكان وتبيع القيمر والروبة، وعند الساعة التاسعة والنصف أو العاشرة تكون قد أنهت بيع ما لديها، تجمع الأواني في طستها وتغادر المكان عائدة إلى بيتها./ص85 الرواية) علمنا من سياق الرواية بأن الحفيد كان خلال إقامته في الفندق، قد تعامل مع أحد مقاولي البناء إلى ترميم دكان الجد ملا عبود، وبعد الانتهاء من ترميمه، قام بتأثيث الدكان بكافة الحوائج بدءا من الإنارة وحتى قفل باب الدكان الجديد.أمضى أوقاتا في التجوال ما بين اقتناء الحاجيات لمكان إقامته الجديد، وقد يصادف أغلب الأحيان التي يقوم بها في التجوال ما بين الفندق والدكان في الأثناء التي يكون فيها أغلب أصحاب الدكاكين غير متواجدين في موضع محلاتهم ليلا أو عند أوقات أول المساء.لذا عندما كان يذهب إلى المطعم المجاور لتناول وجبة دسمة ثم يغادر وسط أنظار أصحاب الدكاكين الأخرى كالخباز والحلاق وذاتها المرأة بائعة اللبن: ـ (توقفت المرأة عن الحركة وظلت تنظر إليه مندهشة مع قيل من وجل، بقيت هكذا مذهولة لفترة تفكر في ذاتها: ـ سبحان الله هذا الملا لو غيره، من أين خرج ؟من الدكان، من الجدار؟ صحيح ما قالوا عنه ـ إنه ساحر ـ./ ص82 الرواية) تبين لنا الحياة الشخوصية في الرواية ثمة وظائف لها علاقة ذاتية وموضوعية وزمنية ومكانية وتأريخية في أفق ملوحات التبئير السردي، ولا يمكن الجزم بأن حياة الملا عبود هي مصدر هذه التفاعلات الواردة في شبكة سياقات النص المضارعة والمعطى.فمن جانب ما أخذ البعض يسأل العشاب الحفيد عن مدى الصلة التي تكمن بينه وبين الملا عبود: (ـ عمي أنت شتكون من الملا عبود؟.فأجابه حفيده. / ص55 الرواية) إضافة إلى كل هذا أن الحفيد يشاطر جده ببعض الملامح الجينية، ما جعل المرأة بائعة اللبن تستذكر مع ذاتها حكاية خاصة ربطتها بالملا عبود، قد تكون من النوع نفسه من العلاقة التي ربطت الحفيد بأبنتها حليمة، حيث وصلت العلاقة بينهما إلى سياق حميمي باذخ في الصورة الأيروسية.بالمقابل من هذا هناك جانب من الكره والحقد للحفيد من أصحاب بعض الدكاكين وتحديدا الحلاق، وهو الأمر الذي يترتب عليه من سلوكيات الحلاق الذي كان مغرما بفتاة اللبن حليمة، فنشبت عدة حالات من الغيرة والكره إزاء هذا الحفيد، لكون حليمة كانت تقدم ذاتها وجسدها للحفيد بسخاء واشتهاء، دون منح ذلك الحلاق فرصة منها بوجه باسم أو أي التفاتة ما من شأنها زرع الأمل في قلب ذلك الحلاق: (عانقته ولفت ذراعيها حول عنقه، تصاعدت أنفاسها كفرس سباق قطعت شوطا كبيرا في مضمار سباق الخيل..وضعت رأسها على كتفه برفق وأغمضت عيناها، ثم هدأت الأمواج وانحسرت المياه عن الشاطىء./ص71 الرواية) هناك جملة حقائق تطرق إليها الروائي، تتعلق بمرجعية حياة حليمة وكيفية اغتصابها من قبل فتى طائش ومشرد يهوى ركوب ومجامعة البغال والحمير، تم ذلك في سن كانت فيه حليمة في ريعان طلوعها العمري كفتاة قروية تجمع الحطب من الخلوات والمفازات المتروكة، وهذا الحادث ما أجبرها على الزواج من أبن خالتها تسترا على واقع فضيحة كونها فتاة قد فقدت عذريتها على يد ذلك الفتى هاوي مجامعة الحمير والبغال والذي قامت الأم بحرق كوخه الذي كان يتخذه مأوى له، غير أنه لم يصاب بأي أذى عند اندلاع ألسن النيران في الكوخ، وراح فارا من القرية، على حين غرة كان الحفيد العشاب لا يرجوا سبيلا في تعلق حليمة العاطفي به، لأنه لا يني المكوث طويلا في هذه القرية والدكان، وإنما جاء للتغطية والملاذ من بطش المتربصين به، بالأخص وهو الأستاذ الجامعي الدكتور أشرف الذي هاجر إلى ألمانيا مع أصدقائه ذوي شهادات الدكتواراه، وقد تزوج جوليا خالوفا من عائلة روسية كان يشرف على رسالتها في الماجستير: (لم يمض شهر على زواجهما حتى فوجئا بنذير شئوم، فعند عودتهما من الجامعة وجدا ظرفا مرميا على أرض الشقة..تناولت جوليا الظرف وفضته لتجد فيه رسالة موجهة إلى الدكتور كتب عليها:الدكتور أشرف عبد اللطيف يرجى حضورك إلى مكتب الشرطة./ص159 الرواية).

ـ المحور الشخوصي وحرب التصفيات الدامية:

أن عملية القراءة إلى أجزاء ومحتوى المتن الفصولي المثبت بالعنوانات والترقيمات الداخلية توعز إلى المعطى النصي المجمل في الحوادث والأفعال والمصادر الحكائية لكل شخصية في الرواية على حد مستقل، إذ بدا لكل منها سياقها الحكائي المتواشج وحدود العلاقة التبئيرية المتمركزة حول ثيمة الدكتور أشرف الذي طالما اعتاش بعد عودته إلى بغداد بطريقة التخفي والتملص أو التنكر بهوية جده العشاب خوفا وتحسبا من القتل له من قبل جماعة المدعو اللواء واثق ورجالاته في دائرة الأمن الوطني.لم تكن عودة الدكتور أشرف إلى العراق إلا بعد نشوب ذلك الخلاف مع شقيقي جوليا زوجته، كون أشرف حسب زعمهما قد قام بالاعتداء عليهما في شقته، ذلك لأن عائلة زوجته لم يكونوا مرجحين فكرة زواج ابنتهم من أشرف أصلا، وهذه الشكوى منهم بحق أشرف جعلته يعود مع بعض أصدقائه مخفورا عليهم عن طريق البوليس إلى العراق، وقد قدر لهم أن يحيا كل منهم فترة من الزمن داخل الحبس في مركز الشرطة، ولكن بقيت رجالات اللواء واثق في مطاردتهم حتى بعد خروجهم من المعتقل لدى قوات الشرطة، وبعد أن تفهموا ضباط المركز وقائد الشرطة بأن هذا اللواء التابع إلى تنظيم المخابرات في النظام الأمني السابق مختصا بتصفية ذوي الكفاءات: (في اليوم التالي وصلت أوراق إطلاق صراح المحتجزين الثلاثة، وقام آمر المركز بمناورة تكتيكية لإيهام المجرمين، فأطلق سراح الشخصين صباحا، وأبقى الدكتور إلى المساء، ألبسه الزي العسكري وتم توصيله في سيارة الشرطة إلى بيت خالته فضيلة في دينة الصدر./ص116 الرواية).

ـ تعليق القراءة:

لقد حاول الروائي والقاص عبد الرضا صالح محمد في دلالات رواية (خازن المقبرة) سرد جملة الوقائع المتخيلة بوظيفة تشكيلات (المعادل النصي) أو سردية الميتاسرد، فكلاهما يقدمان الموضوعة الروائية في صور وحالات اغترابية من المعنى البديل أو من المختص في معالجة الأفكار بطرائق فنية مؤسسة على روح المقاصد والدوافع والمسوغات التفارقية في مصائر الأنسان ذا الكفاءات العالية الذي يسعى إلى بناء بلاده بصورة تحقق له الهوية المهنية الناشطة في إنشاء ناصية التكنولوجيا والسياقات التربوية المتحضرة في نشأة الأجيال الصاعدة.وعلى هذا النحو راح الروائي يقدم لنا شخصيات الأموات المحاربة وهي تتصدى وتقارع تلك الفلول التي من شأنها هدم وسحق وتيرة نمو المواطن والوطن، لذا فإن رواية (خازن المقبرة) هي الصورة المدلولية العجائبية حدثا وتشكيا وحبكة، كما وهي ذلك الشكل الروائي الجاد والجديد إذ لا تحكم قدراته المفاهيم الفنتاستيكية سوى من جهة روح المعالجة الاقتراحية التي من شأنها بلوغ أقصى الوسائط والغايات والمبررات اللامعقولة لأجل خلق دلالة وإمكانية في إنشاء النموذج الواقعي من اللاواقع، والعجيب من اللاعجائبي ، توغلا نحو تقديم محكيات مقاربة إلى أجواء ذات ملامح إيحائية ورمزية، غير إننا في الختام تبقى مسلمات معادلات موضوعية تسعى للكشف عن مواطن الحقيقة التي لا تقل معقولا من واقع الحروب وآليات البطش المنفلتة في اصطياد النخب النادرة من رجال العلم والمعرفة.هكذا قدمت لنا رواية (خازن المقبرة) أحداثها وشخوصها الأحياء والأموات صدا وردما مفترضا لأجل إثارة التساؤلات والفطنة القارة بأن ليس من يكافح الشر والأشرار هم الأحياء وحدهم، بل والأموات أيضا في مراهنة وخيارات متخيلة محبوكة بالأسباب والمسببات اللامعقولة في آفاق الصنيع الروائي المعقول والأكثر إقناعا وصقلا في أدواته الجمالية والفنية المستوعبة.

***

حيدر عبد الرضا

 

في المثقف اليوم