قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: وقفة قصيرة مع مجموعة: ألواح.. من وصايا الجد لعلي السباعي

من وصايا مخيلة تنتهك النوع السردي وتتلاعب في ضوابط التنصيص

توطئة: تنمو آليات و أشكال الأنواع السردية، طرقا تواكب مناحي الواقع الوجودي، معبرة عن ما يتحقق في تجليات التشكيل الذاتي لمختلف الارهاصات التخييلية التي تحدثها الوحدات الصغرى من المشاهدات والآفاق التي تلتقطها تخيلات إطلاقية الملكة الحسية والتصورية لدى القاص.وعبر هذا الصدد تشكل تجربة فن القصة القصيرة جدا، ذلك الابتداء في مزاعم التقاط العوالم الصغرى المستقلة عن نوعية فن القصة القصيرة، اقترابا منها نحو تصوير عين اللحظات العابرة من شواغل كاميرا المخيلة التي تصارع الخيال في شكله المهمش والأكثر تندرا على رصد سياقات حكائية لها رائحة اللقطة المغمورة من زمن نسبية الاختزال والإيحاء المقيد بشروط إحالات الصناعة النصية للقصة القصيرة جدا .

ـ القصة القصيرة جدا بين إشكالية التسمية والنوع:

لعلنا مؤخرا تعرفنا على تزايد ما يسمى بـ (القصة الومضة؟!) أو ما قد أستقر عليه حالها من التسمية أخيرا (القصة القصيرة جدا) فكل ما عثرنا عليه في مكونات وآليات هذا النوع الهش من التخييل، ذلك النوع من حالات الإقامة اللاموضوعية واللاجمالية في بنيات هذا الحجم (الخواطري!) من الأخبار وسلاسة الحضور الحدثي الذي يقترب من بناءات غير قويمة من التنصيص الفاعل.قلنا سلفا في بداية قراءتنا إن الساحة الأدبية غاصة ومشحونة بإشكاليات الأنواع الأدبية إلى درجة وصول ما يسمى بـ (قصة الومضة ــ القصة القصيرة جدا) وهذا النوع السردي في الحقيقة لا يشكل بذاته خروجا كاملا من جسد القصة القصيرة، بل هو مخاطرة تستوجب مراعاة حدود الضوابط والخصوصية القيمة في مجاهيل البنية القصصية القصيرة التي هي الأصل في النوع الأدبي السردي (ارتكازا ـ جنسا) في الحقيقة وأنا أطالع تجربة هذا النوع الانفصالي من السرد أثار حفيظتي النقدية ما قرأته في مجموعة (ألواح .. من وصايا الجد) للقاص الصديق علي السباعي، خصوصا وأن للقاص تجربة متماسكة في مجال فن القصة القصيرة، ولها من الأدائية والخصوصية في طموحها الفني والجمالي.ولكن ما عثرت عليه عبر هذه المجموعة ما راح ينهل من معين كتابة تقترب من النثر والأخبار والهايكو في نصوص القصيدة التقريرية اليابانية.فرحت أقرأ قصة تحت عنوان (شباك عبد الرضا عناد) وأخرى وكأنها خاطرة جاءت بعنوان (رسالة منسبة لأبي ذر) وأخرى (كوكب اليابان) و لا أظن من جهتي بأن ما قرأته يعد بالتجربة الفنية أو الجمالية أو الأسلوبية المقرونة بأدنى الوسائط التشكيلية في تقديم حدود مشروعة خصائص هذا النوع الخواطري: (صدح هاتفي الجوال بموسيقى أغنية القيصر كاظم الساهر ــ أنا وليلى ـ تعلمني بورود رسالة لي، فتحتها، قرأتها: ــ ستعيش وحيدا وتموت وحيدا كأبي ذر.الرسالة كانت من حبيبتي ليلى التي هجرتني وتزوجت بآخر غني./ومضة : رسالة منسبة لأبي ذر./ص13) كمثال هذه الومضة وغيرها، واجهتنا نصوص مجموعة (ألواح..من وصايا الجد) وكأنها (سوالف؟) لا تخلو من روح النكتة والتبعثر في عبارات رسالة غرامية.كذلك الحال في ومضات كمثل (كوكب اليابان ــ إفطار عراقي ــ كاسيت سعدي الحلي ــ استهزاء ــ إعلان تمرد بطريقة عصرية ــ مجنون برتبة رفيعة) ونصوص أخرى عديدة من تجربة نثرية لا تحكمها أدنى مقومات التكثيف والإيحاء الفني أو على الأقل جمالية التشويق في الضربة المضمونية كما الحال في الفن القصصي القصير جدا المتعارف عليه في التجارب الغربية والعربية.

ــ الومضة الحكائية بين التهكم الذاتي واللحظة المتمردة.

إذا كان المطمح الفني والاعتباري من وراء تصنيفات الشكل من التنصيص بـ (فن الومضة القصصية) جاء حسما لاعتبار أن إمكانية الحسم الدلالي في هذه القوالب يشابه حالة من حالات الانتقادية المبطنة حول قضايا و أوضاعية تختص بها مساحة كبرى من متعلقات مصيرية كبرى من حياة الأفراد ومطالبهم المتكررة من قبل الحكومات اللصوصية الراهنة.ولكن هذا الأمر بحد ذاته لا يخول القاص من تقديم نصه بطرائق لا تسندها رصانة الأسس وشرائط الصنعة الفنية المؤثرة بذائقة التلقي، فقط للأسف واجهتنا محض دعوى تهكمية لا تثير فينا سوى الاشمئزاز والقرف، كما لاحظنا ذلك عبر حكايا (تمثال ــ موقف ــ درس بليغ ــ عقاب) يمكننا أن نتفق مع القاص السباعي بأن هناك في بعض رؤى ومضاته النثرية، ما يحمل ملامح تكوين حس الانتقاد حول مهاترات الزمن، وذلك بعدم إمكانية الفرد بـأنتظار ما هو أفضل إلى حد الآن.ولكن من الصعب تصوير هذه الحالات عبر هذا النوع الهارب من الصياغة والكتابة، خصوصا وأن هذا النوع لا يتصل بقدرات وسائطية وفنية شيقة من ممارسة القبول المشروط في الكتابة القصصية المتفق عليها فنيا وذوقيا ومعياريا .

ــ تعليق القراءة:

إجمالا أقول لا يمكننا وضع معايير تصنيفية جادة لمثل هذا النوع من النصوص المتعثرة في مسمياتها وخصائص إشكالية إدراجها في النوع القصصي بأية حال من الأحوال، لأنها ببساطة لا تحقق الأسباب الإمكانية عبر مسوغات البنية والشكل للنوع الأدبي القصصي القويم، ولا من جهة ما غاية في الأهمية أن نعتبر هذا النوع من القص، سوى حالة شبيهة بالهذيانات والهلوسات المعبئة في ملفوظات هجينة لا تمتلك من هوية رائحة القص الجميل غير ملامح هزيلة من المسمى الذي هو خارج حدود تراكيب وأدوات الطابع النوعي لمقومات الفن القصصي في الدور والبنية والسياق والتوليد الدلالي.وختاما أود أن أضيف مثل هذا القول الوجيز مني:إن الإشكالية الكبرى في هذا النوع المسمى بـ (القصة القصيرة جدا = الومضة القصصية) هي كونها لا تتحلى بمعايير الكفاءة الإجرائية التي نجدها في مسوغات القصة القصيرة جدا أو ما يسمى بالأقصوصة في المصطلح النقد الغربي، فنحن عند قراءة مثل هذا الأنواع الهجينة ننسى أن من قام بكتابتها وهو بطبيعة الحال من أروع كتاب الفن القصصي الصاعد وله العديد من الأعمال الساحرة في حبكتها ولغتها ومواضيع إبداعها، لذا فإن مثل هكذا (هايكوات؟!) لا تناسب حصيلة عوالم تجارب هذا القاص السابقة سوى لا نملك سوى التأشير في حق خاصية تجربته التي نحن بصددها سوى بالمزيد من علامات الاستفهام والتعجب والألم الذي يصاحبه غلق دفتي مجموعة هذه النصوص الناشزة من الابداع والتخييل الفاعل والجاد.ولأجل أن لا نتغافل عن تجارب حقيقية منجزة في مضمار إبداع فن الأقصوصة ــ وليس الومضة القصصية ـ فهناك نصوص مخصوصة ذات بنيات موزونة ومتوازنة من علامات (الإيحاء ـ التكثيف) تمتاز بها تجارب خاصة في هذا المجال من فن كتابة الأقصوصة، إذ يبدو السارد من خلالها داخل لعبة ماكرة من الشد بالوصف المنصب على موصوف الحالات، فكلما بدت الأشياء واضحة في مسرح النص، كلما زادت حجب صفاتها بإظهار دلالات تعاكس تصورات القارىء الانتظارية، وإذا بالنتيجة الختامية تتحقق جملة من الأفعال التي لم تكن في الحسبان القرائي تماما.بهكذا خصوصية تكون مراحل اللاملموسية في الأعمال الخاصة بفن الأقصوصة .. عين السارد في علاقات تشكلها اللحظات اللامعلنة من الكشوفات الدلالية، لا أن تقدم لنا حكاية ومضية على لسان الحكواتي وكأنها خواطر شفاهية تنتهك النوع السردي وتجحف حقيقة وهوية وملكة التسمية الانواعية للفن القصصي القصير المحفوف بالرمز والإيحاء والتداعيات التأويلية. وعلى هذا النحو يمكننا إضافة عدة خلفيات وظيفية مثمرة وصحية، تدعمنا وتدعونا إلى توطين حقيقة ومصدرية الأسس المحكمة في صياغة فن القصة القصيرة جدا، والتي للأسف لم تتوافر منها ولو تقنية واحدة في مشروع وتجربة (ألواح .. من وصايا الجد) ولعل أهمها إجمالا وتخصيصا (الحذف ــ الإيحاء ــ التكثيف ــ المفارقة الفنية ـ فعلية الجملة ـ الرمز ـ اللجوء إلى الأنسنة ـ الخاتمة الواخزة) لربما واجهتنا العديد من دراسات النقاد والأدباء ممن يسعى كل واحد منهم إلى إرساء عدة قواعد إلى هذا الفن الذي راح منهم يطلق عليه مسمى (اللقطة السريعة) و الآخر ممن أطلق عليه بـ (الومضة القصصية) ولكن حقيقة الأمر لا تستقر لا على هذا ولا ذاك، رغم يافطات المبررات الطويلة والعريضة التي تحاول إخضاع هذا النوع الهجين إلى مجال النوع السردي من فن القص نوعا وتجنيسا. وتبعا لهذا أقول مجددا: إن ما يعرف بالبنية الصغرى من فن القصة القصيرة، هو فن الأقصوصة، شكلا فنيا أصغر حجما من القصة القصيرة، ولهذه الأقصوصة ثمة قواعد وخاصيات انتقائية من البؤرة والوحدة الزمنية والمكانية والضربة الملازمة لعناصر إيحائية جاذبة من التشخيص والتركيب والتماسك عبر زوايا السرد بصورة أكثر فجائية ومخالفة في المعنى المؤول للمقروء .أما في ما يتعلق بالخاتمة فغالبا ما تنتهي الأقصوصة بطرائق لاذعة فنيا ودلاليا وأكثر تحولا في تمثيلات روح المفارقة الفنية، ولا أعني هنا التهكمية الذاتية الفجة التي جاءت بها أغلب نصوص القاص علي السباعي .أنا شخصيا ولا يعني لي أي حالة مفهومية أو حجاجية من أراء النقاد (كبارا وصغارا) لذا أقر بعدم وجود ما يسمى بالومضة القصصية، بل وأنفيها في ذائقتي ومعرفتي النقدية، فهذه التسمية والتجربة قد تصح إمكانا في عوالم قصيدة الهايكو، ولكن عندما يتعلق الأمر في مجال السرد فلا يمكننا القبول بهكذا اطروحات مغالطة وخالية من أي معيارية موضوعية وذائقية تماما.

***

حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد عراقي

في المثقف اليوم