قراءات نقدية

حيدر عبدالرضا: قراءة في قصيدة (البدوي الذي لم ير وجهه أحد) للشاعر لمحمود البريكان

نسقية التضاد في مرايا التصحر الذواتي

توطئة: لعل تجربة الشاعر الكبير (محمود البريكان) الشعرية ورغم عدم ذيوعها من خلال تعدد المطبوعات، إلا إنها تجربة تتجاوز العديد من المنجزات والمجلدات الشعرية الضخمة للشعراء، فهي تترتب من الداخل الأسلوبي بتشكيلات ترفع بالدال المرمز إلى مواطن ثرية بالإيحاء الكياني لأدق دقائق انطلاقة الدﻻﻻت الحبيسة عميقا في تأويلاتها وعلاماتها الملفوظية المتضادة وطبيعة موضوعة وفكرة ورؤية القصيدة الناجزة في دائرة اللامألوفية في التقاط الأشياء وأحوالها ضمن أوجه استبدالية وإحالية خاصة من مكونات الابعاد الاستدﻻلية في التكوين النصي الشعري.. من هنا ومن خلال التعامل مع قصيدة البريكان، نتجاوز إحساسنا النمطي في التلقي والقراءة والذائقة الإسقاطية، لنبدأ من مرحلة حركية مضمرة بأشد حاﻻت حسية الأنا الشاعرة بهواجس موضوعاتها المنطلقة من حدود خارج تراتيبية المطروح اللفظوي، امتدادا إلى عوالم (الميتانصي) ومعارفه الاوصافية النادرة والفريدة. في الواقع إن حيز قراءتنا لعوالم تجربة البريكان تتضائل في أدواتها وآلياتها وممارساتها، خصوصا وأن لقصيدة الشاعر ذلك اللون والتشكيل والأداة التي ﻻ يمكننا مقاربتها مع أي تجربة شعرية سائبة من تجارب شعراء التقليد والنمطية والخواطر النثرية المهلهلة في الدال والدليل والعضوية الأداتية في رسم الوظائف الوسائلية والوسائطية في بنيات القصيدة. وتبعاً لهذة المقدمة التوطئية نتعرف على أحدى تجارب الشاعر الفذ من خلال قصيدته الموسومة ب (البدوي الذي لم ير وجهه أحد) فما وراء حجب هذه الهيئة العنوانية من خصوصية وأسرار ملحمية بالذات المضاعفة في مدها الايجابي الأولي تصديرا مركزيا كثريا تتمرأى بآليات لغة (الحضور - الغياب / العلامة - السمة / الذات الساردة - لوحة المرآة).

- المروى إليه غيابا: السياق وحدود مرجعية المخاطبة.

عند البدء بأول مطالع النص يواجهنا التلفظ بضمير المروى إليه غيابا، لينضم صوت المخاطب إلى لغة الخطاب المأخوذ بإنتاج النسق السياقي في مجال الرقعة (الزمكانية) وفضاءاتها المتعلقة برواية المحكي شعريا:

لعلك يوما سمعت عن البدوي العجيب

الذي كتب الله أن ﻻ يرى وجهه أحد.

لعل الانموذج الدوالي المطروح ب (البدوي) يفتتح المستوى من رؤى دائرة في علاقة (فضاء: الذات - المرآة - ذاكرة - حكواتي) بلوغا مقتربا بفروض واحتماﻻت أن تكون خصيصة هذا الكائن محتجبة على صعيد ذاتها أوﻻ ثم إلى وسائل وتطلعات الارتباط العلائقي بين (الصحراء - الأسطرة) لتتكشف لنا ذاتية ذلك الدال وكأنها حقيقة مرجعية تستقبل أحوالها في إطار لجج الرمل ومسار غيابها عن هوية علاماتها في عموم فضاء ملحمة الرمل والدال المؤول (أن ﻻ يرى وجهه أحد) فلتذكير القارىء ها هنا في ان حدود الدرجة القصوى من عدمية الذات المتصحرة، حيث بدت تغيب عنها تواريخ صورتها الميلادية وتفاصيل تختص بوضعها النسقي. غير أنها تبقى ضمن نموذجها الانتمائي كهوية بيئتها في بيوت شعور الإبل، تستقبل يومها من خلال بزوغ خيوط الشمس من خلال شعيرات بالية من سقف الخيمة المثبتة بركائز الأوتاد وعقد الحبال الذابلة:

وجهه الأول المستدير البريء

الذي غضنته المهاللك وافترسته الحروب

وخطت عليه المآسي علاماتها.

نمت طبقات الزمان

على جلده.. فهو ﻻ يتذكر صورته

صورة البدء.

هذه المقاطع تلخص لنا فلسفة أزل الآزال في بنية التكوين البدوي، فهي من جهة ما تجتذب لاضاءة صفات الذات وكينونتها الفطرية (وجهه الأول المستدير البريء) وصوﻻ الى حقيقة تقاويم وتواريخ سيرورته عبر جغرافيا الجسد الصحراوي المتمثل بأشد أحوال المنازعات والحروب القبلية المرتبطة بطبيعة النسيج الحضوري لعادات الروح الصحراوية المشربة بموجودات (الثأر - الغزو - الخصام - الغنائم) فكل هذه الخلجات هي من الاضطراب في العنفوان والشهوانية الصراعية من أجل البقاء في ثوب البطولة والجبروت القبلي (غضنته المهالك وافترسته الحروب) وما ينبثق عنها من سمات ذات دﻻﻻت روحية تتشكل بوازعات الطابع والتمثل (وخطت عليه المآسي علاماتها) وتنحو علامات الزمانية في المقاطع كفلسفة احوالية في الموقف والفهم والإدراك، لذا تبقى كحالة (إنتاج موقفي؟) بزخم مكتظ دﻻليا في علامة دهرية تتعدى عينات الموقع الوصفي الآني (نمت طبقات الزمان.. على جلده.. فهو لا يتذكر صورته) لعل البريكان يضع بدوية في خانة يصعب الخروج منها، فهو يصفه بروح المغاﻻة غالبا، ما جعله يبتعد عن التقويم الصوابي للموضوعة الحسية للحدث الشعري: نقول لعل الامور ﻻ تصل إلى هذا الحد من المغاﻻة (فهو ﻻ يتذكر صورته) خصوصا وإن هناك وسائل اكثر انجازا في تفعيل جمالية الصورة الشعرية ودعم علامات الصفات للفكرة الواصفة منظورا شعريا، إذ ليس هناك أية مبررات معيارية في جعل المهالك تنسي المرء صورته وهيئته، حتى وان كان ذلك البدوي الذي تشرب زمنه في يباب لجج كثبان الرمل والحصى ودبيب القوارض ورياح السموم، إذ ﻻ يمكننا بمعنى ما تقبل هذه الدﻻلة سوى في ترجيحها إلى كفة المبالغة والاسراف في رصد الحاﻻت الانشائية لا أكثر.

١- عضوية بلاغة المرايا وملكوت الواصف الشعري:

لعل إن المشاهد القادمة من سياق المد الدﻻلي جعلت تتنامى في حدود آليات (الواصف = الموصوف) ليذهب ذلك الواصف بآنويته بعيدا عن الانسياق وراء الأوضاع الانشائية في بعض ما ﻻحظناه في مقاطع القصيدة اعلاه:

 مستغربا في مرايا المياه ملامحه الغامضة

أنا هو ذاك

أنا البدوي الغريب يجوب البوادي

و يطوي العصور ويعبر جيلا فجيلا

إلى آخر الأزمنة.

تتكرر لأزمنة التوكيد الآنوية بطريقة الأثباتي والثبوتي،و كأن الشاعر يسعى في نصه إلى التزود بأعلانية وثوقية من ذاته ولذاته، ولكن المد الدﻻلي ﻻ يتطلب من الشاعر كل هذه التكرارات المتلاحقة في كل بداية سطر، لعلها ﻻ تقدم ذلك التنام الدرامي والشعري المعزز بالفهم القرائي بادىء ذي بدء (أنا هو ذاك.. أنا البدوي) أما من خلال المقطع السابق تتضح لنا حقيقة (مستغرباً في مرايا المياه ملامحه الغامضة) ذلك البدوي الذي يعاين ذاته ضمن فاعلية الوصول إلى معرفة شكله الذي غاب عنه في مدار التوقع والتصور، فهو يكتشف ذاته عبر شاشة مرايا وحكايا المياه هذه الضربة الشعرية منصصة بما يلاءم سياقات ومضادات الحياة الصحراوية، وما يترتب عليها من مضامين حركية وتحفيزية قابلة لنمو الدﻻلة الفعلية ورمزية مؤثراتها الناجزة.

- تعليق القراءة:

إن ذات التمثيل الشعري في قصيدة (البدوي الذي لم ير وجهه أحد) خلاصة في التطبع الاثباتي المتعدد ومحاولة العودة إلى مواطن التعريف بأزل دورة الكينونة التي راحت تلعب دورا دﻻليا في تراكيب الدوال الشعرية، لذا فإن من غير الضرورة استعراض كل أجزاء القصيدة، خصوصا وإنها سقطت في الجانب الوصفي والعرضي أكثر مما ينبغي.. أي أن الأجزاء المقطعية في النص،جعلت تستخدم جوامع الوسائل والوسائط (المرجعية: التشبيه - المشبه به) في مواضع كان من المستحسن للشاعر إعادة صياغتها بطرائق أسلوبية اكثر فنية وشعرية وجمالية، ﻻ أن تبدو الملفوظات وكأنها مرسلات مبثوثة في مواضع ﻻ تعبر عن أية إمكانية في خطاب النص الشعري، كما في هذه المفردات المقطعية التي بدت وكأنها خاوية من الشعرية:

حفظت أغاني الزوابع عبر الأفق

وكنت امرأ القيس في التيه

والمتنبي على الطرق النائية

وفي عزلة الروح كنت المعري رهين السجون

الثلاثة

وكنت دليل القوافل عبر المفاوز

وكنت الذي يوقد النار للطارقين.

على هذا النحو وجدنا بعض من ملفوظات النص، وكأنها مواعظ سيرذاتية وتهليلية تتقصى تفاصيل ﻻ يمكن الاستجابة وإياها قياسا إلى ثيمة موضوعة القصيدة، بل إنها ﻻ تتناسب وهذا الشكل الطردي الذي هو من المباشرة ولجاجة جهات الدﻻلة وأواصر العلاقة الشعرية الرصينة. على اية حال لنأخذ ما جاءت به نهاية القصيدة من: (أحس وراء صلابة جلدي.. وراء قناعي القديم.. وراء برود عظامي.. أحس اختلاجة روح خفي.. بصيص براءة.. وبقايا من القوة الغاربة) إن الراوي الوصفي هنا يسعى إلى تلمس حاﻻت فطريته الأولى، أي تلك المرتبطة بذاته الأولى التكوينية وملحقاتها التي تصور شكلا آخر من نقاوة الكائن الصحراوي المؤسطر، فهو فيما مضى راح يحصي مستويات الالتحام بواقعه السلبي، ولكن هو ما زال يهجس ذلك النبض الروحي الذي يتكشف عنه رهانه هذا الكائن المبجل بأسمى صلات شموخ رمزية الصحراء وعراقتها التي تؤسطر لمن يعتاش في مفاوزها أجلى دﻻﻻت الثبات على القيم والاعتبارات السامية: (متى تتدفق بالدم؟.. هذه اليد الذابلة.. متى تتحرر من موتها.. متى يا الهي؟!.. متى؟؟) فيا تبقى الجمل الاستفهامية المرتهنة بأداة التعجب تصارع وجودها الحاضر. طلبا إلى ذلك البدوي الراقد في الأرواح السلفية العريقة للصحراء، لذا تتمخض رؤى الروح البدوية في الأعضاء الميتة للكائن البدوي، استنجادا يلخص ويخلص ويحرر الذات البدوية من براثن آنويتها التضادية المنعكسة في مرايا وقائع الراهن المميت من التصحر الذواتي السقيم.

***

حيدر عبد الرضا – ناقد عراقي

 

في المثقف اليوم