قراءات نقدية

باقر صاحب: ثنائية الوطن والمنفى في روايات دنى غالي

نالت الرواية المكتوبة في المنفى حيزاً كبيراً في الإبداع الروائي العراقي، هذا الحيز يستلزم مواكبةً نقديةَ موضوعية، وهنا تذكر الكاتبة والمترجمة والروائية لطفية الدليمي شيئاً عن العلاقة بين الإبداع الروائي ونقده في مقالة لها في جريدة "المدى" عنوانها" رواية المنفى العراقية.. رؤية من داخل المشغل الروائي" تقول فيها:" تكاثرت أعداد الروايات العراقية المكتوبة في المنفى وتنوّعت موضوعاتها وخبرات كاتبيها حتى صارت ظاهرةً تستحق الاستفاضة في التوضيح والمكاشفة وإزالة مناطق اللبس التي كرّسها انكفاء الرؤية النقدية لبعض نقّادنا على قراءاتٍ متلاحقةٍ تعتمد مواضعاتٍ شخصيةً محضة، أو تعميماتٍ تكشف حالةً من الاسترخاء النقدي".

بالتأكيد أن روايات المنفى، حالها حال روايات الداخل، تناولت ثيماتٍ مختلفة، هموم العراقيين وتطلعاتهم، آثار الحروب والحصار والقمع الديكتاتوري على الحياة العراقية، ومن ثمَّ هناك الثيمات المختلفة في روايات ما بعد الاحتلال الأميركي، ولكننا نرى أن أهم ثيمات الرواية العراقية في الحقبتين الدكتاتورية والحالية هي ثنائية الوطن والمنفى.

في هذه المقالة تسليط الضوء على هذه الثنائية في  بعضٍ من روايات العراقية المغتربة دنى غالي، المقيمة في الدنمارك منذ عام 1992، الضوء يكتفي بتشريح هذه الثنائية  في روايات" جنوب" و منازل الوحشة" و " عندما تستيقظ الرائحة ".

جنوب

يتقدم آخر روايات العراقية المغتربة دنى غالي" جنوب" الصادرة عن دار المدى عام 2023،  يتقدمها مقتبسٌ من نصٍّ للكاتب والفيلسوف الفرنسي  موريس بلانشو، مغزاه أن الاغتراب حاصلٌ إن كان في البلد- المنفى أو في البلد الأصل. فهي تروي حكايات ثلاثة أصدقاءٍ عراقيين من الجنوب، فاضل وحسام ووائل اختاروا الهرب من الموت العراقي، إلى بلدان الشمال الأوروبي، ومن هنا تركيز الروائية دنى غالي على جنوبيّتهم، لكي توظّف الدلالة المكانية بين جنوب الحصار والقمع وموت الحروب المتتالية، بالضد منه الشمال الأوروبي، حيث الأمان والعيش الكريم والحريات العامة في الدنمارك. بالطبع الجنوب في البلد الأصلي، العراق، ضمن جغرافية أوسع هي الشرق الأوسط، بينما بلد اللجوء الشمالي، يقع ضمن منطقةٍ أوسع هي الغرب الأوروبي. إثنان  منهم فاضل وحسام اللاجئان  في السويد، عادا إلى الشرق، واستقرّا في الخليج، فاضل في الكويت، وحسام في الإمارات،    وبعد استقرارهما خطرتْ لفاضل أن يسافر هو وحسام  إلى أوروبا، لغرضٍ سياحي هذه المرة،  كي يجتمعوا  بكلّ أصدقائهم الذين بقوا في المهاجر، ومن ضمنهم وائل.

الملاحظ في الرواية أنها توصل إلينا مقارناتٍ بين طباع  ثلاث شخصياتٍ لجؤوا إلى الغرب الأوروبي، هرباً من وطنهم الذي لم يحميهم، أو كانت هواجسهم قويّةً بأنهم لم يؤمنّوا فيه مستقبلهم، بعد أن تفتّت حاضرهم فيه، أما الماضي فهو بالنسبة  لهم وطن ذكريات طفولتهم  وشبابهم. وعلى ذلك هي مقارناتٌ تسعى من خلالها غالي إلى تسريد منظورات الأصدقاء الثلاثة لقضايا جدالية في حياتهم، مثل الوطن والمنفى والمرأة.

فاضل: أكثرهم التصاقاً بالوطن، وأكثرهم حميميةً في العلاقة مع الناس، أكثرهم تبرماً من المنفى، والعلاقات الاجتماعية الباردة، وبالنتيجة، ترك الغرب – الشمال، وعاد إلى الشرق– الجنوب.

حسام: هو الشخصية المتوازنة في وجهة نظره للأمور، فهو أكثرهم  اندماجاً مع المنفي، فضلاً عن إلمامه بعالم التقنيات وتعلّم لغة أجنبية، ولكن ذلك لا يمنع من أنه يكتب الشعر. مقياس اندماجه مع الغربة، تعلّقه بفتاةٍ جورجية، وصلتْ ذروة العلاقة لغاية الزواج، لكنهما تركا بعضهما  بعد انتهاء عقد تمار.  حسام بالنتيجة تزوّج في الإمارات واستقرّ في دبي.

وائل: يختلف عن الاثنين في أنه لم يتزوّج، اندماجه في المنفى الدنماركي ليس حميمياً جداً، رغم أنه لا يودّ العودة إلى الوطن، وينتقد فاضل لهيامه الزائد عن اللزوم بكلِّ ما هو عراقي. وائل الصموت عن الزواج أسفرت صفحات الرواية لاحقاً عن علاقته عن بعد  بصديقة أخته، الصديقة التي تُدعى بان، كشفت زيف وائل لجهة تعاليه ومكابرته عن العودة إلى العراق، وتوضّح له بأن العراق يبقى الملاذ الأول والأخير للعراقيين مهما أدمنوا العيش في المنافي  .

منازل الوحشة

في هذه الرواية، الصادرة عام  2013  عن دار التنوير  للنشر، تضطرُّ عائلةٌ صغيرةٌ إلى التشتت، في ذروة الأحداث الدامية التي شهدها العراق في الأعوام 2006،2007، 2008 . العائلة مُكوَنةٌ  من أبٍ وأمٍّ وابنهما الشاب. الأمّ هي الراوية  فتتولى سرد همومها وهموم عائلتها، فالزوج أسعد  مُحبطٌ جداً مما يجري، مغتربٌ في بيته، وهنا ننوّه، كما هو في مقتبس رواية (جنوب) من بلانشو، إلى أن الاغتراب في هذه الرواية لا يعني فقط الهروب إلى الخارج، بل يعني الاغتراب أيضاً أن تكون غريباً في وطنك، الغربة داخل الوطن تحفّز الأب على الهرب إلى عمان، بعد أن تعرّض إلى الاختطاف من مكان عمله في معهد الفنون الجميلة في بغداد، تاركاً زوجته تلعق جراحها في وطنها بمفردها، وخاصةً انشداهها كثيراً بابنها سلوان،   ومعاناته  النفسية بأسبابها العديدة، أولاً اشتراكه في الحرب كأيِّ شابٍّ عراقي فهو من مواليد أواخر سبعينيات القرن الماضي، ثانياً حرص أمه على ألاّ يخرج من البيت بسبب الأوضاع الأمنية المتردّية. تذكر الأم الراوية عن مخاوفها الشديدة من حالة ابنها سلوان" تأزّم وضع سلوان تحديداً بعد عام 2003 وساءت صحته، الأمر الذي أفزع أباه وجعله يتخبّط بالتعامل معه. فقد وسائل اتصاله معه دفعةً واحدة. وكأن ما حصل في البلد لم يعد كافياً، لكلٍّ منهما انطواؤه، وأنا الحارسة، تنتقل عيناي بينهما" الرواية : ص10 .

سلوان استقرّ في دمشق، جرى ذلك بعد أن دخلت البيت الكئيب فتاة جاءت بها أم الراوية، أي جدة سلوان، فتاةٌ حالمةٌ بالهرب أيضاً، فتجد ضالّتها بتوطيد علاقتها بسلوان وتحثّه على الهروب إلى الخارج. ولأن رواية " منازل الوحشة"، تروي أحداث العراق في عام  2006 ، والعامين التاليين، حيث ذروة أحداث العنف في العراق، بدأت تنخفض تدريجياً عاماً بعد عام، فإن الأم الراوية، تؤمّل نفسها بعودة سلوان، كلاهما الأم والابن ينتظران مزيداً من التحسن في الوضع الأمني، كي يلتئم شمل العائلة من جديد، هذه هي الأحلام البسيطة للعراقيين، ولكنها أصبحت صعبة التحقيق بفعل الظروف العراقية المعقدة دائماً.

عندما تستيقظ الرائحة

في هذه الرواية الصادرة عن دار المدى عام 2006 ترسم دنى غالي حكاياتٍ عن  معاناة  اللاجئين في الغربة، تحديداً تقوم بتشريح عوالم ثلاثة عراقيين، كان بلد لجوئهم الدنمارك، هؤلاء الثلاثة؛ رضا المولاني ـــ مروى البصري ـــ نهلة صباح (زوجة رضا المولاني السابقة).

ما يميّز الثلاثة أنهم لم يستطيعوا التكيف مع عوالمهم الجديدة، بل ظلّوا أسيري كلِّ ما عانوه في وطنهم العراق. معاناة تتجلّى في كوابيسهم؛ الحروب، الحصار، الاضطهاد بجميع أشكاله من قمعٍ فكريٍّ وسياسي، إنهم يعانون غربةً من نوعٍ جديد، أدّت إلى حالاتٍ نفسيةٍ لديهم، لذا يلجأ رضا المولاني ومروى البصري إلى محللةٍ نفسيةٍ من بلد اللجوء الدنمارك. في أثناء جلسات العلاج، تبدو  المحللة النفسانية هادئةً ومستقرةً، وفي وضعٍ صحيٍّ جيد، وهنا تريد دنى غالي، إجراء مقارنةٍ بين بيئة المحلّلة النفسية ذات الرخاء والأمن والاستقرار والحريات العامة، على عكس بيئة القادمين من بلاد قد أطبقت فيها الدكتاتورية على كلِّ شيءٍ جميلٍ وضروريٍّ في الحياة الحرة الكريمة.

تضاعف الاغتراب لدى الفرد، يجعله يتصوّر، بل يتيقّن لاحقاً، بأنَّ الوطنَ طاردٌ لأبنائه، لكي يُجبروا على اللجوء إلى المنافي، وهي مواطن اغترابٍ جديدة، بسبب  عدم التكيّف مع تقاليدها، إنها أوطانُ عديد العقود من الزمن، في إرساء مبادئ العدالة والحرية والرفاهية الاجتماعية.

وفقاً لذلك ترسم غالي مصائر شخصيات روايتها، رضا المولاني يقرّر العودة إلى الوطن، بالرغم من عدم قناعته بهذا القرار، وهو بهذا ينهي حاضر المنفى ليعود إلى ماضي الوطن . أما نهلة صباح فتغيّر اسمها إلى ( هيلينا سابا) وهي بذلك تروم الجزم النفسي بقطع علاقتها مع الماضي . وبالنسبة لمروى البصري فكان خيارها وسطياً بالبقاء في المنفى، ولكن يظل الحنين إلى الوطن يجرّها إلى الصراع النفسي الدائم بين مكانين، أو بالأحرى بين وطنين ورائحتين.

دنى غالى، وتلك مفارقة، تسرد تزايد اهتمام المحلّلة النفسية بكل ما هو عراقي، جرّاء الحلات النفسية المعقدة، المُحالة عليها لمرضى عراقيين، فبدأت افكارها تتداعى بشأن غرائبية قصص العراقيين، فأصبحت تقرأ عنهم في الصحف، وتتابع البرامج الوثائقية في التلفاز عنهم، وأصبحت  تدرك أن هذا البلد الغني لكن ناسه فقراء تتنافس عليه القوى العظمى.

التعامل الراقي للمحللة النفسية وأريحيتها في التعامل مع اللاجئين، وجعلهم يبسطون أمامها كل ما عانوه، لكي يزيحوا همومهم الثقيلة، ربما تروم منه دنى غالي، بأنه من الممكن التكيّف والانسجام مع  شرائح رائعةٍ من مجتمع اللجوء، ما يعبّد جسراً للتفاهم مع شرائح أخرى من هذا المجتمع.

***

باقر صاحب - أديب وناقد عراقي

 

في المثقف اليوم