قراءات نقدية

أحمد الشيخاوي: طوباوية المكان في إبداع ياسر الحيرش

شأن كثيرين ممن وجدوا في هذا الفضاء الأزرق مرتعا لأحلامهم والحرية الكاملة كما الأحقية في البوح الجريء والصريح، بعيدا عن الوصاية والصرامة والاحتكار الذي جار على أجيال متعاقبة، تنفيسا عمّا يكابدون، على نحو مبدئي، وتفجيرا للملكات، نلفي المبدع  المغربي المثابر ياسر الحيرش، في دأبه المخاتل، وديدنه المشاكس، محاولا نقش اسمه بنرجسية في طوباوية المكان، وضمن حدود خطاب سير ذاتي، متمرد على إملاءات وقيود الزمان، أي أنه يلغي هذا الأخير، ويعطّل كامل أضرب تأثيراته، كعامل ليس تقود تأويلاته إلا إلى الحشو والزوائد السرطانية فخدش الشعرية انتهاء.

من هنا فتركيز هذا المبدع، حسب المتيسر لنا من إبداعه، وما استطعنا تحصيله من حضوره الفيسبوكي اللافت، على نزره، وهذا يعود ــ ربما ــ إلى كون تجربته في ملامح بداياتها، بالطبع، إنما هو منبثق من خلفية تقديس المكان.

ففي تقديري، عمق الممارسة الإبداعية، يرتبط ارتباطا وثيقا، ويظل ألصق لحمة، بمنسوب التجارب، هذا الأخير الذي يتغذى هو بدوره، على تنويع الأمكنة، وكثرة الأسفار، صقلا للروح وإنعاشا لها، قبل رجّ ما في العقل من أفكار، والدفع بها تاليا إلى الإنكتاب.

الأكيد أنه من رحم المعاناة، يولد الابداع. وكتابات الحيرش، سواء في جنس الهايكو، أو الشذري منها، إنما تحتفي احتفاء حقيقيا بذاكرة المكان، وتتبنى الأسلوبية المتناغمة وإيقاعات تيمة المكان، بما يجري سياقات الديباجات الفلسفية الراعية لهذا الغرض في شعرية هذا المبدع الواعد الشاب.

نقتطف له هذا الطقس الموالي:

" أنا لا أكتب

أنا أضع ما تساقط مني

على السطر".

لعل مفردة" تساقط" فضلا عن إيحاءاتها القرآنية، تجبر المتلقي على استحضار قصة تفاحة نيوتن.

إنها الإحالة، هنا على هيمنة المكان وسلطته وجبروته وقوة تأثيره على الذات المبدعة، وهي جاذبية متخيلة ومتفشية في أبعاد اللانهائي واللامحدود، ترقى بفعل الكتابة، واضعة إياه في مستويات الرمزية والكمال.

فهو لا يكتب، على حدّ تعبيره، والنقيض أنه ينكتب، أي انه يضع القصيدة/ المكان فوق الحياة، أهمية ورمزية وقداسة وغائية، الشيء الذي يترجم بشكل مباشر صدق التجربة وعمقها، على الرغم من بساطة المعجم وإنشائيته في الكثير من الأحيان. 

وفي مناسبة أخرى تأصيلا للقواعد المنظومة القيمية، إبداعيا وحياتيا، وفي فهم مغاير ومجدد لمعاني الصداقة، كأنما يحاول أن يصحح للجيل، يقول بانسابية سيرية:

"الصداقة علاقة راقية جدا

فقط تحتاج إلى أناس

يعرفون معنى الوفاء ...

بعض الأصدقاء يشبهون النهر المتدفق

في كل شيء طهرا وعذوبة وارتواء

شكرا للأصدقاء الذين يلمسون

نبرة التوجع من أصواتنا وصمتنا ويفهموننا

فحن نكتب لهم ويكتبون لنا ...

نشعر بهم ويشعرون بنا

وحتى إن أخطأنا...

اللهم ارزقنا الصحبة الطيبة الصالحة الصداقة الطيبة والقلوب النقية ...

اللهم أدم ودنا

وأسعدنا سعادة دائمة ...

وامنع كل من يريد لنا السوء...".

تأويل هذه النص القصير، يحيل على جملة من دوال تقاطع النفسي بالعاطفي، يغلف ذلك الخطاب الحِجاجي الحِكمي، كما لو أن الذات تسترسل بجرد أجوبة تفرضها أسئلة بياضات المكان، بحيث لا تتبقى سوى ورقة الصداقة كوعاء لنظير هذا الهواجس المترسبة في ذاكرة مترهلة ومثقلة.

بذا فالعصارة تك حكمة وجودية تخلّدا السطور: الصداقة الحقيقية تغربل الأخطاء، أي أنها بالمعنى النقدي التحليلي، تملي بأبجديات التصالحات الذاتية والغيرية والكونية.

مثلما نورد له الاقتباس الآتي، كذلك:

"لا يحتاج إلى

ملاهي من تكون

السعادة بداخله..!"

واضح، على الرغم من الخرق التركيبي، هنا، أن سعادة الذات، وفي جوانية انزياح، هي رجّح شعرية المكان، ومنحها الغلبة على سائر الميكانيزمات الأخرى، فاثمرت مثيل هذه القول الشعري المترنم بالفوقية المكانية.

نجرد له أيضا، الومضات الموالية:

"هي الدنيا

لا تعطي أحد ما يتمناه رغم أنى أبذل الجهد المطلوب ...

سأقضي حياتي بين مد الأمل وجزر التمني".

..............

"المطر يثير في الحنين والشجن لأيام مضت ولن تعود....

فكلما سقط المطر يتملكني حنين لا يوصف لأن أبكي...".

.............

"قليل من الضباب هنا وهناك بين جبال الاطلس بين غابة ازرو وافران بجلبابي الأسود وحدها الأمطار من تزرع في الارتياح

وتجلب لي الهواء الطلق النقي...

لا يخصني سوى رفيق وصديق وفي...".

.............

"في الليل يعلو

ضجيج القلب...

آه من الم غيابك..!".

..............

"نحتاج جرعة لننسى كل ما مررنا به في حياتنا ....

هناك أماكن احببناها

فقط لأننا سرقنا فيها من الحياة لحظات السعادة.".

"ضحكنا فيها من قلوبنا....

فكلما مررنا على تلك الأماكن...

ستظل جدرانها تذكرنا بتلك اللحظات...

ليتنا نستطيع إيقاف الزمن عندها...

حتى لو تاهت الخطوات وكأن آثار النبضات تدلنا فنبصرها كوضوح الشمس.... ثم نغمض أعيننا....ونتمنى".

...............

"ما نفع أن تشفى من كل الأوجاع

وتعود شخصا لا يشعر

شخص يابس

لا ينبض فيه عرق اخضر

كالصوان المتصحر

فأنا رغم عذاباتي

جروحي أنهار كنهر الكوثر

وأناملي أغصان

وأوجاعي أحلي من السكر

وآهاتي يخالطها العنبر

فهناك فرق بين من يشعر ومن لا يشعر

يا مهوى لا بد لك أن تتحرر...".

..................

"عندما يغيب القمر

تزحف النجوم للاحتضان

دراع أمي... وأخي...".

خلاصة القول إن الشاعر المغربي ياسر الحيرش، أو كما اختار عبر لقب أدبي أن يُنادى" مهوى عقل"، يرى في المكان الإعجاز الذي قد يغيب عن الآخرين، فهو ما ينفك يكتبه كتابة واعية، أو بالأحرى ينكتب لقدسية الأمكنة على قهريتها، مدغدغا جوارح المتلقي، بسرديات الخطاب الحكمى الذي اقتضى أن تكون المعمارية والبناء الواجهاتي لنصوصه صافية كريستالية، تضعنا إزاء مرايا تكبرنا بأجيال، كجيل تربى على عدم التقشف في النهل مما هو جاهز وتافه وعابر.

والأكيد أن ثمة حسب ما تقدم، جملة من المواضيع تسبح مسايرة لهذه التيمة الأم، تيمة المكان، كتجارب الليل والأمومة والفقد والعشق، إلخ... في نصوص طقوسية تمهرسها السلاسة لمبدع دؤوب ما يلبث يشاكس حظوظ الكتابة والحياة، في عالم ملغوم مكرّس للارتجالية والفردانية والاغتراب الروحي.

***

أحمد الشيخاوي

شاعر وناقد من المغرب  

 

في المثقف اليوم