قراءات نقدية
عماد خالد رحمة: حين ينهضُ الحنين من رماده

قراءة تأويلية في قصيدة «أطلّ يُبشّر بهطول المطر» لنعيمة المديوني:
في هذا النصّ الشعري تتجلّى الحساسية الأنثوية في أعلى مستوياتها التخييلية، حيث تتحوّل الذات الشاعرة إلى كائنٍ مُترقّب، يتوشّحُ الأمل، ويُعانقُ الانتظار لا بوصفه زمناً معلّقاً، بل فعلاً وجودياً يُعيد تشكيل الوجدان.
إنّ قصيدة الشاعرة التونسية نعيمة المديوني لا تُعبّر عن الحنين فقط، بل تُعيد تأثيث الحنين بلغة الحواس، وطقوس الجسد، ورموز الخصب. الرجل هنا ليس فرداً، بل رمزٌ للمطر، ولعودة الحياة، ولانبعاث الذات من رماد الغياب.
في سياق البنية الأسلوبية نلحظ تكرار الفعل «أطلّ».
يتكرّر الفعل «أطلّ» في مطالع المقاطع الشعرية، كأنّه تعويذة استحضار، أو ناقوس استبشار، والمفارقة أنّ الشاعرة المديوني تُصرّ على فعل الحضور لا عبر الحدث الكامل، بل عبر إشراق التجلّي، وكأنّ قدومه أشبه بطيف يُعلن نفسه تدريجيًا، تقول :
"أطلّ من بين ركوم التّمنّي
والشّوق سياط ألهبتني".
هذا التكرار الأسلوبي لا يُحدث رتابة، بل يمنح النصّ إيقاعاً داخلياً نبضياً، يُجسّد تواتر الخفقان الداخلي، ويُحاكي دقّات قلبٍ ينتظر.
إن "أطلّ" ليست مجرّد فعل، بل بؤرة إيحائية تُهيمن على البناء النصي، وتفتح أبواب الاستقبال الرمزي للحبيب القادم، حاملاً حقيبة الأمل والمطر.
في مجال البنية الرمزية نجد أنّ الحبيب بوصفه المطر، والانبعاث.
الحبيب في النصّ يتماهى رمزياً مع المطر، الذي لا يُسقط الماء فحسب، بل يُعيد "تخصيب" الأرض العاطفية، تقول الشاعرة المديوني :
"ها الحبيب قد أتى
يُبشّر بهطول المطر
يحمل بين جنبيه مُرجًا خضراء".
المطر هنا ليس مجرّد طقس، بل أُسطورة حياة. هو العودة، والخصب، والبعث. يتداخل "المطر" مع صورة الحبيب، فيندمجان في رمزٍ واحد، يُعبّر عن فعل الخلاص الأنثوي من الجمود والوحدة والموات.
كما ترتبط رموز أخرى بوظيفة الخصوبة والبعث:
المرج الأخضر: رمز النضارة.
براعم النوار: دلالة الولادة الجديدة.
العبير والشوق والأنوار: إحالات حسّية للامتلاء والبهجة.
كل ذلك يُوظَّف داخل خطاب أنثوي يحتفي بالرجولة الحقيقية، لا بوصفها سلطة، بل سنداً وأماناً وحضناً للخصب الداخلي.
من المنظور النفسي – من الانتظار إلى الاحتواء.
تبدأ القصيدة بحالة من القلق التوقعي، تُجسّدها الشاعرة المديوني بتراكمات "الركام"، و"السهاد"، و"الألم"، تقول :
"والشّوق سياط ألهبتني".
لكن بمجرد أن "يطلّ"، تبدأ حركة التحوّل النفسي، فتتبدّل اللغة من وصف المعاناة إلى الانفتاح على الحياة، تقول :
"فأشعّ في الوجدان بريق أمل
زغردت سلال الأحلام
أقبرت الأحزان والضّجر".
هذه الحركية تمثل التحوّل الداخلي للذات الشاعرة، من ذات محاصَرة بالانتظار، إلى ذات ممتلئة بالحياة.
في ضوء المنهج النفسي، يمكن القول إن النصّ يُعالج لحظة التحوّل من اللايقين إلى التوازن النفسي عبر الحضور العاطفي.
وقد عبّرت الشاعرة المديوني عن ذلك بالحسّيات (العطر، الزينة، الفساتين، السمر)، وكأن الجسد نفسه ينهض ويعود إلى الحياة.
في سياق البنية الهيرمينوطيقية – التأويل وتعدّد المعنى.
القصيدة ليست فقط عن رجل وامرأة، بل عن فلسفة انتظار الحياة ذاتها. الحبيب رمز المطر، والحبيبة الأرض؛ في لقائهما تنهض البذور المختبئة.
عبارات مثل:
"يطوي فصول الأسى"
"عانقتُ قلمي أسرّ بهمس أعاد إليه الحياة".
هي إشارات إلى فعل الانبعاث الوجودي، وكأنّ اللغة نفسها تعافت حين أطلّ.
القلم، هنا، رمز الوعي والشعر والخلق، والهمس فعل الكشف، مما يعني أن الحبّ عند الشاعرة نعيمة المديوني ليس عاطفة، بل حدثٌ كوني يُعيد ترتيب العلاقة بالزمن، بالذات، وبالعالم.
ومن هنا نقرأ في القصيدة تماثلًا مع مفاهيم الهيرمينوطيقا الحديثة (غادامير، بول ريكور)، حيث لا تُفهم التجربة من ظاهرها فقط، بل من انكشاف المعنى في لحظة الحضور.
في سياق الصور الشعرية والإيقاع الجمالي. مجد أنّ القصيدة غنيّة بالصور الشعرية الأنثوية الغامرة، لكنها ليست رخوة، بل تحفر في الأعماق بدفءٍ وجسارة، تقول الشاعرة نعيمة المديوني :
"فرشت له الربوع جلّنارًا وأمل": صورة تمتزج فيها الأنوثة بالزمن الموسمي (الربيع).
"سرّحت شعري / تبعثرت خصلاته": الجسد يتهيأ، لا للغواية، بل للاستقبال الوجودي.
"صدحت أجراس المدينة بالغناء": الترقب لا يُسمع من الداخل فقط، بل تُجاوب معه المدينة، كأن الذات تُعدي العالم بأكمله بالفرح.
أما الإيقاع الداخلي، فهو نابع من التكرار البنيوي (أطلّ... أطلّ)، ومن التوازي في المقاطع الأخيرة، تقول :
"تزيّني... تعطّري... تبرّجي..."
"زغردي... أنشري... عطّري..."
كلّها تمنح النصّ موسيقى شعورية تصاعدية، تتحول من تمهيدٍ عاطفي إلى احتفالٍ كامل بانبعاث الأمل.
في الختام:
تمثل قصيدة الشاعرة التونسية نعيمة المديوني "أطلّ يُبشّر بهطول المطر" نموذجاً متكاملاً للتعبير الأنثوي الناضج، حيث تمتزج الرؤية الحسيّة بالرؤية الرمزية، وتندمج تجربة الحب مع تجربة الانبعاث.
إنّ القصيدة لا تحتفي بالرجل كقوة ذكورية، بل كحضور إنساني يكمل نضج الذات، ولا ترى الحبّ كصراع قوى، بل كحوار أرواح متكافئة، تتقاطع في لحظة الحياة، وتبعث فينا معنى الأمان، لا الهيمنة، والدفء، لا السيطرة.
إنها قصيدة تستحق أن تُقرأ تأويليًا كـنصّ شعري مفتوح على مستويات الحلم، والذاكرة، والتحول الداخلي.
***
بقلم: عماد خالد رحمة - برلين
.......................
أطلّ يبشّر بهطول المطر
أطلّ من بين ركوم التّمنّي
والشّوق سياط ألهبتني
*
أطلّ .......
بكفّه يداعب ليالي السّهاد
يزيّن دروب مدينة أصابها الملل
*
أطلّ .......
بوجهه الصّبوح يهدّم أبراج الأنين
يلوّح للحنين
*
أطلّ ......
يحمل حقيبة سفر
يزدحم داخلها الأمل
يقترب من أسوار حديقتنا ينوي بها المستقر
*
أطلّ .......
فرشت له الرّبوع جلّنارا وأمل
سرّحت شعري
تبعثرت خصلاته تدعو لليالي السّمر
عطّرت فساتيني
أطلقت العنان لخفق
آنبرى يعزف ألحانا تغري بآلْوصال وسحر القبل
*
أطلّ .......
فأشعّ في الوجدان بريق أمل
زغردت سلال الأحلام
أقبرت الأحزان والضّجر
*
أطلّ .......
يطوي فصول الأسى
عانقت قلمي أسرّ بهمس أعاد إليه الحياة
*
أيا فؤادا راقص الهوى
أذْهب عنه البعاد الكرى
هذه الأيّام قادمة
حبلى بالدّفء والسّمر
*
أيا أحلامي السّعيدة
ها الحبيب قد أتى
يبشّر بهطول المطر
يحمل بين جنبيه مُرجا خضراء
يدعو لآحتساء أقداح الهوى
*
أيا دموع الرّجاء
آغتسلي من الآه والرّثاء
تزيّني ........
تعطّري .........
تبرّجي .........
ها الحبيب جاءنا يختال زاهيا
دروبنا بآلقرب مستأنسة
والهوى يغتال النّسيان منتصرا
*
يا بشائر الفرح
لا تبالي بدمع على الخدّ جرى
أقبري ساعات الأسى
هلّلي .......
راحت الجراح وحلّت بيننا الأفراح
*
أيا عيون المها
صدحت أجراس المدينة بالغناء
جاء من هفت الرّوح للقاء
لا تبالي بالذّي كان وآنقضى
*
يا مدينة الأحلام
زغردي ........
اُنشري عذب الأخبار في كل دار
ها هنا تتراقص براعم النّوّار تعانق الأنوار
تُعطّر دارنا وكل الدّيار بعبير الشّوق والهوى
***