دراسات وبحوث

سُنَنُ الابْتِلاءِ ورِحْلَةُ الإسْرَاءِ والمِعْرَاجِ

بليغ حمدي اسماعيل(1) سُنَّةُ الابتلاء وحكمته: إن لله حكمة في الابتلاء، وهي أن يقع الابتلاء على خاصته المؤمنين، يقول الله تعالى:) الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) (سورة العنكبوت: 1 ـ 3) . وإذا طالعنا السيرة النبوية في سياقها التاريخي استطعنا أن نستنبط الحكمة من ابتلاء الله لعباده المؤمنين بدءاً برسول الله (ص) وانتهاء بأصغر الصحابة سناً .

فالحكمة الأولى من الابتلاء هي تزكية الفرد، فهناك اختلاف واضح وحاسم في جيل تربى على تقديم نفسه فداءً للإسلام، وجيل كجيلنا هذا، في ظل نداءات العولمة وطغيان المادية، وشيوع تيارات التغريب، والموجات الصليبية الشرسة الموجهة لشباب المسلمين عامة.

فهذا أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) سيد قومه وعشيرته، لقيه سفيه من سفهاء قريش، وهو عامد إلى الكعبة، فحثا على رأسه تراباً، فمر بأبي بكر الوليد بن المغيرة،وابن هشام يذكر أنه العاص بن وائل، فقال أبو بكر: " ألا ترى إلى ما يصنع هذا السفيه؟ قال: أنت فعلت هذا بنفسك . قال: وهو يقول: أي ربِّ، ما أحلمك !، قالها ثلاثاً " .

والحكمة الثانية من سنة الله في ابتلاء خاصته الدعاية والإعلان للدعوة، فإن صبر المؤمنين والصحابة (رضوان الله عليهم) على الابتلاء بعد دعوة صامتة لهذا الدين، لأن يدخل الناس فيه، ولو وهن هؤلاء أو ضعفوا لما استجاب أحد لهذا الدين .

وهذا يذكرنا بالضرورة قصة إسلام أبي ذر الغفاري، التي قصها ابن عباس، فقال: " حتى دخل على النبي (ص)، فسمع من قومه وأسلم مكانه، فقال له رسول الله (ص): " ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري " . فقال: " والذي بعثك بالحق، لأصرخن بها بين ظهرانيهم "، فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته: " أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله " . ثم قام فضربوه حتى أضجعوه، فأتى العباس فأكب عليه، فقال: " ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار؟، وأن طريق تجارتكم إلى الشام؟ "، فأنقذه منهم . ثم عاد من الغد بمثلها فضربوه وثاروا عليه، وأكب العباس عليه كالسابقة .

ومن حكمة الابتلاء تربية الجماعة المسلمة، حيث إن الابتلاء هو الطريق الذي لا طريق غيره لإنشاء الجماعة المسلمة الصالحة التي تحمل هذه الدعوة وتنهض بتكاليفها، طريق التربية لهذه الجماعة وإخراج مكنوناتها من الخير والقوة والاحتمال، وهو طريق المزاولة العملية للتكاليف والمعرفة الواقعية لحقيقة الناس وحقيقة الحياة، ذلك ليثبت على هذه الدعوة أصلب أصحابها عوداً، فهؤلاء هم الذين يصلحون لحملها إذن بالصبر عليها، فهم عليها مؤتمنون .

ومن خلال الابتلاء يعلم الله حقيقة القلوب قبله، ولكن الابتلاء يكشف في عالم الواقع ما هو مكشوف لعلم الله، مغيب ما يعلمه الله سبحانه وتعالى من أمرهم، وهو فضل من الله من جانب، وعدل من جانب، وتربية للناس من جانب، فلا يأخذوا أحداً إلا بما استعلن من أمره وبما حققه فعله، فليسوا بأعلم من الله بحقيقة قلبه.

وما أكثر قراءتنا وترديدنا لسورة المدثر، نحفظها، ونسعى لأن يحفظها أولادنا وأهلنا وتلاميذنا، وهذا بالضرورة أمر طيب وجميل ومحبب لأنفسها، لكن الأجمل والأطيب والأمتع حقاً أن نعي ما جاء في أول السورة، يقول تعالى:) يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) (سورة المدثر / 1 ـ 7) .

فالأوامر التي جاءت في صدر السورة الكريمة تتسم بالمباشرة، والوضوح، فالأوامر الإلهية تمثلت في القيام بالإنذار، وطهارة الثياب، والتكبير لله، وغاية عدم الاستكثار بالمنة.ونأتي للآية الأخيرة البليغة الجامعة المانعة المنبئة بالمستقبل، وهي ما سيلقاه رسول الله (ص)  من المشركين، وما سيجده على حد وصف المؤرخين للسيرة النبوية من أذى المعاندين من المخالفة والاستهزاء والسخرية إلى الجد والاجتهاد في قتله، وقتل أصحابه، وإبادة كل من التف حوله من المؤمنين.

ولك أن تتصور بأن رب العزة يأمر نبيه وصفيه محمداً (ص)  أن يصبر، وهو سبحانه وتعالى الكافي والقادر لرفع الأذى عنه، ولك أن تتخيل قدر الحمل الثقيل الذي أدركه رسول الله (ص) منذ البداية أنه سيقدم على مهمة ثقيلة حقاً، وجهاد طويل شاق لإعلاء كلمة التوحيد إلى يوم الدين.

ولما صعد رسول الله (ص) على جبل الصفا، أخذ ينادي: " يا بني عدي، يا بني فهر، فقال حينما اجتمعوا: " أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟ " . قالوا نعم:، ما جربنا عليك إلا صدقاً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد . فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ " . وأضاف رسول الله (ص) القول، فقال: " يا معشر قريش، أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد، أنقذي نفسك من النار، فإني والله لا أملك لكم من الله شيئاً، إلا أن لكم رحماً سأبلها ببلالها " (رواه مسلم 303) .

وما أن بلغ الرسول (ص) بما أمر به من السماء حتى انفجرت مكة بالغضب، غضب في كل مكان وبقعة، واختلفوا وتمايزوا في ابتداع أساليب وألوان شتى لمواجهة دعوة محمد وإلحاق الأذى به وبأهله.ولعل هذا التباين والاختلاف في صناعة العداء نتيجة الدهشة والاستغراب حينما تلقوا الإنذار، ولم يستطيعوا أن يختاروا أي درب يسيرون فيه .

وأول هذه الأساليب هو السخرية والاستهزاء، والغرض منها توهين قوى المسلمين المعنوية، وخذل رسول الله (ص) في أصحابه، وليستحضرني حديث رسول الله (ص) حين سأله سعد بن أبي وقاص، فقال: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال: " الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في في دينه رقة ابتلي حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة " .

والجانب المعنوي في هذا الأمر هو أشد وأعنف من جانبه المادي ؛ وما بالكم بهؤلاء السفهاء الذين تضاحكوا وسخروا وطعنوا في أكرم مخلوق على الأرض، وما أقوى رسول الله (ص) في الصبر على هذا الإيذاء المعنوي . ولنا في رسول الله (ص) أسوة حسنة في الصبر على الضراء، وفي البأساء، وحين البأس، ومن حكمة الله (تبارك وتعالى) أن جاء الحديث في القرآن عن الصبر على الحق والاستشهاد في سبيل الله بعد ذكر جانب الأسوة الحسنة، يقول الله تعالى في محكم التنزيل:) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً (22) مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً  (سورة الأحزاب: 21 ـ 23) .

وكان السفهاء من قريش يسخرون من النبي (ص) باتهامه بأنه رجل مسحور، وبأنه شاعر، وبأنه مجنون، وبأنه كاهن يأتيه الشيطان، وأنه ساحر كذاب، ومفترٍ متقول، هذا بالإضافة إلى نظرة النقمة والازدراء التي كانوا ينظرون بها إليه، كما قال الله تعالى:) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) (سورة القلم / 51) .

ويصف الله تعالى في كتابه العزيز كل افتراءات مشركي مكة لرسول الله (ص)، يقول تعالى:) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) (سورة ص: 4) .، وقوله تعالى:)وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) (سورة الحجر: 6) . ولقد قص الله علينا في كتابه هؤلاء السفهاء الذين سخروا من سيد الخلق (ص)، يقول تعالى:)إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) (سورة المطففين:29 ـ 33) .

ويقول رب العزة (تبارك وتعالى) واصفاً هؤلاء المستهزئين حينما بثوا دعاياتهم وافتراءاتهم الكاذبة عن رسول الله (ص)، وحول ذاته وشخصه:) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) (سورة الفرقان:4 ـ 5) .

ولأن طبيعة العهد المكي اتسمت بالجدلية المطلقة في أحداثها، ولأن الرسالة المحمدية جاءت لتحرك الراكد والثابت الأسن، فإن أهل مكة ـ أنفسهم ـ احتاروا وهم يحاولون تشويه صورة رسول الله (ص) وإيذاءه بالقول، فنجد مثلاً الوليد بن المغيرة وهو من زعماء قريش يقول عن رسول الله (ص) قولا نذكر منه: " والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لغدق، وإن فرعه، لجنى، فما أنتم بقائلين شيئاً من هذا إلا عرف أنه باطل " .

والذي لا يدع مجالاً للشك، أن سخرية قريش والطعن في النبي (ص) قد أثرت في النبي كما قال الله تعالى)وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) (سورة الحجر:97)، لكن الله تعالى لم يتركه، بل قدم له الحل والعلاج القرآني الرباني السريع، يقول تعالى:)فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) (سورة الحجر:98 ـ99) .

ولعل أبرز الأساليب التي واجه بها مشركو مكة رسول الله (ص) ومن اتبعه التعذيب والتنكيل، والناظر لهذا الأسلوب يدرك أن من يستخدم القوة في مواجهة الكلمة والدعوة لهو من أضعف الناس عللا الإطلاق، ودليل دامغ على ضعف الحجة، وقلة الإدراك.

وكلنا يعلم كيف عُذب بلال بن رباح (رضي الله عنه) في سبيل الإسلام، وكيف كان أمية بن خلف يجعل في عنقه حبلاً ويدفعه إلى الصغار يلعبون ويلهون به، ثم يأمر بالصخرة الكبيرة فتوضع على صدره، ثم يقول: " لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى، فيقول: أحدٌ أحدٌ" . حتى عثمان بن عفان (رضي الله عنه) لم يسلم من التعذيب والإيذاء، فكان عمه يلفه في حصير من ورق النخيل ثم يدخنه من تحته .

ولم تهدأ قريش بعد قريش في ابتداع أساليب لمواجهة دعوة محمد (ص) ولعل بعض كتب السيرة النبوية في سياقيها التاريخي تفغل ذكر سلاح المرأة الذي استخدمه مشركو مكة في حربهم ضد الرسول (ص)، ولعل تغافل بعض كتاب السيرة لذكر هذا أعطى المستشرقين وأنصارهم فرصة القنص والطعن من رسول الله (ص) أكرم الخلق وسيد المرسلين، فها هي قريش تعرض على رسول الله (ص) نساءها، يختار عشراً منهن ؛ أجملهن وأحسنهن يكن زوجات له.

وما أصلب رسول الله (ص) الذي أدعى وافترى عليه المستشرقون ومن والاهم بأن أكرم الخلق راغب في النساء ودليلهم الباطل كثرة أزواجه، بالرغم من أن زيجاته جميعهن لعللٍ وأسباب، فرفض رسول الله (ص) عرض قريش المُغري يوم قال له عمه أبو طالب: " يا بن أخي، إن قومك قد جاؤوني، فقالوا لي كذا وكذا، فابق عليَّ وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق " . فظن رسول الله (ص) أنه قد بدا لعمه فيه بداء أنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه .

فقال له رسول الله (ص): " يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته" .

ويعد الصبر من أعظم الفرائض إشارة إلى قول الله تعالى في سورة النحل: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)، والصبر إذعان لله وحكمه وقضائه وحكته في تصريف وتدبير المقادير، يقول المولى تبارك وتعالى: (واصبر لحكم ربك) فقلد أمرنا الله ـ عز وجل ـ بالصبر لحكمه . والصبر لا جزاء له سوى الفلاح ونيل المقاصد التي ارتضاها الله لعبده باعتبار أن الصبر شرط رئيس من شرائط الإيمان التي يرفع الله بها درجات العبد في الجنة، يقول تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)، وعلم العبد ويقينه بأن صبره على البلاء والابتلاء وتصاريف القدر هو برزخ يعبره المرء تحقيقاً لغاية كبيرة هي الفوز برضا الله عنه.

والصبر أنواع وصنوف منها الصبر لله في مقام حق اليقين لقول الله تبارك وتعالى: (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا)وفي هذه الآية الكريمة وجوب للصب لحكم الله تعالى، ومنها أيضاً الصبر بالله على تحمل أعباء الرسالة والمهمة كقوله تعالى: (واصبر وما صبرك إلا بالله)، ومن أبرز وأحكم أنواع الصبر،  الصبر في الله، فمن صبر في الله ومعه كان معه وفي معيته ورعايته التي لا تنقضي، يقول تعالى: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه)، ويقول تعالى أحكم الحاكمين: (إن الله مع الصابرين) . ويرى أبو الحسن الماوردي أن الصبر على امتثال ما أمر الله به تعالى والانتهاء عما نهى عنه من أرفع درجات ومقامات الصبر ؛ لأن به تخص الطاعة، وبخلوص الطاعة يصح الدين وتؤدى الفروض ويُستحق الثواب .

ومن صبر لله ثبته وقوى عزيمته وسدد خطاه وتفكيره إلى الصواب بغير لغط أو جنوح، ومن الصبر السلبي صبر عن الله وهو صبر أهل الجهل الذين باعدهم الله عن السعادة في الدنيا والآخرة، وهذا الصنف من الصبر هو ابتعاد عن الله ورحمته وغفلة واضحة بحقيقة التوحيد والربوبية، وغفلة عن العبر والدروس التي ينبغي للمرء أن يعيها من أموره وأحواله . ويمثل الصبر عن الله عجلة وتسرعاً من المرء عن حكمة الله وفرجه القريب . والصبر أدب للنفس وترويض لها، ومن حسن التوفيق وأمارات السعدة الصبر على الملمات والمصائب وكوادر النفس والقلب معاً، وفي آثار السلف " من خير خلالك الصبر على اختلالك" .

وهناك صبر يلجأ إليه العبد فيما يخشى حدوثه،من رهبة يخشاها العبد، أو يحذر حلولها من نكبة يخشاها، وعلى العبد ألا يتعجل هماً ما لم يأت بعد، فإن أكثر الهموم كاذبة، وأن الأغلب من الخوف مدفوع. وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: " بالصبر يتوقع الفرج، ومن يدمن قرع باب يلج" . وقال الحسن البصري: " لا تحملن على يومك هم غدك فحسب كل يوم همه " .

والصبر الذي نرجوه هو في حقيقته ثبات وعزيمة وقوة حيث يجاهد المرء نفسه ورغباته وشهواته، وهو قرب من طاعة الله تبارك وتعالى وسنة نبيه (صلى الله عليه وسلم)، وتدريب حقيقي شاهد على تحمل القضاء لحكم الله مصاحب بالرضا والقنوع واليقين برحمة الله .وما أجمل أن يجعل الله عز وجل الصابرين أئمة للمتقين الصالحين القانتين، حيث يقول الله تبارك وتعالى: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) . والجزاء عظيم لمن صبر وارتضى بالقضاء الإلهي، يقول تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) .

ويشير الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) إلى شمائل الصبر بقوله: " بني الإسلام على أربع دعائم: على اليقين والصبر والجهاد والعدل)، وقال رضي الله عنه: " الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ولا جسد لمن لا رأس له، ولا إيمان لمن لا رأس له " . وقال أيضاً: " الصبر مطية لا تكبو، والقناعة سيف لا ينبو" .   والفاروق عمر (رضي الله عنه) يشدد على التمسك بفضيلة الصبر حيث يقول: " نعم العدلان، ونعمت العلاوة للصابرين "، ويعني بالعدلين الصبر والرحمة، وبالعلاوة الهدى . وقال: " لو أن الصبر والشكر بعيران ما باليت أيهما ركبت" . ورسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم) جعل الصابرين خواص الصادقين، ففي حديث عطاء عن ابن عباس (رضي الله عنه) لما دخل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على الأنصار فقال: " مؤمنون أنتم؟ فسكتوا، فقال عمر (رضي الله عنه): نعم، قال: وما علامة إيمانكم؟ قال: نشكر في الرخاء، ونصبر على البلاء، ونرضى بالقضاء، فقال (صلى الله عليه وسلم): مؤمنون ورب الكعبة" .

والصبر عند أهل التصوف مقامات وأحوال، فصاحب الحياء يلتزم بخصال الإحسان وهو صابر، فيصبر عن معصية الخالق حياء من ربه، والصابر عن المعصية حياءً أكمل من الصابر عنها خوفاً، لأن صاحب الحياء في مراقبة دائمة، أما صاحب الخوف فهو في مقام مجاهدة .

(2) رحلة الإسراء والمعراج:

يذكر رفاعة رافع الطهطاوي في كتابه " سيرة الرسول وتأسيس الدولة الإسلامية " أنه لما بلغ رسول الله (ص) إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر، قبل الهجرة بسنة، أسري به من حجر مكة المعظم ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وهو أول القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين، لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تنعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه، فقد روى أبو هريرة (رضي الله عنه)، عن النبي (ص) قال: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى " .

ثم عرج به من المسجد الأقصى، إلى السماوات العلى، إلى سدرة المنتهى، إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام، وكما يوضح الدكتور محمد عمارة معنى العبارة صريف الأقلام أي صريرها وصوتها .

ولم يرد في أحاديث المعراج الثابتة أن الرسول (ص) عُرج به إلى العرش تلك الليلة، بل لم يرد في حديث أن النبي (ص) جاوز سدرة المنتهى، بل انتهى إليها ـ والله أعلم ـ، وقد سئل الشيخ رضي الدين القزويني (رحمه الله) عن وطء النبي (ص) العرش بنعله، وقول الرب (جل جلاله):لقد شرف العرش بنعلك يا محمد، هل ثبت ذلك أم لا؟ فأجاب بما نصه: " أما حديث وطء النبي (ص) العرش فليس بصحيح، وليس بثابت، بل وصول النبي (ص) ذروة العرش لم يثبت في خبر صحيح ولا حسن ولا ثابت أصلاً، وإنما صح في الإخبار انتهاؤه إلبى سدرة المنتهى فحسب، وأما إلى ما ورائها فلم يصح، وإنما ورد ذلك في أخبار ضعيفة أو منكرة " .

ورحلة الإسراء والمعراج معروفة ومعلومة، رواها النبي (ص) بنفسه كما رواها البخاري ومسلم، فقال  (ص): " بينما أنا في الحطيم مضطجع، إذ أتاني آت، فسمعته، يقول: " فشق ما بين هذه إلى هذه "، يعني من ثغرة نحره إلى عانته، " فاستخرج قلبي، ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة حكمة وإيماناً، فغسل قلبي، ثم حشى "، والحديث فيه اختصار، والأصل: فاستخرج قلبه، ثم شق، واستخرج منه علقة، وقيل هذا حظ الشيطان منك، ثم غسل بماء زمزم . وقد اختلف في تفسير الحكمة فقيل: هي العلم المشتمل على معرفة الله تعالى مع نقاء البصيرة وتهذيب النفس وتحقيق الحق للعمل به والكف عن ضده، والحكيم من حاز ذلك .  وحديث الإسراء حديث يطول في بعض كتب السيرة، ولكن الذي يعنينا ونحن بصدد هذه الحادثة الفريدة أن كل هذه الأمور يجب الإيمان بها وتصديقها .

ولقد اختلف في صلاته (ص) ليلة الإسراء بالأنبياء ؛ قيل قبل عروجه، وقيل بعده، والأول استظهره ابن حجر، وصح الثاني ابن كثير، واختلف في هل كانت بالفاتحة أو بغيرها؟، كما اختلف في طبيعتها، فقيل إنها الصلاة اللغوية أي الدعاء والذكر، وقيل الصلاة المعهودة، وهذا أصح، لأنه كما يذكر رفاعة رافع الطهطاوي من أن اللفظ يحمل على الحقيقة الشرعية قبل اللغوية، وإنما يحمل على اللغوية إذا تعذر حمله على الشرعية، ولم يتعذر هنا، فوجب الحمل على على الصلاة الشرعية .

ومن الأمور التي منَّ الله بها على نبيه وعلينا أجمعين فرض الصلاة، وفرض الله عليه وعلى أمة الإسلام تلك الليلة كل يوم وليلة خمسين صلاة في أول الأمر، فما زال يراجع حتى صارت خمساً في الفعل، وخمسين في الأجر وتلك رحمة من الله وفضل كبير .

والحكمة من تخصيص فرض الصلاة بليلة الإسراء أن الرسول (ص) لما عرج به إلى السماء رأى تلك الليلة تعبد الملائكة، منهم القائم فلا يقعد، والراكع فلا يسجد، والساجد فلا يقعد، فجمع الله تعالى ولأمته تلك العبادات في ركعة واحدة يصليها العبد بشرائطها من الطمأنينة والإخلاص، وفي اختصاص فرضها في السماء، دون سائر الشرائع فإنها فرضت في الأرض، التنبيه على مزيتها على غيرها من الفرائض .

وكما يذكر السهيلي في التنبيه على فضلها، حيث لم تفرض إلا في الحضرة المقدسة المطهرة، ولذلك كانت الطهارة من شأنها ومن شرائطها، والتنبيه على أنها مناجاة بين العبد وربه عز وجل .

جدل حول رحلة الإسراء والمعراج:

من الوقائع التي أخذت حظاً عظيماً من الجدل من بين وقائع السيرة النبوية، حادثة الإسراء والمعراج، وما إن تلتقط كتاباً واحداً من كتب السيرة النبوية إلا وتجده يفرد صفحات لهذا الجدل، والذي يمكننا أن نختصره في أمرين فقط ؛ أما الأول فهو إخبار النبي (ص) لقريش ما رأى، فلما أصبح النبي (ص)قص على قريش ما حدث له وما رآه، فقال له المطعم بن عدي: " كل أمرك قبل اليوم كان أمما، أنا أشهد أنك كاذب، نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس، مصعداَ شهراً، ومنحدراً شهراً تزعم أنت أنك أتيته في ليلة ! واللات والعزى لا أصدقك ! فقال أبو بكر (رضي الله عنه): يا مطعم، بئس ما قلت لابن أخيك، جبهته، وكذبته، وأنا أشهد أنه صادق " . فقالوا له: " صف لنا يا محمد بيت المقدس، كيف بناؤه؟ وكيف هيأته؟؟ وكيف قربه من الجبل  "، وفي القوم من سافر إليه، فذهب ينعت لهم: " بناؤه كذا، وهيأته كذا، وقربه من الجبل كذا، وسألوه أمارة، فأخبرهم بالعير، وأنهم يقدمون الأربعاء . فلما كان ذلك اليوم لم يقدموا حتى كادت الشمس أن تغرب .

فدعا الله فحبس الشمس، وقيل وقوفها عن السير، وقيل بطء حركتها، وكان كما وصف رسول الله (ص) فما زال ينعت لهم حتى التبس عليه النعت، فكرب كرباً ما كرب مثله، فجئ بالمسجد الأقصى وهو ينظر إليه حتى وضع دون دار عقيل أو عقال، فقالوا له: كم للمسجد من باب؟، ولم يكن عدها، فجعل ينظر إليها ويعدها باباً باباً، وأبو بكر (رضي الله عنه) يقول: " صدقت، صدقت، أشهد أنك رسول الله "، فقال القوم: أما النعت فوالله لقد أصاب ! " . ثم قالوا لأبي بكر: أتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس، وجاء قبل أن يصبح؟ قال: " نعم، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة "، فلذلك سمي أبو بكر الصديق .

الحكمة من الإسراء إلى المسجد الأقصى:

يذكر رفاعة رافع الطهطاوي أن الحكمة من تخصيص الإسراء إلى المسجد الأقصى أن قريشاً تعرفه، فيسألونه عنه، فيخبرهم بما يعرفونه، مع علمهم أن رسول الله (ص) لم يدخل بيت المقدس قط، فتقوم الحجة عليهم، وكذلك وقع .

وإذا كان جدل قريش مع النبي وصاحبه قد انتهى، فسرعان ما بدأ جدل آخر في كتابات المؤرخين أنفسهم حول كيفية الإسراء، ولقد اختلف المؤرخون وكتاب السيرة في كيفيته، وأغلب المفسرين والمؤرخين أجمعوا على أن الإسراء كان بالجسد، والأقلية هي التي قالت إنما كان بالروح فقط . وهناك رأي ثالث مفاده أن الإسراء كان بالجسد إلى بيت المقدس، وبالروح من بيت المقدس إلى السماوات السبع، والصحيح عند الجمهور أن الإسراء والمعراج كانا يقظة لا رؤيا، والرؤيا هي ما أفاد به كل من حذيفة وعائشة ومعاوية (رضي الله عنهم) .

الأحاديث النبوية الواردة في الإسراء والمعراج:

روى البخاري ومسلم بسندهما عن أنس بن مالك أَنَّ رَسُولَ اللّهِ (ص) قَالَ: «أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ (وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ. يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَىٰ طَرْفِهِ) قَالَ، فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ. قَالَ، فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الأَنْبِيَاءُ. ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ. ثُمَّ خَرَجْتُ. فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ. فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ. فَقَالَ جِبْرِيلُ: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ" (صحيح مسلم، باب الإسراء برسول الله السموات وفرض الصلوات، (2/ 170)، برقم 356) .

وروى البخاري ومسلم والترمذي وأحمد وابن حبان بسندهم عن مالك بن صعصعة "أنَّ نبيَّ اللّهِ(ص)  حدَّثه عن ليلةِ أُسري به قال: بينما أن في الحَطيم ـ وربما قال في الحِجر ـ مضطجعاً، إِذ أتاني آتٍ فقَدَّ ـ قال: وسمعته يقول: فشقَّ ـ ما بين هذه إلى هذه، فقلتُ للجارودِ وهوَ إلى جَنبي: ما يَعني به؟ قال: من ثُغرةِ نحرهٍ إلى شِعرَته ـ وسمعتهُ يقول من قَصَّهِ إلى شِعرته ـ فاستخرج قلبي، ثمَّ أُتيتُ بطَسْتٍ من ذَهبٍ مملوءةٍ إيماناً، فغُسِل قلبي، ثم حُشي، ثمَّ أُعِيدَ، ثمَّ أتيتُ بدابَّة دُونَ البَغلِ وفوقَ الحمار أبيضَ. ـ فقال له الجارودُ: هوَ البُراقُ يا أبا حمزةَ؟ قال أنسٌ: نعم ـ يَضَعُ خَطوَةُ عندَ أقصى طرْفهِ، فحُملتُ عليه، فانطلَقَ بي جِبريلُ حتى أتى السماءَ الدُّنيا فاستفتَح، فقيل: مَن هذا؟ قال: جِبريل. قيلَ: ومَن معك؟ قال: محمد. قيلَ: وقد أرسِلَ إِليه؟ قال: نعم. قيل: مَرحباً به، فنِعمَ المجيءُ جاء. ففَتَح. فلما خَلَصتُ فإذا فيها آدمُ، فقال: هذا أبوك آدمُ، فسلمْ عليه. فسلمتُ عليه، فرَدَّ السلامَ ثم قال: مَرحَباً بالابنِ الصالح والنبيِّ الصالح. ثم صَعِدَ بي حتى أتى السماء الثانيةَ فاستفتحَ. قيل: مَن هذا؟ قال: جبريلُ، قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أُرسِلَ إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحباً بهِ، فنعمَ المجيء جاء. ففَتَح. فلما خَلَصْتُ إذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة. قال: هذا يحيى وعيسى فسلمْ عليهما، فسلمتُ، فردّا، ثم قالا: مرحباً بالأخ الصالح والنبيِّ الصالح. ثمَّ صعد بي إلى السماءِ الثالثة فاستَفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أُرسلَ إليهِ؟ قال: نعم. قيل: مرَحباً به فنعمَ المجيء جاء. ففُتح، فلما خَلصتُ إذا يوسُف، قال: هذا يوسُف فسلمْ عليه، فسلمتُ عليه، فردَّ ثمَّ قال: مَرحباً بالأخ الصالح والنبيِّ الصالح، ثم صعِدَ بي حتى أتى السماء الرابعة فاستَفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومَن معك؟ قال: محمد. قيل: أوَقد أرسِلَ إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به فنعمَ المجيء جاء. ففتح. فلما خلصتُ فإذا إدريس، قال: هذا إدريسُ فسلم عليه، فسلمتُ عليه، فردَّ ثم قال: مَرحباً بالأخ الصالح والنبيِّ الصالح. ثم صعِدَ بي حتى أتى السماء الخامسة فاستَفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم. قيل: وقد أُرسلَ إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به فنعمَ المجيء جاء. فلما خلصتُ فإذا هارونُ. قال: هذا هارونُ فسلمْ عليه، فسلمتُ عليه، فردَّ ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبيِّ الصالح. ثم صعِدَ بي حتى أتى السماء السادسة فاستَفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: من معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسِلَ إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به، فنعم المجيء جاء. فلما خلصتُ فإذا موسى، قال: هذا موسى فسلمْ عليه، فسلمتُ عليه، فردَّ ثمَّ قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبيِّ الصالح. فلما تجاوَزتُ بكى. قيلَ له: ما يُبكيك؟ قال: أبكي لأنَّ غُلاماً بُعثَ بعدي يدخُلُ الجنةِ من أمَّتهِ أكثرُ ممن يدخُلها من أمَّتي. ثم صَعِدَ بي إلى السماء السابعة، فاستَفتحَ جبريل، قيل: مَن هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بُعثَ إليه؟ قال: نعم. قال: مرحباً به، ونعمَ المجيء جاء. فلما خلصتُ فإذا إبراهيم، قال: هذا أبوك فسلمْ عليه. قال فسلمتُ عليه، فردَّ السلام، ثمَّ قال: مرحباً بالابنِ الصالح والنبيِّ الصالح. ثم رُفعَت لي سِدرةُ المنتهى، فإذا نَبقُها مثلُ قِلالِ هَجَر، وإذا وَرقُها مثلُ آذانِ الفِيَلة. قال: هذه سِدرة المنتهى، وإذا أربعةُ أنهارٍ: نهران باطنان ونهرانِ ظاهران. فقلتُ: ما هذانِ يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهرانِ في الجنة، وأما الظاهرانِ فالنيلُ والفُرات. ثم رُفعَ لي البيتُ المعمور. ثمَّ أُتيتُ بإناءٍ من خَمر وإناءٍ من لَبَن وإناءٍ من عِسل، فأخذتُ اللبَن، فقال: هيَ الفِطرةُ التي أنت عليها وأمَّتُك. ثمَّ فُرِضت عليَّ الصلاةُ خمسينَ صلاةً كلَّ يوم، فرجَعْتُ فمرَرْتُ على موسى، فقال: بما أمِرت؟ قال: أمِرتُ بخمسينَ صلاةً كل يوم، قال: إن أمتكَ لا تَستطيعُ خمسينَ صلاةً كل يوم، وإني واللّه قد جربتُ الناسَ قبلك، وعالجتُ بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجعْ إلى ربِّك فاسأَلْهُ التخفيفَ لأمتك، فرجَعت، فوضعَ عني عَشراً، فرجَعتُ إلى موسى فقال مثله. فرجعتُ فوَضع عني عَشراً، فرجعتُ إلى موسى فقال مثله. فرجعت فوَضَعَ عني عشراً، فرجعت إلى موسى فقال مثله. فرجعتُ فأمِرتُ بعَشرِ صلوات كلَّ يوم، فرجعتُ فقال مثله. فرجعتُ فأمِرتُ بخمس صلواتٍ كل يوم، فرجعتُ إلى موسى فقال: بما أمِرتَ؟ قلت: أمِرتُ بخمسِ صلوات كل يوم. قال: إن أمتكَ لا تستطيعُ خمسَ صلواتٍ كل يوم، وإني قد جَريتُ الناسَ قبلك، وعالجتُ بني إسرائيلَ أشد المعالجة، فارجعْ إلى ربِّكَ فاسألهُ التخفيف لأمتك. قال: سألتُ رَبي حتى استحيَيتُ، ولكن أرضى وأسلم. قال: فلما جاوَزت نادَى مُنادٍ: أمضَيتُ فريضتي، وخَفَّفت عن عبادي».(صحيح البخاري، باب المعراج، (7/600)، برقم 3800).

 

الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

ـ أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية (م).

ـ كلية التربية ـ جامعة المنيا ـ مصر

 

 

في المثقف اليوم