دراسات وبحوث

الأوبئة وسؤال الهوية الأخلاقية (1)

الأحداث الكبيرة التي تقع في العالم وتتوحد آثارها على البشرية جمعاء عادة ما تثير تساؤلات جدلية فكرية ومعرفية، خاصة مع رصد ردود الأفعال المختلفة من قبل الشعوب، ومقارنة ردود الأفعال مع حضارة كل أمة ومنظومتها القيمية ومرجعيتها المعيارية التي تحقق لها الضبط الاجتماعي والاستقرار الأمني والاقتصادي، وبالتالي تحقق لها الرفاه.

وفي حدث كحدث فيروس كورونا بشكل خاص والأوبئة بشكل عام، ظهرت عدة تساؤلات معرفية حفزتها سلوكيات مهمة للأنظمة الغربية وشعوبها، جاءت كمواقف وردود فعل على هذه الجائحة التي كشفت جوائحهم العديدة.

وقد عبر كثير من الفلاسفة والمفكرين الغربيين عن آرائهم فيما وقع من ردود فعل لمواجهة جائحة كورونا. نستعرض هنا بعضها كمدخل لموضوع الورقة.

ففي مقابلة مع أسبوعية "لوبوان" الفرنسية، ندد الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفراى "بانعدام كفاءة القادة الأوروبيين واستهتارهم في مواجهة التفشي الخطير لوباء كورونا؛ معتبرا أن أوروبا أضحت "العالم الثالث الجديد"، في توصيف عنصري إقصائي منه لبقعة جغرافية كبيرة، اتسمت بعض دولها بدرجة عالية من المسؤولية في إدارتها المبكرة لأزمة كورونا، كما في الكويت مثلا، بل تداعت أحزاب بطريقة حضارية وإنسانية عالية الحس في مواجهة هذه الجائحة، ولم تدر هذه الدول ظهرها لكبار السن والضعفاء ليواجهوا الموت، بل قدمت لهم العلاج دون تمييز على أساس الفئات العمرية أو الطبقات الاجتماعية.  وقد وصف ميشال أونفراي بنفسه آثار السياسة الليبرالية الأوروبية ونتيجتها التي تمثلت بترك كبار السن المصابين بفيروس كورونا عند مدخل المستشفى ليموتوا في ركنهم، بزعم أن فرص نجاتهم كانت ضعيفة مقارنة بأولئك الأصغر سنا! وهو ما لم يحدث أبدا في العالم الثالث كما وصفه أونفراى.

ويقول في اللقاء: أن أوروبا المسترخية التي تم تقديمها على مدار ربع قرن على أنها وحش اقتصادي من المحتمل أن يتصدى للإمبراطوريات الكبرى في العالم، ها هي اليوم تسقط في هذا الأمر: عاجزة عن صنع وتوفير الكمامات للأطباء والممرضين.. مبينا أن الفيروس غير موجود بشكل مستقل عن الاقتصاد، ففي اقتصاد العولمة، جعلت الطريقة الليبرالية المستريخية (نسبة إلي اتفاقية ماستريخت[1] الأوروبية) من الربح الأفق الذي لا يمكن تجاوزه في جميع السياسات؛ فمثلا:

كمامات وتخزينها؟ أمر غير مربح.. والاستثمار في البحث؟ ليس بالأمر المربح على الفور. التوفر على خدمة طبية فعالة للجميع؟ ليس أيضا بالأمر المربح، بل يجب ترك الخدمة الطبية الجيدة للأغنياء الذين يستطيعون تحمل مصاريفها. حسب قوله[2].

أما الفيلسوف وعالم الاجتماع المعاصر إدغار موران فقال: تبين لنا هذه الأزمة (ويقصد فيروس كورونا) أن العولمة هي الاعتماد المتبادل دون تضامن. لقد أنتجت حركة العولمة بالتأكيد التوحيد التقني والاقتصادي للكوكب، لكنها لم تعزز التفاهم بين الشعوب، ويضيف قائلا: يخبرنا الفيروس بقوة أن البشرية كلها يجب أن تبحث عن مسار جديد يتخلى عن العقيدة النيوليبرالية من أجل سياسة مضادة للأزمة (NEW DEAL) اجتماعية وبيئية. إن المسار الجديد سيحمي ويعزز الخدمات العامة مثل المستشفيات التي عانت من تخفيضات مجنونة في أوروبا لسنوات. سوف يصحح المسار الجديد آثار العولمة من خلال إنشاء مناطق متحررة من العولمة، من شأنها حماية استقلالات ذاتية أساسية كالاكتفاء الذاتي من الغذاء، الاستقلالية الصحية... وقال نحن في مجتمع حيث تدهورت هياكل التضامن التقليدية. إحدى المشاكل الكبيرة هي استعادة التضامن، بين الجيران، وبين العمال، وبين المواطنين. مع القيود التي نمر بها، سيتم تعزيز التضامن بين الآباء والأطفال الذين لم يعودوا في المدرسة، وبين الجيران.. إمكانياتنا الاستهلاكية سوف يتم ضربها، ويجب علينا الاستفادة من هذا الوضع لإعادة التكفير في النزعة الاستهلاكية، وبعبارة أخرى الإدمان، و" الاستهلاك المخدِّر، وفي تسممنا بالمنتجات دون فائدة حقيقية، ومن تخلصنا من الكم لصالح الكيف... يمكننا أن نستعيد ذواتنا، ونرى احتياجاتنا الأساسية، أي الحب والصداقة والحنان والتضامن وشعرية الحياة.. الحجز يساعدنا على البدء في تطهير طريقة حياتنا، وفهم أن العيش بشكل جيد هو تحقيق إمكانات "الأنا"، ولكن دائما داخل مختلف " النحن"... علينا أن نستعيد التضامن الوطني، غير المنغلق والأناني، بل المنفتح على المصير المشترك "الأرضي".. فالتضامن الوطني ضروري، ولكن إذا لم نفهم أننا بحاجة إلى وعي مشترك بمصير الإنسان، إذا لم نتقدم في التضامن، وإذا لم نغير التفكير السياسي، فإن أزمة الإنسانية ستسوء أكثر.[3]

أما الفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيه فيعتبر أن أزمة فيروس كورونا جعلتنا في سيرورة يقظة، وقال سنرى في الأسابيع المقبلة إلى أي مدى ستتقلص الفجوة بين الفرد والجماعة أو تصبح أكثر اتساعا. نحن نعيش اختبارا سياسيا حقيقيا واسع النطاق. هل تمكن البعد الفرداني الليبرالي والخاص من السيطرة بشكل كامل في مجتمعاتنا أم لا؟.. في المملكة المتحدة، تبنى بوريس جونسون بشكل علني استراتيجية "الحصانة الجماعية" أو مناعة القطيع "Herd Immunity" من خلال عدم حجز السكان وإعلان أن عددا كبيرا من الأشخاص الضعفاء أو المسنين سيموتون. يتوافق هذا الموقف القائم علي الاستهتار البراغماتي " Cynism pragmatique" مع نوع من التقاليد الإنجليزية. فهو ينطلق من افتراض أن الثمن الذي يجب دفعه، اقتصاديا واجتماعيا، للاحتجاز باهظ للغاية وأن المرض ليس في حد ذاته خطيرا للغاية بالنسبة للعدد الأكبر من السكان، وبالتالي فمن الضروري تحمل "الضرر الجانبي". فأمام التوصيات التي قدمتها الحكومة البريطانية نجد أنفسنا أمام خيار ليبرالي للغاية: بشكل فردي، أنت تفعل ما تريد، حتى إذا تم نصحك بالبقاء في المنزل، لكن بشكل جماعي، لا نأخذ تدابير سلطوية قاهرة. إن الحرية والمسؤولية الفردية هي التي لها الغلبة[4]. وقد تراجع جونسون رئيس الوزراء البريطاني عن هذه السياسة الصحية في مواجهة فيروس كورونا تحت ضغط الرأي العام الناقد، وبعد أن قامت جامعات عريقة في بريطانيا بتقديم دراسات علمية معمقة تنقض مبدأ "مناعة القطيع".

أما جوزيف ناي مساعد وزير الدفاع للشؤون الأمنية الدولية في حكومة بيل كلينتون، وصاحب نظرية القوة الناعمة فصرح في مقال له قائلا: أن ما أعلنه الرئيس دونالد ترامب حول الاستراتيجية الأمنية الوطنية والتي تركز على التنافس مع روسيا والصين على القوة الأعظم، على مستوى التطبيق اليوم لم يعد ملائما. ف Covid-19 وهو الاسم العلمي لفيروس كورونا، أظهر أن هذه الاستراتيجية غير ملائمة اليوم. فمبدأ التنافس وأمريكا أولا لم يعد اليوم كافيا كاستراتيجية لحماية الولايات المتحدة الأمريكية. بل التعاون القريب مع كل من الحلفاء والخصماء أيضا يعد أساسي في أمن أمريكا.... وأضاف حتى لو كانت الولايات المتحدة هي من تتسيد صراع القوى التقليدي اليوم، إلا أنها غير قادرة على حماية أمنها بمفردها. واعتبر أن على الولايات المتحدة الأمريكية أن تستخدم قوتها الناعمة الجاذبة لتطوير شبكة مؤسسات تأخذ في حسبانها التهديدات الجديدة الرئيسية، التي تبدأ من الأدوية إلى الأمراض المعدية، إلى الإرهاب السيبيري. واعتبر أن الاستراتيجية الأمنية الوطنية يجب أن تبدأ من حقيقة أن أمريكا أولا تعني أن عليها قيادة الجهود الرامية إلى مزيد من التعاون، خاصة في المشاكل التقليدية مع الحاجات والقضايا العامة، مثل الهواء النظيف، حيث يتشارك فيه الجميع ولا يمكن إقصاء أحد من تلك المشاركة. فلا الرسوم الجمركية ولا الحدود المغلقة يمكنها حل هذه المشاكل، فقيادة أمريكا مهمة لأن نجاح تأثيرها العالمي يتطلب التعاون مع الآخرين وليس التنافس والتنازع.

وفي التحولات المتمثلة بفيروس كورونا والتغيرات الجوية والبيئية، لا يكفي التفكير في قوة أمريكا هنا على حساب القوى الأخرى، بل يجب علينا التفكير بتجميع الطاقات وتكاملها لتترابط الأهداف، والتي تجمع قوتنا مع الآخرين، في أي قضايا عابرة للوطن، فإن تمكين الآخرين من مساعدتنا، لأجل أن تتكامل هذه القوى مع أهدافنا. فتستفيد الولايات المتحدة في حال زادت الصين من كفاءة طاقتها بتقليل انبعاث ثاني أكسيد الكربون، أو بتطوير نظام الرعاية الصحية العامة. في هذا العالم الشبكات المؤسسية والتواصل بينها هو مصدر مهم للمعلومات وللقوة الوطنية، والدول الأكثر تواصلا هي الدول الأكثر قوة[5].

وهنا يؤسس مجددا جوزيف ناي بل يوظف نظريته في القوة الناعمة على المنفعة المتبادلة التي تصب في صالح قوة الولايات المتحدة وقيادتها للعالم، فتعاونها ليس لأجل منفعة الآخرين، بل لأجل أمنها، وتدعيم قيادتها للعالم بما يعود عليها في المصلحة المعلوماتية، وكلامه كان بناء على تداعيات الانتشار الكبير لفيروس كورونا في أمريكا، والذي نتج عن إخفاء الصين في بداية تفشي المرض لمعلومات هامة عن المرض، والتي تأتي في سياق الصراع بين الصين وأمريكا، وهو ما كانت نتيجته تهديد الأمن القومي الأمريكي، فتبين له أن فيروس كورونا كشف هذه الثغرة في استراتيجية أمريكا الأمنية القومية، وأن البديل هو أن تتكامل القوى العظمى في قيادة العالم، وتتوافق أهدافها لتكون المنفعة متبادلة.

ومما سبق يتضح السؤال الهام حول الهوية الأخلاقية التي تقود العالم، والتي كشفها انتشار فيروس كورونا Covid-19، وأهمية تسليط الضوء على تساؤلات مهمة ومنها:

ماهي المرجعية المعيارية في تحديد منظومة القيم والأخلاق التي يجب أن تقود العالم والدول والمجتمعات، والتي تتجلى تداعياتها في الأزمات؟ وهل القانون وحده أثبت ناجعيته في الضبط الأخلاقي للفرد والمجتمعات والدول؟ وحينما تتزاحم المصلحة العامة مع المصلحة الذاتية أيهما يقدم وما هي المعايير في تشخيص ذلك؟ وأسئلة أخرى تتعلق بمنظومة القيم والمعايير التي تشكل الهوية الأخلاقية نحاول فيما يلي في هذه الورقة المفتاحية عمل إطلالة عليها.

يتشكل الدافع وفقا لبنية الإنسان الفكرية والمعرفية، لذلك تتفاوت دوافع البشر في شدتها وضعفها وقوتها وعمقها وفاعليتها، بناء على الاختلاف الكبير في البنية الفكرية والمعرفية. ولكن ما هي محفزات الدافعية لدى الإنسان ونشوء الإرادة والدافعية نحو الهدف؟

فالإنسان بذاته يشترك مع الآخرين بوجود الدوافع التي تحرك إرادته نحو الفعل أو الهدف الذي أثار عنده دافع الحركة لتحقيقه، والهدف عادة مرتبط بمصلحة الإنسان، أي أن الإنسان عادة ما يرتبط بأهداف تحقق له مصالحه الذاتية، والتي تكون سببا في تحريك إرادته نحو العمل لتحقيق هذه الأهداف وبالتالي تحقيق المنفعة والمصلحة. ولكن هناك فرق كبير بين المنفعة والمصلحة، فالأولى ترعي الربح الشخصي، وهنا قد تتعارض الضوابط والقوانين مع هذا الربح الشخصي، فتتقاطع المنفعة مع القانون مثلا، ومع الضوابط الأخلاقية والقيمية، ويعتمد هنا التزام الشخص بالقانون والضوابط، على مرجعيته المعرفية وقاعدته الفلسفية ورؤيته الكونية، فإن كان لا يرى وجود قدرة غيبية تحكم الكون "الله"، وامتلك قوة وسلطة ونفوذ، فهنا يحقق منفعته حتى لو تقاطعت مع القواعد الأخلاقية والقيمية، أما لو كان يخضع في رؤيته لوجود قدرة غيبية قاهرة فإنه سيتجاوز عن منفعته ويتنازل عنها حتى لو امتلك القوة والسلطة في تجاوز الضوابط والقوانين.

أما المصلحة فهي تدور مدار الحقيقة، فالمصلحة والحقيقة توأمان لا ينفصلان، فالمصلحة تعني مراعاة الحقيقة وليس مراعاة الربح الشخصي[6]. فالشخص الذي يمتلك القوة والقدرة في مخالفة القانون، وفي مخالفة القواعد الأخلاقية ومعاييرها والمنظومة القيمية، ويستطيع تحقيق منفعته الخاصة، إلا أنه يدرك أن المصلحة العامة سواء كانت مرتبطة بخوفه من الله تعالى، وهنا تكون مصلحته الشخصية دون النظر لأي أمر آخر، فهو فقط يخشى عقاب الله فهنا دائرة المصلحة متعلقة بدائرة ضيقة من الحقيقة وهي دائرة النفس وعلاقتها مع الله، أو مرتبطة بخوفه من الله من جهة، وحرصه على حفظ النظام العام وحفظ الخيرية وعدم نقدها بتجاوز القانون والقيم والقواعد الأخلاقية لتشيع الفاحشة من جهة أخرى، وهنا المصلحة تتجاوز شخصه لتصبح متطلعة لمصلحة أكبر وأعم وتصبح المصلحة هنا مرتبطة بدائرة حقيقة أكبر وأوسع. فارتباط المصلحة بالحقيقة ارتباط رتبي تشكيكي (ذو مراتب متعددة ومتفاوتة). هذا الارتباط الرتبي يعتمد على دائرة وعي وإدراك الإنسان لله والكون والوجود والوظيفة. لذلك ارتباط المصلحة بالحقيقة يختلف من شخص إلى شخص، بينما المنفعة والتي تتعلق بالربح الذاتي قاعدة انطلاقها الأنا منفصلة غالبا عن الله، وغالبا تتقاطع مع المنظومة المعيارية القيمية والأخلاقية.

ولكن قد لا يؤمن الإنسان بوجود قدرة غيبية إلا أنه لا يتحدى أو يتقاطع في حركته مع المنظومة الأخلاقية والمعايير القيمية الناظمة، بل لا يتجاوز القانون رغم امتلاكه للقدرة والنفوذ والسلطة، فهو ناظر إلى المصلحة العامة في تحقيق النظم وعدم شياع الظلم والفوضى، وهو أيضا هنا ناظر لتحقيق راحة الضمير والوجدان الذي يمتلكه والقادر على فهم الواقع الأخلاق وتجلياته. وهو ما سنتطرق له في العناوين التالية.

حب الذات: اللذة، السعادة، الألم:

حب الذات، وأهمية هذا التأسيس الذي يكمن في سمة عامة عند كل البشر وفي فطرتهم وهي " حب الذات "، والذي يعتبر المحرك الرئيس والباعث الأساسي للدافع والإرادة، بل المؤثر الأول في السلوك الإنساني. فالإنسان كنوع يختص بميزات عن باقي المخلوقات، حيث يعيش جدلا داخليا وصراعا داخل ذاته نفسها، أي هو صراع داخلي يصفه بعض الباحثين بالجدال بين النفس والعقل أو بين الإرادة الأخلاقية وأهواء النفس أي ميولها الغرائزية غالبا.

وهذا الصراع موجود في الإنسان وليس في الحيوان، كون الحيوان يسير وفقا لغرائزه وممتثلا لها دون أدني إرادة، فالرغبة والغريزة تحكمه وهو ينفذ، بينما الإنسان يختلف بوجود قوى الإدراك والعقل والتي تحرك إرادته وحرية اختياره بين خيارات متعددة يميز بينها بإدراكه العقلي ثم يختار، وأحيانا تغلب رغباته وميوله الغرائزية إدراكه العقلي فيميل لما تمليه عليه غريزته.

وقد يكون مثال علاقة الطبيب مع المريض مثالا يوضح المعني المراد من هذا الكلام، فحينما يشخص الطبيب حالة المريض ويصف له دواء ومن ضمن ما يصفه هو حمايته من بعض الأطعمة التي تضر صحته، كنوع من العلاج مضموما لعلاجات الأدوية، يعيش المريض هنا صراعا داخليا، بين رغبته في هذه الأطعمة التي يحبها، وعدم حبه للدواء، وبين التزامه بتوصيات الطبيب التي تحسن من صحته العامة، فهو أمام خيارين يتصارع حولهما، خيار عدم الالتزام بكلام الطبيب وتحقيق رغبته في الطعام، بالتالي تدهور صحته، وتضرره ذاتيا من هذا القرار، وبين التزامه بكلام وتوصيات الطبيب، ومن ثم تحسن صحته وانتفاعه من هذا الالتزام. هذا النوع من الصراعات الإدراكية لا يعيشها الحيوان، وهي خاصة بالإنسان الذي يتميز بقواه العقلية والإدراكية، بالتالي يملك القدرة على الاختيار بين عدة خيارات.

فالإنسان له أبعاد غرائزية حيوانية، لكنه يتميز بامتلاك العقل والإدراك، الذي يمكنه من غلبة الغرائز وتوجيها وترشيدها بما يعود بالنفع المادي والمعنوي عليه، خاصة عندما يخوض صراعات بين هذه الغرائز وإرادته الأخلاقية.

إلا أن هناك رأيا آخرا يرى "أن الإنسان ليس كائن معرفة بقدر ما هو كائن رغبة"، وأن "ماهية الإنسان هي الرغبة"، وهذه الرغبة ليست منحصرة في مجال الحس الذي درجت عليه العادة اعتباره مصدرا للشر والعبودية، بحيث يتوجب قمعه بواسطة العقل والأخلاق، بل إن العقل نفسه ونظام الأفكار فيه ليس في آخر الأمر سوى نوازع جسدية. وبذلك يلغي هذا الرأي جوهرية النفس (النفس ليست جوهرا مستقلا ومتميزا إنما هي صوت الجسد وتعبيراته.. وفي هذا الرأي يقوم اسبينوزا بمماهاة خطرة بين الجسد والنفس وبين الرغبة والفكرة.

وهذا الجمع بين سجلين لا يمكن أن يجتمعا أبدا إلا إذا تخلينا في الوقت نفسه عن مبدأ المعقولية ومطلب الحرية. على اعتبار أن التصور الشائع للحرية يعني غياب الموانع والضرورات، وأن الأفعال الإنسانية تتأسس على إرادة إنسانية حرة في أن تفعل ما تشاء، ويتأسس هذا التصور كله على فكرة الثنائية للنفس والجسد، والقول بالثنائية يؤدي إلي علو النفس، وحرية الإرادة الإنسانية، إذ أن استقلالية النفس عن عالم المادية والضرورة يمكن من اعتبار الإرادة الإنسانية حرة.

وعلى ذلك أدى التجاوز السبينوزي لتلك الثنائية إلى نفي الحرية في معناها الشائع، من حيث أن الفعل الإنساني ليس ناتجا عن إرادة بقدر ما هو استتباع لهوى وميل جسدي. ويترتب على ذلك أن الحرية بالنسبة لسبينوزا لا تتمثل في كبح جماح الرغبات والميول الجسدية ).[7] فإخضاع الوجود الإنساني للسير الإجباري باتجاه رغباته دون أدنى إرادة ومقاومة، يغيب منه بعده الإنساني ويجعله أشبه ما يكون بالحيوان الخاضع لغرائزه.

لأن سبينوزا كان يعتبر فكرة أن للإنسان حرية إرادة فكرة باطلة ووهم، فالإنسان في نظر اسبينوزا آلة مفكرة تخضع تصرفاتها لنظام الكون الشامل، ولا يتمتع بإرادة حرة. وبالتالي هو يتكلم عن فكرة الجبر التي كانت تبرر الآثام والانحرافات في السلوك الإنساني، وتعتبرها خاضعة لنظام الكون. "وبذلك وفق اسبينوزا لا يمكن أن نفصل في إطار الوجود بين طبيعة الإنسان المادية التي يكون بمقتضاها خاضعا لضرورة الطبيعة وقوانينها الحتمية، وبين طبيعته الفكرية والروحية التي تعبر عن تعالي الإنسان عن كل ما يتعلق بالمادة، فتجد حريته وإرادته"[8].

تعريف الذات:

هو تكوين معرفي منظم ومتعلم للمدركات الشعورية والتصورات والتقييمات الخاصة بالذات، يبلوره الفرد، ويعتبره تعريفا نفسيا لذاته، ويتكون مفهوم الذات من أفكار الفرد الذاتية المنسقة المحددة الأبعاد عن العناصر المختلفة لكينونته الداخلية والخارجية. وتشمل هذه العناصر المدركات والتصورات التي تحدد خصائص الذات، كما تنعكس إجرائيا في وصف الفرد لذاته كما يتصورها هو " مفهوم الذات المدرك"، والمدركات والتصورات التي تحدد الصورة التي يعتقد إن الآخرين في المجتمع يتصورها، والتي يتمثلها الفرد من خلال التفاعل الاجتماعي مع الآخرين، " مفهوم الذات الاجتماعي"، والمدركات والتصورات التي تحدد الصورة المثالية للشخص الذي يود أن يكون. "مفهوم الذات المثالي"[9].

وتعريف آخر يقول: الصورة التي يعرف الإنسان نفسه بها. هي الإطار الذي يستطيع الإنسان أن يطبع نفسه بها، بحيث يكون ملما بما في نفسه، وهذه المعلومات التي يتوصل إليها الإنسان عن نفسه، تعتبر أشياء تعلمها عن نفسه، لهذا السبب استطاع أن يصور نفسه بأسلوب يستطيع من خلاله معرفة الكثير عن حقيقته [10].

وظيفة الذات:

وظيفة مفهوم الذات وظيفة دافعية، وكذلك وظيفة تكامل وتنظيم وبلورة عالم الخبرة المتغير، الذي يوجد الفرد في وسطه. ولذا فإنه ينظم ويحدد السلوك، وينمو تكوينيا كنتاج للتفاعل الاجتماعي جنبا إلى جنب مع الدافع الداخلي لتأكيد الذات، وبالرغم من أنه ثابت تقريبا، إلا أنه يمكن تعديله تحت ظروف معينة[11]. فمفهوم الذات أهم من الذات الحقيقية في تقرير الذات، وكل فرد يتأثر بالوراثة والبيئة الجغرافية والمادية والاجتماعية والسلوكية، ويتأثر بالآخرين المهمين في حياة الفرد، ويتأثر بالنضج والتعلم، ويتأثر بالحاجات وبالموجهات[12].

السلوك:

هو نشاط موجه نحو هدف من جانب الفرد لتحقيق وإشباع حاجاته كما يخبرها في المجال الظاهري كما يدركه[13].

فحب الإنسان لذاته، أي حبه للذة والسعادة، ونفوره من الألم والشقاء، غريزة عامة وقديمة في كل البشر، " فالواقع الحقيقي الطبيعي الذي يكمن وراء الحياة الإنسانية كلها ويوجهها بأصابعه هو حب الذات، الذي نعبر عنه بحب اللذة وبغض الألم. ولا يمكن تكليف الإنسان أن يتحمل مختارا مرارة الألم دون شيء من اللذة، في سبيل أن يلتذ الآخرون وينعموا، إلا إذا سلبت منه إنسانيته، وأعطي طبيعة جديدة لا تتعشق اللذة ولا تكره الألم..." [14]

وأي محاولة لتغيير سلوك الإنسان تكمن في تغيير فهمه للذة والألم، ونعني بفهمه أي إدراكه، وما تشكل من أفكار حول اللذة والألم، سواء نتيجة خبراته الحياتية أو نتيجة ما تلقاه من تعليم وتربية أسرية ومدرسية، وفهمه لحب الذات، وحدود تحقيق هذا الحب ومقوماته، لأن تغيير هذا الفهم سيؤثر على سلوكه العام في الحياة على مستواه كفرد، وعلى مستوى المجتمع كذلك، فميدان الفرد في تحقيق حبه لذاته، هو نفسه وأسرته، والميدان الأكبر هو مجتمعه.

فالفيلسوف الألماني إيمانويل كانت يعتبر أن لا علاقة للألم بالسعادة، وأن السعادة هي اللذة في خاتمة المطاف، فكل لذة سعادة، ولكن اللذة التي يعقبها الألم ليست سعادة، فالسعادة مبنية على الالتذاذ دون أي ألم، ولا علاقة للوجدان بالسعادة أي باللذة وإنما علاقته مرتبطة بالكمال. إلا أن الفلاسفة المسلمون كابن سينا في الإشارات وغيره يعتقدون أن لا فصل للسعادة عن الكمال ولا فصل للكمال عن السعادة. ويعتبر فلاسفة الإسلام أن اللذة ترتبط بالسعادة والسعادة ترتبط بالكمال وأن مفهوم السعادة ركنا للأخلاق، ويؤكدون على التلازم بين الأخلاق والسعادة، بينما "كانت" يعتبر أن الأخلاق مرتبطة بالكمال.

فحينما يقوم الإنسان بعمل خير فهو حتما يشعر بالسعادة ويلتذ بهذا الشعور، وهذا العمل سواء ارتبط عند الإنسان بالبعد الرباني فهو كمال له في الدنيا والآخرة، أو لم يرتبط بالعبد الرباني فهو سعادة ولذة دنيوية تشعره بالكمال المادي وحتى المعنوي في لا وعيه. والكمال المادي هنا قد يرتبط بسعة هذا العمل الخيري وجهته، فكلما اتسع مجاله وكانت وجهته أوسع كلما تحقق له الكمال المادي الفردي والاجتماعي.

فكانت حينما يتحدث عن أن السعادة هي الالتذاذ المادي الدنيوي، فالسعادة عند كانت هي سعادة حسية، بينما عند الفلاسفة المسلمون هي سعادة حسية وغير حسية.

أثر حب الذات على الكيان الداخلي للإنسان:

لغريزة حب الذات آثارا هامة جدا في تشكيل الكيان الداخلي للإنسان، خاصة في مجاله الإدراكي الذهني، وما يتشكل من تصورات وتصديقات، تنتظم منها مجموعة أحكام تنعكس بعد ذلك على مجموعة الاعتقادات التي يعتقدها، وعلى تشكيل عواطفه وعلى ماهية سلوكه الفردي والاجتماعي. "فالقانون الذاتي لحب الذات هو أنه مقتضى أو علة تامة لجلب الخير إلى النفس ودفع الشر عنها والاعتقاد بكل ما هو محبوب لديها، والتفكير بكل ما هو راجح في نظرها، وإبعاد كل ما هو مكروه عنها إبعادا لا شعوريا تلقائيا...من آثار حب الذات على الشخصية الإنسانية وعلى التفكير الإنساني بالخصوص، هو أنه يسلخ موضوعيته في النظر بمقدار ما، وهذا المقدار في بعض حدوده ضروري، لا يمكن للإنسان ويستحيل أن ينفك عنه.

فهو دائما يعيش في إطار ذاته، ويعيش في حلقة مفرغة من تفكيراته الذاتية وتأملاته الباطنية، بما يوحيه إليه سائر إحساساته التي على رأسها حب الذات، ويتدخل كل ذلك في تفكيراته العلمية وتأملاته النظرية، مما يؤثر قطعا فيها، ولا يمكن أن يتخلى عنها".[15]

فمحتويات ذهن الإنسان تتشكل من بدهيات أولية ومن ثم تتشكل وفق التجارب والمعارف، و"كانت" على سبيل المثال من الفلاسفة المؤمنين أن محتويات ذهن الإنسان تتشكل بوجود حقائق تسبق التجربة. وهناك مجموعة من الفلاسفة يعتبرون أن ذهن الإنسان في بداية ولادته يكون فارغا من أي محتويات، ثم تأتي الحواس لتكون نافذته على المعرفة، لتشكل التجربة معارفه وبنيته الذهنية، بينما هناك من يرى أن ما هو مخزون في ذهن الإنسان ينقسم إلى قسمين:

يضم ما جاء عن طريق الحواس الظاهرية فقط.

يشمل الذهن على بدهيات وحقائق أولية موجودة في الذهن قبل الإحساس. أي حقائق سابقة للتجربة.

فما يكون له مدخليه معرفية عن طريق الحواس الظاهرة قد تتقاطع مع الحقائق السابقة للتجربة في تشكيل أفكاره وعواطفه وكثير من الأمور، كتدخل العصبيات الانتمائية، وقصور التفكير، وضيق الأفق والعادات والتقاليد والتنميط الاجتماعي، وغيرها من الأمور، وقد تتدخل أمور عكس ما ذكرناه تماما. وهو ما يؤثر تباعا في تشكيل رؤاه ووجهة نظره، ويبعده قليلا أو كثيرا عن الموضوعية وتشكيل رؤية أقرب للواقع منها للوهم.

أثر حب الذات في المجتمع:

حب الإنسان لذاته يخلق لديه الدافع للتفاعل الاجتماعي والتأثير في محيطه، إلا أنه يتفاعل على قاعدة التماثل يفيد الانضمام، أي ينجذب نتيجة حبه لذاته مع كل من يتوافق معه في الميول والرغبات والأهداف والأفكار، ويتنافر مع كل من يخالفه، لأن حب الذات تختلف ترجمتها بين الناس، وتختلف رؤاه كفرد وتفسيراته ومحيطه وساحات تطبيقاته، بل تختلف أيضا دوافعه ومسارات الكمال فيه، وهذا الاختلاف سبب لتشكل الجماعات أو ما يسميه علم الاجتماع بالشعور ب"نحن".

" ويتخذ ال"نحن" كيانا مستقلا عن كيانات أفراده، وتتلبسه صفات وخصائص لا يتصف بها آحاد أفراده، ولأهمية هذه الخصائص نشأ علم نفس الجماعة، أو الجمهور أو القطيع. ومن أبرز من كتب في هذا المجال غوستاف لوبون في كتابه ( روح الجماعات ) أو ( سيكلوجية الجماهير )، وسيجموند فرويد في (علم نفس الجماهير)."[16]

فتشكل الجماعة أو ال "نحن" يأتي انعكاسا لحب الذات على الجماعة، التي تتشكل من أفراد تشابهت أهدافهم وميولهم وأفهامهم ورغباتهم حول "حب الذات"، وقد تمثل ال " نحن " تعصبا للجماعة وتحزبا لأفكارها وأهدافها.

فنتيجة هذا الاختلاف في إدراك غريزة حب الذات وفهمها، والتي يؤثر فيها أيضا وفي تشكيلات مجال إدراك الفرد حولها هو الأسرة والمجتمع، فإن هذا الاختلاف يؤدي تلقائيا إلى اختلاف الأهداف والغايات والآليات، بل والمرجعيات المعرفية المعيارية، ومنظومة القيم والمبادئ، لأنها كلها تأتي تحت عنوان اللذة والسعادة والألم، وتشكيل الأفكار حول هذه المفاهيم.

اختلاف المرجعيات المعيارية يؤدي إلى اختلاف القوانين الناظمة في المجتمعات، بل يؤدي إلى اختلاف المثل الأعلى وآليات التغيير الاجتماعي والأفكار المؤسسة لنظريات التغيير، وهذا الاختلاف ناتج من الأساس من غريزة حب الذات، ومجالات تطبيقها وتجليها، وامتدادات مفاهيم اللذة والسعادة والألم. بل إن منشأ أي تغيير اجتماعي هو حب الذات، الذي من مقوماته السعي إلى الكمال والسعادة والشعور باللذة، والابتعاد عن كل المنغصات، فما أن يتولد شعور جمعي بالألم، وتتراكم تلك المشاعر الاجتماعية، حتى يؤدي حب الذات إلى خلق الدافع نحو التغيير للحصول على السعادة، ونتيجة تشكل الجماعات على أساس المشتركات المنطلقة من حب الذات، ومجالات تحقيقه وأهدافه وآلياته، تختلف نتيجة ذلك آليات التفاعل والسلوك ومقوماته، إلا أنها تتفق في الشكل العام، وهو السعي نحو الكمال والتخلص من مشاعر الألم ومن كل المنغصات التي تعيق تحقيق السعادة، وتغيير الواقع إلى واقع أكمل وأرقى.

بينما الإدراك الأوسع لهذه المفاهيم الغير إقصائي لاحتمالية وجود عالم آخر مرتبط بعالمنا، وهو عالم الآخرة ويشكل الضابطة السلوكية في الدنيا، هذا الإدراك سيربط السعادة باللذة بالكمال بالألم، والذي يجعل الإنسان يلتذ حتى بالألم حينما يضحي ويقدم ويتنازل، بل حتى حينما يضحي بحياته لأجل الآخرين، فهو يدرك أن هذه التضحيات سعادة وكمال ولذة لا ترتبط فقط بالدنيا وإنما ترتبط بعالم أكثر حقيقة وديمومة وهو عالم الآخرة.

لكن هذه الدافعية والإرادة الناشئة من حب الذات في السعي نحو التغيير الاجتماعي أو التضحية بل حتى حينما يقع تحت ضرر شامل كالوباء مثلا، هذه الدافعية ليست خارجة عن قوانين التاريخ وسننه، بل كما أن للطبيعة قوانينها، وللكون كذلك قوانين يفهمها الإنسان، ثم يستطيع التحكم بها إلى درجه معينة.

لذلك حينما تكون الذات في الفلسفة الغربية هي مجموعة الميول والرغبات المتمثلة فقط في البعد المادي للإنسان، فإن حب الذات هنا يخضع للرغبات والميول والغرائز في تشخيص سعادة هذه الذات أو ألمها، وهو ما يجعل المعيار أيضا خاضعا للفهم المادي، وهو ما تجلى بشكل كبير في الوباء الأخير "كورونا"، حيث تماهى الغرب مع قاعدته الأخلاقية التي يؤمن بها، وتعامل مع الإنسان الموبوء على أساس نسبي يتم تحديد المصلحة والمنفعة وفق رؤيته المادية الحسية، التي يتحقق من خلالها فهمه للذات وزاوية نظرته لقيمة الإنسان وأبعاده، ولأن الإنسان في الرؤية الغربية هو جسد مادي تحركه الغرائز والميول التي تتفاعل مع الطبيعة والظروف المحيطة، بالتالي تصبح قيمته صفرية عندما يتعرض جسده للوباء، بل يصبح وجودا خطرا، يتم تحديد قيمته من خلال قيمة السوق، أي إلى أي مدى يستطيع هذا الجسد المادي الصمود في وجه الوباء، ومدى نفع السوق من هذا الجسد بعد شفائه، أي مدى إنتاجيته السوقية التي تصب في الرأسمال العام للدولة، فإن كان جسدا هرما نفذت فيه الرغبة والميول ومرضت أعضاءه وقلت إنتاجيته، وزادت نفقة الدولة عليه، فإن ذلك يعني في مرتكز رؤية الغرب للإنسان كجسد مادي، انتهاء صلاحيته، وعدم تحقق المنفعة منه، فيكون علاجه لا يحقق مكسبا بل خسارة، بالتالي إذا تزاحم علاجه في هذا الوضع، مع علاج جسد آخر أكثر حيوية منه وأكثر إنتاجية وأقل تكلفة على الدولة، فإن الأولوية تكون للجسد الثاني على حساب حياة الجسد الأول. وبهكذا نمط من التفكير تمت المفاضلة بين الأجساد في وباء كورونا، ولن أقول بين إنسان وإنسان، لأن الإنسان له بعد روحي ومادي، بينما في فهم الغرب غالبا هو بعد مادي أي الجسد.

ولكن ما هو دور حب الذات حينما تتزاحم المصالح والأصلح في المجتمعات، ويتطلب هذا التزاحم ترجيحا للأصلح، فكيف يلعب حب الذات الذي يختلف باختلاف بيئات الأفراد وبنيتها الفكرية، دورا في ترجيح الأصلح؟

حب الذات والتزاحم:

"والمقتضى المثير لحب الذات على إصدار الأمر للذات بفعل شيء معين، قد يكون تكوينيا، كما في الخوف والمرض والجوع، وقد يكون تشريعيا كما في القوانين الوضعية والشرائع السماوية.. إن التزاحم كما يقع بين المقتضيين التكوينيين كما في حالة شرب الدواء للمريض، قد يقع أيضا بين مقتضى تكويني ومقتضى تشريعي، وذلك موجود دائما، فإن أي قيد ديني أو اجتماعي أو قانوني يكون ضد المقتضي الطبيعي التكويني للحرية، والذي يميل إليه الفرد بطبعه. كما قد يقع التزاحم بين مقتضيين تشريعيين، وهذا الغالب إذا كان التشريعان من سنخين مختلفين، كما لو وقع التزاحم في حياة الإنسان بين مادة قانونية تقتضي إطاعتها عملا من الأعمال وبين تعليم ديني يخالفه، أو بين قانون وتقليد اجتماعي، أو تقليد اجتماعي وتعليم ديني، وحينئذ ينظر الفرد إلى مصلحته في ذلك، فيرجح المتدين دينه على كل الاعتبارات، ويرى أن إرغامه على غير ذلك مخالف لمقتضيات حب ذاته، فينفر منه ويثور عليه.

ويتبع الرجل القانوني مقتضيات القانون، والاجتماعي مقتضيات التقاليد السائدة، وإن كان اتباعهما لذلك مخالفا لتعاليم وقوانين أخرى.

أما التزاحم بين تعليمين من قانون واحد، فهو يقع نادرا، إلا أنه حينئذ يجب اتباع المتأخر منهما، باعتبار نسخه للأول، أو الأهم منهما في نظر المشرع... وهذا التزاحم الموجود بين مقتضيات القوانين وبين المقتضيات الطبيعية، ملحوظ لكل قانون يوضع، سواء من قبل البشر أو من قبل خالقهم.

وذلك لأن الطبيعة الأولية العميقة للإنسان بمقتضى حبه لذاته تقتضي الحرية وحب الانطلاق ولا تقتضي التقيد بالقانون، بل تقتضي أن يسعى الإنسان لكماله بالنحو الذي يشاء غير مقيد بنظام ولا قانون ولا تقليد ولا أخلاق.

إلا أنه بعد أن تقيد، وبعد أن تنظم في المجتمع، حبا لذاته وتوخيا لمصلحته، ولأنه يرى أن هذا التقيد يوصل إلى الكمال أسرع من تلك الحرية السائبة ـ لأنه يرى أن القوانين والنظم بصرف وجودها شيء ضروري للوصول إلى الكمال، وأن وجودها على كل حال، موافق لحب ذاته ـ إذن فهو عندما يرى قانونا من القوانين، موافقا لمصلحته وماشيا بالطريق الذي نحو الكمال، فهو حينئذ يندفع معه اندفاعا تلقائيا ويطيعه إطاعة عمياء، ويتكيف لمقتضيات أوامره ونواهيه، غير متوقع ثوابا أو خائفا عقابا، وإنما هو يطيعه لأجل الوصول إلى نتيجة التي يحسبها أو يراها موافقة لكماله ولمصلحة نفسه وحب ذاته.

أما إذا لم يتعقل الفرد ـ والناس في الغالب لا يتعقلون ذلك ـ أن النظام المعين الفلاني في مصلحتهم وأن اتباعه موافق للوصول إلى كمالهم، وأنه أهل لتقييد الحرية الطبيعية المحبوبة لهم، فإنهم يحتاجون بذلك إلى وضع العقاب والثواب على اتباع هذه القوانين وعلى عصيانها، لكي تكون لهم مثيرا تكوينيا، وحافزا قويا إلى إطاعتها وعدم عصيانها.

وذلك أن كل فرد يواجه التزاحم الموجود بين الشر الذي سوف يصيبه من اتباع القانون ـ أو خسارة المصلحة التي سوف يقع فيها ـ والذي سوف يصيبه من عدم إطاعته وهو العقاب، فيوازن بينهما في ذهنه، فيرى حتما أن الشر الذي يصيبه من عدم إطاعة القانون من الشر، والعقاب الذي يصيبه عند عصيانه، فعند ذلك يرى أن من حب ذاته أن يمتثل القانون.

من هنا نرى أن الشخص الذي يستطيع إخفاء فعله على القانون والهرب من العقاب ومن يد القضاء، يقدم نحو الجريمة إقداما، وذلك لأنه يرى أن عصيان القانون لن يلحق به شرا، وأن القيام بالجريمة في مصلحته وموافق لحب ذاته حسب قصر نظره.

وكذلك بالنسبة إلى وضع الثواب على القوانين، فإنها أيضا مثيرات ومقتضيات ثانوية  لطاعتها، فإن الفرد أيضا يوازن بذهنه بين المصلحة التي سوف تناله عند طاعة القانون ـ وهو الثواب ـ وبين المصالح التي سوف تناله عند عدم طاعته ـ وهي الحرية الطبيعية ـ وعند المشي  على هداه واختياره، فهو يرى حتما أن المصلحة التي ضمنها له القانون أكبر وأكثر، وأن ثوابه أجزل وأعظم، فهو إذن يتوجه إلى هذا الثواب فيطيع القانون على هذا الأساس..."[17] لذلك نجد في الأديان بشكل عام وفي الدين الإسلامي بشكل خاص، حضور مبدأ الثواب والعقاب كمحور أساسي في الترغيب والترهيب، لخلق الحافز أو الرادع عند الإنسان ليتبع ويطبق القانون من حوافز الشهوات والغرائز، وأيضا توضح لماذا تضع كل دولة قوانين للجزاء تطبق على من يخالفها، لخلق حافز أو رادع قوي في نفس الفرد على اتباع القوانين.

المرجعية المعيارية [18] في تحديد الأصلح في المنظومة [19] الاجتماعية:

إن أهم خطوة في بناء أي رؤية أو نظرية أو منظومة، هي المرجعية المعيارية التي ينطلق منها صاحب المشروع، وهي مجموعة المعايير والضوابط التي تشكل مرجعية معرفية له على ضوء منظومته الفكرية، ويؤسس لرؤيته ومشروعه، لتشكل البنى الأساسية التحتية التي سينطلق منها للبناء الفوقي.

وهنا يعنيني تماما مدرستان تعيشان اليوم صراعا على الهوية، خاصة بعد العولمة وتداعياتها الثقافية والاجتماعية، والكوننة التي أذابت الخصوصيات الاجتماعية، وأدخلتنا في صراع مفاهيمي واصطلاحي، لعب دورا كبيرا في تغيير معالم هويتنا بل مرجعيتنا المعيارية.

المدرستان هما: المدرسة الغربية والمدرسة الإسلامية، بما تشكلاه من رؤى فكرية وثقافية لها الدور الأصيل في صراع الهوية وفرض القيم والمعايير، وهي تلعب دورا كبيرا في الاستعمار الثقافي والحروب العقلية الناعمة.

طبعا هناك اختلافا كبيرا جدا بين الحضارتين أو المدرستين، وهذه الفروق تكمن في القاعدة والبنية الفكرية والفلسفية لكليهما، والتي على أساسها يتم البناء والانطلاق نحو كل العلوم والمعارف الفوقية.

وقد تناول كثير من المفكرين والمختصين هذا الموضوع من جوانب عدة، إلا أنني سأسلط الضوء على كيفية قراءة الشهيد المفكر والمرجع الديني السيد محمد باقر الصدر[20] لهذا الموضوع من عدة جوانب:

١- القاعدة الفكرية:

"إن للحضارة الغربية بأفكارها ومفاهيمها وكيانها الثقافي عامة قاعدة فكرية تستند إليها .. وهي الحريات الرئيسية في المجالات الفكرية والدينية والسياسية والاقتصادية. فإن هذه الحريات بمفهومها الحضاري الغربي، هي حجر الزاوية في ثقافة الغرب، والإطار الفكري الذي تدور في نطاقه الأفكار والمفاهيم الغربية عن الإنسان والحياة والكون والمجتمع، وحتى أنه لعب دورا رئيسيا في تحديد الاتجاه العام لمفكري الغرب فيما يسمونه بالعلوم الانسانية والاجتماعية. فلم تستطع البحوث الإنسانية لهؤلاء المفكرين أن تتجرد عن تأثير الرساله التي يعتنقها الباحثون كقاعدة عامة ".[21]

في مورد أخر يقول: " الأفكار التي تتكون منها كل حضارة ذات رسالة تخضع لمقاييس تلك الرسالة، وتتجنب مناقضتها سواء أكانت مستنبطة منها أم لا ." [22]

وهو ما يوضح مسألة مهمة، أن منشأ المعرفة الغربية هو منشأ حسي تجريبي أي مادي، بالتالي كل ما يترشح عنه يكون مبنيا على هذا الأساس، فالغرب يعتبر أن مصادر المعرفة البشرية هي الحس والتجربة فقط، وبذلك يكون افترق عن مصادر المعرفة الإسلامية، التي تشكل الفكر الإسلامي بمصدرين مهمين، هما العقل والنص. وهذا ما يتم تقريره على المستوى النظري في المدرسة الإسلامية، والتي توجه لها سهام النقد اليوم عند بعض فرقها بتعطيل العقل وتغييبه. إضافة لعدم إنكار وجود مدارس تعتمد على العقل كمصدر معرفة في المدرسة الغربية، رلا أن السمة العامة كما أسلفنا سابقا، تعتمد الحس والتجربة.

فوضع الرسالة الموضع الرئيسي من التفكير الحضاري، إنما يعني محاولة التوفيق بين جوهر الرسالة وروحها وبين الأفكار الحضارية المتبناه[23].

٢- مكونات المجتمع وعناصره:

ويذكر أيضا الشهيد الصدر تصنيفا رائعا لعناصر المجتمع بين الغرب والاسلام، في كتابه المدرسة القرآنية[24] ويستخلص من القرآن ثلاث عناصر:

الأول: الإنسان.

الثاني: الأرض أو الطبيعة على وجه عام.

الثالث: العلاقة المعنوية التي تربط الانسان بالأرض والطبيعة، ومن ناحية أخرى تربط الإنسان بأخيه الإنسان.

ويعتبر العنصر الثالث، هو العنصر المرن المتحرك في تركيب المجتمع ولها صيغتان:

الأولى: صيغة رباعية.

والثانية: صيغة ثلاثية.

ـ الصيغة الرباعية:

هي الصيغة التي ترتبط بموجبها الطبيعة والإنسان مع الإنسان، هذه ثلاث أطراف فإذا اتخذت صيغة تربط بموجبها هذه الأطراف الثلاثة مع افتراض طرف رابع، وهو بعد رابع للعلاقة الاجتماعية، وهذا الطرف الرابع ليس داخلا في إطار المجتمع، وإنما خارج عن إطار المجتمع، وتعتبر هذا الطرف ـ  أي الصيغة الرباعية ـ  مقوما من المقومات الأساسية للعلاقة الاجتماعية ، وهذه الصيغة الرباعية طرحها القرآن تحت اسم الاستخلاف، والطرف الرابع هنا هو المُسْتَخْلِفْ أي الله جل شأنه.

ـ الصيغة الثلاثية

صيغة تربط بين الإنسان والإنسان وهو والطبيعة ، ولكنها تقطع صلة هذه الأطراف مع الطرف الرابع،

فتجرد تركيب العلاقة الاجتماعية عن البعد الرابع أي الله.

هذا التغييب بطبيعة الحال يغير من المثل الأعلى لكل جهة ، فالمجتمع ذو التركيبة الرباعية يكون الله مثله الأعلى  وهو مثل أعلى مرتفع، وعلى هذا يرتبط بكله معرفيا ومنهجيا بالله وصفاته ومنهجه، فيكون الله هو الأصيل والإنسان هو الوكيل، أي خليفة يترشح عنه الأصول، ومستخلَف يتلقى الأصول ويستخدم عقله وتجربته في قراءة تلك الأصول، ليطور هذه القراءة في بعدها المتحرك بعقله وتجربته وفق سؤال الراهن وحاجياته وتساؤلاته وإشكالياته، أما المجتمع صاحب التركيبة الثلاثية التي غيبت الله، فالانسان هو محورها، ومصادر معرفته محصورة وفق هذه الرؤية بالحس والتجربة، وهو مثل أعلى منخفض. وبالتأكيد نحن هنا نعمل على توصيف الحالة وليس تقييمها، لأن هناك نتاجات بشرية مهمة على هذا الصعيد.

وهذه النتاجات البشرية سواءً من الغرب أو غيرها، هي مصدر معرفي ثري قد يندرج تحت عنوان التجربة البشرية، التي تعتبر أحد روافد المعرفة البشرية في المدرستين الغربية والإسلامية، بالتالي لا يمكن التعاطي مع هذه المعارف تعاطيا أصما وكأنها لم تكن. وأيضا لا يمكن التعاطي معها بطريقة تسليمية لكل ثمراتها مع وجود فارق بنيوي مهم .ولا نستطيع أيضا أن نمارس الإنتقاء منها بشكل عشوائي، ولا الترقيع بينها وبين رصيدنا المعرفي في الإسلام.

٣- المثل الأعلى:

إن التعاطي مع مخرجات الحضارة الغربية وأهمها الحداثة يكون من خلال الدراسة المنهجية المتأنية، فالأفكار القادمة إلينا نستطع أولا أن نعيدها إلى جذرها المعرفي، ومن ثم مقارنتها مع ما لدينا، فإن لم تتعارض مع أصولنا، ورفدت فهمنا، وفتحت لنا آفاقا لإعادة قراءة النص والتراث والإجابة على تساؤلات الراهن، فهنا نتعامل معها على أساس التلاقح والتبادل الحضاري والثقافي. وإلا تعاطينا معها على ضوء أنها رأي آخر، لا يتطابق مع مكوناتنا الحضارية والثقافية، وبالتالي لنا ديننا ولهم دينهم، ليكون المبدأ هنا احترام الذات من جهة واحترام الآخر من جهة أخرى، وتكون الندية الفكرية التعددية حاكمة كمعيار، وليس المعيار الإقصائي الإلغائي، فالاختلاف في المثل الأعلى، هو اختلاف منهجي بنيوي في المرجعية المعيارية التي تنطلق منها عملية التأسيس للرؤى والنظريات، فبين المدرستين قاعدتا اشتراك: هما الإنسان والطبيعة،  و دور الحس والتجربة في المعرفة ومصدريتها، إلا أن الاختلاف الجوهري هو في المثل الأعلى، الذي يشكل محور التشريعات المعيارية كمرجعية كلية ضابطة وناظمة لعمل العقل، وحافظة له من الانحراف والوقوع في وهم الحقيقة، وعدم القدرة على كشف الواقع، حيث المثل الأعلى المرتفع (الله) هو المشرع الأساس، ومن تشريعاته يمكن للعقل أن يستمد المنهج والمعايير والمقاصد، لينظم رؤية ويؤسس لمشروع اجتماعي واقتصادي وسياسي بدرجة عالية من كشف الواقع، ودقة أكبر في الابتعاد عن الوهم. بينما حينما يكون (الإنسان) هو المثل الأعلى المنخفض، وهو من يشرع لنفسه، "حيث يستمد تصوره من الواقع نفسه ويكون منتزعا من واقع ما تعيشه الجماعة البشرية من ظرف وملابسات.. فلم يرتفع الوجود الذهني على هذا الواقع، بل انتزع مثله الأعلى من هذا الواقع بحدوده، وقيوده، وشؤونه"[25].  وهو من يضع المرجعية المعيارية فلا يمكننا هنا أن نثق بموضوعيته وتجرده وصراعاته الداخلية، وتغليبه لمصالحه ومنافعه وتفاعلاته مع المحيط وانفعالاته، وعدم شمول رؤيته، وهو ما اتضح منذ عصر التنوير إلى اليوم، لأن كثيرا من النظريات والآراء يمكن تصنيفها على أنها ردود أفعال على العهد الكنسي و تداعياته الفكرية والسياسية، وتفاعل المفكرون الغربيون مع التطورات المحيطة بهم وانفعالهم بها، تفاعلا أعطى للعقل مساحات هامة جدا في التفكير وتثوير الواقع والانقلاب علي كثير من المسلمات التي فرضتها الكنيسة، إلا أننا لا ننكر أن هذا التفاعل كان جزء منه رد فعل، أدى مع التقادم إلى إبعاد الدين بشكل كبير عن تفسير الكون، والطبيعة والإنسان. " ومن نافل القول إن تيار الأحداث في التاريخ الغربي اندفع بشكل أدى إلى هيمنة الفلسفة الإنسانية (Humanism)[26] وسيطرتها على جميع أركان المجتمع. فبعدما غابت شمس آخر يوم من أيام القرون الوسطى، انصب اهتمام كل الحركات الاجتماعية الكبرى والمصيرية منذ القرن السادس عشر حتى القرن الثامن عشر، ومنها حركة الاصلاح الديني وحركة التنوير والحركة العلمية والثورة الصناعية والثورات السياسية وغيرها، انصب اهتمامها على إحياء دور الإنسان الذي تم تجاهله طيلة العصور الماضية، ليستعيد دوره المنسيّ، وليتربع على الكرسيّ الذي طالما نحي عنه من دون وجه حق. وكان الشعار الوحيد و المشترك "استقلال الإنسان" يمثل القاعدة الصلبة التي بني عليها أساس نبذ الاستبداد السياسي، ورفض التقاليد الدينية وإنكار الحدود التي تقيد العقل، والتأكيد على الإرادة واختبار الأساليب الحديثة والسبل الجديدة، والخوض في المجالات المجهولة.. وغير ذلك. ومن بين الانجازات التي قدمتها تلك الحركات الاجتماعية، تحرير السلطة من احتكار وهيمنة الأمراء، وتحرير المعرفة من غياهب الحصار الكنسي الذي كان مفروضا عليه، وفك الأموال من قيد الأثرياء والإقطاعيين، فكانت تلك الحركات كلها تؤكد على أهمية الإنسان ودوره الفعال"[27].

ومن هنا يتضح الفرق الجوهري والاختلاف البنيوي بين المدرستين، إلا أننا لا ندعي أبدا حصول ذلك تماما على مستوى التطبيق، فواقع المسلمين غالبا لا يعكس محورية الله ومرجعيته المعيارية، بينما واقع الغرب يعكس عمليا نظريته التي آمن بها وطبقها، فالإنسان هو محور ومركز التفكير والتنظير، وأدواته المعرفية هما الحس والتجربة غالبا، ليصبح واقعا عمليا متجسدا في كل مجالات الغرب الحياتية والاجتماعية. بينما وقع العالم الإسلامي غالبا تحت نير الاستبداد والجهل والتآمر. فالإنسان في المدرسة الغربية هو المشرع وهو المعيار، وفي المدرسة الإسلامية المشرع هو الله . وهنا لا نعني أبدا تصنيفا وتقسيما وتمييزا بين الله أو الإنسان، فالله أعطى ضوابط ومعايير وحدود عامة، وترك للإنسان مساحة عظيمة لتشريع التفاصيل، والتفنن والإبداع في تطبيق تلك الضوابط والمعايير العامة على الأمثلة والمصاديق. وهذا ما عنيته تماما من التمييز بين محورية الله ومحورية الإنسان، فالمحورية الإلهية لا تعني إلغاء عقل الإنسان، بل تعني أن الله هو الأصيل في تشريع الضوابط العامة التي تصب في مصلحة نظم حياة الإنسان بما يحقق العدالة، ويحقق قبلها التوحيد، وأن الإنسان وكيلا في تشخيص المنهج السليم لتحقيق العدالة والتوحيد، فلكل زمن أدواته وطرقه يكتشفها عقل الإنسان من خلال الخطوط والضوابط العامة التي وضعها الله. بينما في محورية الإنسان، فالإنسان هو الذي يشرع الضوابط العامة وقوانينها، وطرق الوصول إليها.

ومن هنا كيف ستتشكل البنى التحتية وفق هذه المدارس للهوية الأخلاقية وقيمها؟

 

ايمان شمس الدين

 

 

في المثقف اليوم