دراسات وبحوث

اياد الزهيري: قرائن ومشاهدات لاتصح في نَسب القرآن (4)

في هذه الحلقة ستكون القرينة التي نتناولها هي أمتداد لقرينة الأضحية التي ذكرناها في الحلقة الثالثة، وهي أضحية العقيرة، التي تُعقر وغالباً من تكون من صنف البقر، ومرةً يُقدم الوعل من خلال الصيد الطقسي كأضحية من أجل الأستمطار والخصب، على حد قول فيرنر داوم، وهو قول مزعوم، وأقول مزعوم لسببين يذكرهما هو في بحثة الوارد في كتاب (القرآن ونقوش اليمن). السبب الأول هو أن مايبرره فيرنر ينحصر في دائرة الزعم، أنه يذكر في (القرآن ونقوش اليمن-ص246) بشكل واضح وبصريح  العبارة  القول التالي (يتفق جميع العلماء الذين يتعاملون مع شواهد ما قبل الأسلام، وجميع مراقبي الممارسة الحديثة على أن هدف الصيد هو المطر والخصوبة، على الرغم من أن النقوش لا تذكر ذلك صراحةً إطلاقاً، فإن هذا هو التفسير الوحيد الممكن لسبب أعتبار الصيد واجباً دينياً)، ففيرنر هو يقر بنفسه أن النقوش لا تقر صراحة إن الصيد من أجل المطر، أي ليس هناك دليل يقيني يؤكد مايذهب هو أليه، من أن هدفه نزول المطر، وأن دليله الغير مؤكد على حد قوله، هو التفسير الوحيد لسبب أعتبار الصيد واجباً دينياً، أذن نظريته لا تتعدى الحدس والظنية، والظن لا يغني من الحق شيئاً. أما السبب الثاني الذي يطعن في صوابية رأي فيرنر ويُضعف من نظريته في سَوق هذه القرينة، وجعلها من الشواهد التي أستوحى منها القرآن، هو ما جاء به البرفسور ألكسندر سيما، والتي يعزو فيها ظاهرة صيد الوعل في اليمن بأنها رياضة، ولأجل اللحم، ولكن فيرنر يتهم سيما بأنه متحيز بشدة ضد عناصر الطقوس، ويصفها بأنها تأملات نخبوية (القرآن ونقوش اليمن-ص240). أن ما ذكرناه أعلاه يدل دلالة واضحة على ما يحمله الباحث من قبليات فكرية يحاول دسها في تأويلاته التفسيرية، مضاف أليه أفقه الذهني في وضع فرضياته، وأنه يبغي الوصول الى مراده هو، لا مراد كاتب النص، وهذه تُنبئ عن ميول مكنونه في لا وعي الباحث، من أجل الوصول الى رؤياه الخاصة، وأن ما أعترف به فيرنر بأن النقوش لا تذكر ذلك صراحة إطلاقاً يدل بشكل واضح وجلي بأن الباحث قد قطع علاقته بنص النقوش  التي يعتبرها مصدراً لمقارباته المزعومة، ومن هذه النظريات التفسيرية الغير أكيده، حمَلَ الكثير من المشتغلين بعلم الهرمينوطيقا بالذهاب الى النسبية في معرفة مراد المؤلف. أن هذا النوع من التفاسير، يذهب بنا الى مايقوله إريك هيرش الى البعد النفسي، والبنية الذهنية للمؤلف (المفسر) في تفسير النص، وأن فيرنر قد أستخدم الحدس في تأويله للنقش اليمني، ولكنه لم يثبت ما يجعل من حدسه محتملاً، وذلك لنقص قرائنه وضعف مشاهداته، والأهم هو أعترافه بعدم الصراحة في هذه النقوش، والتي يصل بها على حد قوله الى الأطلاق.

يذهب فيرنر بعد أن زعم بقرائنه بأضحيات قبر هود كشواهد يتمسك بها لأقرار نظريته، يأتي الآن الى تضحية أبراهيم لأبنه المختلف على أسمه، لأن هناك من يقول أسحاق، وهناك من يقول أسماعيل، ليجعل منها قرينه أضافية يربطها بطقس صيد الوعول اليمنية.

من المهم هنا أن نسرد بشكل مختصر عن قصة النبي أبراهيم وأحد أبناءه، عندما جاءته الرؤيا بأن يذبحه أستجابه لأمر ربه، الذي جاء أمره كرؤياء في المنام، فقد جاء في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد النص التالي، والذي يذكر به أسم المضحى به أنه أسحاق، فجاء به (خذ أبنك وحيدك، الذي تُحبه إسحاق، وأذهب الى أرض الُرَّيا وأُصعدهناك مُحرقةَ على أحد الجبال..)(سفر التكوين22). وقد جاء في القرآن (...قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فأنظر ماذا ترى قال يا أبَتِ أفعل ما تؤمرستجدني إن شاء الله من الصابرين)(الصافات-102)، من خلال هذين النصين، يذهب علماء الديانات اليهودية والمسيحية والأسلامية الى تفسير مفاده أن الله أراد أن يختبر أيمان أبراهيم ومدى أخلاصه له، وهناك من يفسر ذلك بأن الله يعرف درجة أخلاص نبيه أبراهيم ولكن أراد أن يخرج هذا الأيمان والأخلاص من القلب الى العلن ليعلم الناس مدى أخلاص وأيمان أبراهيم بربه ليكون مثل أعلى لهم، كما يبعث ذلك لهم بالثقة والأطمئنان به، بالأضافة أن هذا الحدث يمثل درس تربوي لطاعة أبراهيم لربه، وطاعة الولد لأبيه، ويمكن أستخلاص ذلك من خلال قول أبراهيم لأبنه (فأنظر ماذا ترى) وهذا يعكس حواراً بين الأب وأبنه،فيجاوبه الأبن ب ((أفعل ماتؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين) (الصافات)، فقد تحقق الأختبار من خلال أستجابة أبراهيم لأمر ربه، وأستجابة الأبن لأبيه، وقد تحقق الهدف من القضية، مما جعل الله يبدل الذبيح الأنساني بذبيح حيواني (وفديناه بذبحٍ عظيم)(الصافات 107)، وهنا من المهم أن أُشير الى أن الأبن موضوع الذبح تسميه التوراة والأنجيل بأسحاق، فقد جاء في سفر التكوين 22 (خذ أبنك وحيدك الذي تحبه إسحاق وأذهب الى أرض المًريَّا وأصعده هناك محرقة...)، أما القرآن فلم يذكر الأسم، ولكن معظم علماء التفسير المسلمين يقولون أسماعيل، وهناك أسباب لذلك، ومنها أن الولد البكر هو أسماعيل وليس أسحاق وأمه هاجر، السبب الثاني هو أن القصة حدثت في مكة، وأسماعيل وأمه، هم من كانوا مع أبراهيم في مكة، وليس الآخرين. عندما تحقق المراد لله من قصة ذبح أبراهيم لأبنه، ولم يعد للذبح معنى فأستبدل الولد بكبش (وفديناه بذبح عظيم)، حيث أتفقت  التفاسير اليهودية والمسيحية والأسلامية على أن الحيوان الذي ضُحيَّ به هو كبش، ولكن من الغريب أن فيرنر يذكر في صفحة 238 من كتاب القرآن ونقوش اليمن) بأن كلمة أيل تعني كبش، ولكنه مع ذلك يصر على أن الحيوان المستبدل هو وعل، وهذا  الأصرار لم يكن الا تلبيه لرغبته وأستكمال لقرينته التي أراد أن يسوقها من أجل التأصيل للقرآن من نقوش اليمن، وهنا كما ذكرنا في بداية المقال أن رغبات وقبليات الباحث تلعب دور في مايسوقه من تأويلات وتفسيرات للنصوص التي يعمل عليها، لتكون منسجمه مع الصورة التي رسمها في ذهنه.

نرى أن هناك مفارقات بين مايدعيه فيرنر داوم وبين ما جاء في العهدين القديم والجديد، بالأضافة الى القرآن، والذي يهم بالموضوع هو القرآن، لأنه هو محل الدراسة ولكن لابأس من ذكر ما جاء بالكتب المقدسة اليهودية والمسيحية  لنؤكد أتفاق العهدين القديم والجديد مع ماجاء بالقرآن في قصة  ذبح أبراهيم لأبنه، وأن لا علاقة لها بما يدعيه فيرنر من زعم ما جاء بالنقوش اليمنية، وأن ما جاء بالنقوش اليمنية التي يفسرها فيرنر بأن قتل الوعل هو صيد طقسي لأجل الأستمطار والخصب، فيقول فيرنر في الصفحة 239 (القرآن ونقوش اليمن)(وبحسب كلمات الله، فإن غرض التضحية هو الخصوبة للحرث والنسل معاً) ولا أعرف من أين جاء بهذا الكلام الذي لم يذكر مصدره !، وهنا سأذكر ماجاءت به الكتب السماوية، التي لا تتفق مع أطروحته لا من قريب، ولا من بعيد، حتى يمكنني القول أن تفسير فيرنر هي لا تعدو من أن تكون عبارة عن أضغاث أحلام، وهنا أحببت أن أذكر قول لحبر أنكلترا الأعظم في دراسة مقارنة بين الديانات الأبراهيمية ترجمة (د. نظيرة غلاب) (فسر الأمر الألهي لأبراهيم بذبح أبنه،أنه كان لينسخ سنّة تقديم الأبناء قرابين للآلهة التي كانت رائجة في زمن أبراهيم، كما قال الباحث (طلعت رضوان) في مقالته (ذبح الأبن في تراث الشعوب القديمة) إن هذه العادة كانت موجودة قديمة قبل التوراة، ويذكر إن علماء الأنثربولوجيا، أن تلك الحكاية كانت ضمن أساطير معتقدات بعض الشعوب قبل الديانة العبرية، ومن بين هؤلاء العلماء جيمس فريزر في موسوعته (الفلكلور في العهد القديم). في حين يقول الكتاب المقدس (سفر التكوين 1-2)(وحدث بعد هذه الأمور أن الله أمتحن إبراهيم..... وإذهب الى أرض المريا واصعده هناك مُحرقة على أحد الجبال الذي أقول لك)، كما يقول القديس أغسطينوس (جُرب إبراهيم بتقديم ابنه الحبيب إسحق ليزكي طاعته الورعة، ويجعلها معلنة لا لله بل للعالم)، وعندما نأتي للقرآن فنجد نفس المعنى الذي جاء به العهدين (وإذ أبتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهنَّ)(البقرة/124).

يتضح لنا وبشكل واضح أن ما ذهب اليه فيرنر داوم لا يتفق مع ما جاءت به الكتب المقدسة (العهد القديم والجديد والقرآن) لا بالقصد من عملية الذبح، ولا بنوع الحيوان الأضحية، فنرى أن قصد القرآن هو أبراز درجة طاعة أبراهيم وأخلاصة لربه، في حين أن قصد النقوش أن صحت على قول فيرنر، هو الأستمطار، وشتان بين الأثنين، بالأضافة الى معارضة البروفسور سيما لما ذهب اليه فيرنر. أذن من خلال ما بيناه، أين قضية التناص بين النقوش اليمنية والقرآن ؟!، فالأمر الذي جاء به فيرنر يبدو برمته  محض حدس وأفتراض لم تؤكدها الوقائع. كما أن أستنتاج فيرنر هو أستنتاج أفتراضي وليس موضوعي، ولكن الأدهى أن فيرنر يرجع ويقول (لقد أثبت المفهومان الدينيان (تضحية إسحق والصيد في اليمن) أنهما بنيتان متوازيتان، ويزيد عليها قائلاً (وكذا تقريب القصة الى الفهم أن أبراهيم شيخ المستوطنة البشرية يعتمد على الأمطار من الجبل النائي، وذلك الكائن الإلهي الذي يتحكم بالأمطار، لن يمنحها إلا عند التضحية بأبن إبراهيم له، وبذلك يضمن المطر أي خصوبة الأرض ووفرة النسل) (القرآن ونقوش اليمن ص249)، أنها مقارنه مضحكة وتُثير الشفة على هذا الباحث المتخبط  في أفتراضاته الغير موضوعية، والذي يثير العجب أكثر، يقول فيرنر عن الأسطورة التي جاءت بها النقوش اليمنية، إن الشاب ينجح في قتل الإله الذي يتخيلونه في ذَكَر وحل، وبالتالي يحرر المياه، وهذا يضمن خصوبة الحرث والنسل (القرآن والنقوش اليمنية ص249). السؤال المطروح، هل هناك مشابهة بين شاب يقتل الله المتمثل بحيوان الوعل، وبين أبراهيم  أمام الموحدين الذي يقدم على ذبح ولده العزيز أطاعة لأمر الله، فأي هرطقة هذه التي يقولها فيرنر، لا والعجيب في أمر فيرنر أنه يقول (والآن لا حاجة الى المزيد من الأستطراد. إن التشابه التام بين الطقوس اليمنية وقصة إبراهيم وإسحق ظاهر للعيان) (القرآن والنقوش ص255) ياللمصيبة!.

***

أياد الزهيري 

 

في المثقف اليوم