دراسات وبحوث

أحمد يعقوب: مُقدمات في دراسة العقْل السّياسي السّوداني (1): سيكولوجيا الشّخصية السّياسية

تمهيد: لكُلِّ سلوك أشكالٌ وتجلياتٌ وتمظهرات؛ وقد تكون لتلك الأشكال دوافعها البيولوجية أو السيكولوجية، الشعورية منها واللاشعورية؛ وتجلياتها هي الكيفيات التي يتحقق السلوك من خلالها. فالسياسة فعل؛ وهي الأخرى لها مُحدداتها وتجلياتها على ما يقول  المفكر المغربي محمد عابد الجابري. إن أشكال السلوك السياسي وأفكاره ومظاهره وتداخلاته الاجتماعية الطابع وتطبيقاته وأنساق أبنيته من العقول المختلفة، كل ذلك يُشكِّل ما يُطلَقُ عليه (العقل السياسي)؛ ونسميه "عقلاً" لأن السلوك السياسي يخضع لجملة عوامل وأنساق بيئية واجتماعية وأفكار داخل منطق يُحدِّد ويَحكم تفاصيل هذه العلاقة، ونصف ذلك العقل بأنه "سياسي" لأنه ليس مُنتِجاً للمعرفة، إنما مُمارسٌ للسّلطة والحُكم أو معنيٌّ ببيان ممارستها.

يُراد لهذه الورقة (الأولى) في سلسة أبحاثنا عن العقل السّياسي السّوداني، أن تكون محاولةً لطرح أسئلة مقصيّة من الحقل  السياسي في السودان؛ رغم أنها تقع في عمق الفكر السياسي. وليست في نية الورقة ادّعاء الشمول فيما تدرسه؛ فهي تستند على عدة حقول معرفية في قراءتها للعقل السياسي، وفي دراستها المُحدَّدة عن سيكولوجية الشخصية السياسية (عنوان الورقة). تشمل هذه الحقول المعرفية (السوسيولوجيا والأنثربولوجيا وعلم النفس / السياسي والأثنوغرافيا)، وهذه الحقول تتعالق وتتداخل هنا وهناك. ومع نُدرة الدراسات  السودانية حول الأمر، وأحياناً غيابها تماماً، فالمهمة عسيرة؛ إذ إن أبحاث ودراساتٍ كهذه تستلزم جهداً وزمناً وفريقاً من الباحثين وتمويلاً لإجراء الأبحاث الإمبريقية، وهو ما لا يتوافر لكاتب هذه الورقة، فذلك يعد من أعمال المؤسسات المعرفية من جامعات ومراكز بحوث إضافة إلى الدولة نفسها.

 فوق ذلك، تُعاني مكتبتنا السودانية نقصاً فاضحاً في الدراسات المعنيّة بعلم النّفس السّياسي، ودراسة شخصية المُجتمعات السودانية (علم النفس الاجتماعي). وهنا أشير إلى دراسة د. محمد عبد العزيز الطالب، الموسومة بـ(الشخصية السودانية – دراسة أنثربولوجية نفسية) عن دار عزة للنشر 2014، وهو عمل مُهم – في تقديري - ويُعدُّ مدخلاً للبحث في هكذا قضايا. وتنبع أهمية هذين المبحثين (علم النفس السياسي/ الاجتماعي)،  من كونهما مفتاحين رئيسَيْن لفهم حالة الخلل العُضال الذي أصاب، وظل يصيب، الدولة السودانية من فشل بناء المشروع الوطني، وتعرُّض مجتمعاتنا لعُنفٍ مُنظّم وإفقارٍ وفشل تعليمي، ونشوء أنظمة دكتاتورية وانقلابات عسكرية، وفشل للثورات، والتي هي  بطبيعة الحال محصلة ونتاج مباشر لخلل شخصية مجتمعاتنا ونظام المعرفة الذي يشكل طرقها وآلياتها للتعاطي والتفكير في شؤونها العامة. ونظام المعرفة الذي أعنيه؛ هو ذلك النظام الذي نشأت شخصياتنا عليه، ويشمل العادات والتقاليد والتّوجهات الثقافية وأنساقها  ونظرتنا لأنفسنا وللآخر والعكس، ومجمل تصوراتنا عن الكون. فدراسة الشخصية السودانية، هي من الأهمية بمكان في أي مشروع نهضوي قادم، إذ أن الإنسان هو المحور الرئيسي لأي مشروع يبغي رفعته.

ويكاد المرء أن يجزم أنه لا يمكن فهم الظواهر السّياسية، ومن ضمنها  حرب الخامس عشر من أبريل 2023، باعتبارها حراكاً سياسياً؛ دون  دراسة  ومعرفة العوامل والأبعاد السيكولوجية للشخصية السياسية،  ولفضائها الكُلّي، وكيف صارت الحربُ مُمارسةً مُستمرَّةً منذ تمرُّد توريت 1955. وقد حاولت  مدرسة التحليل النفسي قراءة السلوك السياسي بطريقة غير مباشرة، حين أشارت إلى أن الصراعات السياسية قد تكون ناتجة عن الحرمان النفسي المُرتبط بصراعات مرحلة الطفولة. ومع ما للطفولة من أهمية كبيرة في تكوين شخصية الفرد وسلوكه المستقبلي، وهو ما يتطلب فهم الأبعاد النفسية لمعرفة السلوك السياسي؛ فإن هذا لا يعني أن البُعد النفسي هو البُعد الوحيد في السّلوك السياسي، فللظاهرة السياسية في السودان أبعاد أخرى، لكن يظل البُعد النفسي مقصيّاً من دائرة الاهتمام والدراسة والملاحظة، ويكتسب أهميته من  أن "السياسي" قبل أن يكون سياسياً فهو كائن بشري.

ستبني هذه الورقة رؤيتها وقراءتها على ثلاث مقدمات نظرية، أولها: التكوين السياسي  أو النشأة السياسية. وسنرى أن العناصر الأساسية التي اخترنا دراستها في التكوين السياسي هي: النشاط الطلابي كمدخل للعمل السياسي وكعنصر تكويني للسّياسي السوداني، إضافة إلى السياسي القادم من الطائفية والعقل الطائفي, وسنستخدم مصطلح (الطائفية) بمعناه الواسع المتداخل (دينياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً وإثنياً)؛ وأثر القبيلة في الشخصية السياسية. أما ثاني المقدمات النظرية، فهي اللاشعور السياسي  وسنستلف هذا المفهوم من المفكر (ريجيس دوبريه)* لنُسقطه على فضائنا السياسي في مقاربة مع ما  نظّر له المفكر المغربي (محمد عابد الجابري)**  ومع ما يشابه واقعنا، أما الخطوة الثالثة، فهي دراسة ما نتج عنهما في شكل الممارسة السياسية المعاصرة، التي كونت سلوك العقل السياسي في حيزه الضيق والمُتعارَف عليه كمسرح سياسي ومشهد يمكننا تسميته بالفضاء السائد في تعاطي العمل السياسي، أي ما يمكن الإشارة إليه بـ(هكذا هي السياسة السودانية..!) وهي إشارة جوهرية إلى عقلها السياسي. 

تبني الورقة نسقها، وتستقي معلوماتها من الواقع السوادني؛ فهي تقوم منهجياً على الملاحظة والتحليل النفسي الاجتماعي لشخصية السياسي السوداني. وبطبيعة الحال لا ينطبق تحليلها على الكل، فهنالك خصائص نوعية في كل حالة، تحمل سيادة نموذج معين من التكوين النفسي.

إن اندلاع الحرب الحالية – 15 أبريل - في السودان والأشكال التي اتخذتها والقوى والعوامل المُحرّكة لها؛ تُعد فرصة كبيرة في كشف ما يعتمل داخل مجتمعاتنا. وكما أسلفت، فإن الورقة خليط ما بين علم النفس الاجتماعي العيادي الذي يُعنى بدراسة الظواهر الاجتماعية بالطريقة العيادية، والفكر الاجتماعي  السياسي؛ ولأنها لا تستند إلى أبحاث ميدانية أو إمبريقية فقد يشوبها الشك في بعض ما سيرد فيها حول درجة اليقين؛ لكن الغاية من هذه القراءة لسيكولوجية الشخصية السياسية السودانية عبر دراسة العقل السياسي، هي محاولة اقتحام نوع من الحقول المهمة التي أُقصيت وتُركت على الهامش في  دراسات الفكر  السياسي والاجتماعي، وبالتالي لم يُنتَبه لها.

هدفي من هذه المحاولة، إثارة الأسئلة، ولفت الانتباه أكثر طرحها والإجابة عنها. وبإمكاننا أن نعد الورقة محاولة أو مدخلاً أوّلياً لقراءة منتجات العقل السياسي من مشاريع فاشلة ودولة هشة وأحزاب سياسية مُصابة بأعطابٍ وأخلالٍ اجتماعية. عقل قضى على أحلام شعوبنا وتوقها إلى التطور والرقي، بل ساهم في إفقار المخيال بصورة فاضحة، وفي سيرورته هذه أنتج صيرورة الفشل المزمن، الذي لا يبدو بأي حال أن هنالك من يحاول الانعتاق من براثنه. تعتقد هذه الورقة أن شخصية السياسي الحالية مصابة بأعطاب عدة، كالتخوين والإقصاء وأنها ذات بنية ذهنية تآمرية، ما يجعلها بعيدة عن العقل النقدي ومتكلسةً الفكر، إذ أن بنية تفكيرها ماضوية، ويتناقض خطابها مع سلوكها والعكس صحي؛ شخصية تتربّص بالآخر المُختلف عنها، وتمارس الكذب والتضليل والخداع؛ وهي العنصر الأول في فشل كل مشاريعنا الوطنية. لقد قضى العديد من الباحثين ردحاً من الزمان في قراءة المشاريع السياسية  والحراكات بمعزل عن شخصياتها الفاعلة وبنية مجموع العقل الكلي؛ فكان أن حُظينا بدراسات مهمة، ولكن تنقصها  دراسة الفاعل الأساسي نفسه؛ والفاعل مهم في أي عملية نهضوية أو تنموية.

وباختصار، فإن الورقة تدرس العقل السياسي  من منتجه (الشخصية السياسية)،  وعقوله الجانبية وتعرّفه بما يتبدّى في السلوك السياسي.

لا تضع الورقة التي نحن بصددها، تعريفاً مسبقاً تشتغل عليه؛ فالعقل يُعرَف بما ينتجهُ؛ ونتائجه مبنية على أنساقه وتكوينه (نظام المعرفة). والسياسة بما هي ممارسة سلطة أو بيان ممارستها، تتجلى في الحراكات والأنساق والأبنية السياسية. وحين يتعالق الاثنان (العقل والسياسة) تتداخل أنظمة المعرفة وأنساقها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والبيداغوجية....الخ مع التكوين النفسي للشخصية وطرق تلقيها لهذه الأنساق وما يتمظهر في سلوكها. وهكذا نرى أن المسألة تُصبح أعقد حين نقوم بدراسة تجزيئية لهذه القضايا التي تتعالق وتتفرق وتترابط بطبيعة الحال، إذْ لا مناص من هذا التداخل.

1- التكوين والتّنشئة السياسية:

 التّنشئة السّياسية هي إحدى العمليات ذات الطابع الاجتماعي، التي تُلقّن الفرد القيم السياسية والاتجاهات التي تربط وتتعلَّق بالنّسق السياسي لمُجتمع ما. وتمارس التنشأة السياسية ثلاثة أدوار مهمة: نقل الثقافة السّياسية من جيل إلى آخر، وتكوين الثقافة السياسية، وتغيير هذه الثقافة وفقاً للمتغيرات الموضوعية والذاتية معاً. ولأن تكوين السّلوك السياسي وتمظهراته المختلفة يرتبط بمدى فاعلية مؤسسات التنشئة السياسية من الأسرة إلى  المدارس والجامعات والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية، لأنها تعمل على تلقين وتكوين وتشكيل الاتجاهات السياسية للفرد؛ لذلك تكمن القضية حول قدرتنا على مساءلة هذه المؤسسات مساءلة نقدية، وفحص أطرها وعناصرها، وتبيين أوجه الخلل والنقص في أبنيتها ومستوى ونوع التربية التي تُكسِبها للفرد.

إن مفهوم التّكوين السياسي، هو مقاربة اصطلاحية لما يمكن أن ندعوه أحد أبنية العقل السياسي؛ وما ندعوه العقل السياسي نقصد به نظام المعرفة الذي شكَّل وكوَّن الشخصية السياسية المُحدَّدة. يرتبط العقل السياسي بالنظام المعرفي، والذي يحكم عملية التفكير بما هو عقل، لا بما هو سياسي، لجهة إخضاع العقلي لمصلحة السياسي، أي إنه براغماتي، يستدعي العقلي المعرفي ليوظفه سياسيّاً. وقد لاحظ علماء النفس أن ثمة سلوكاً يقوم به الفرد دون شعور به، وهو يختلف عن ردود الفعل العادية، أُطلق عليه اللاشعور السياسي (سنتناوله له لاحقاً)، كونه يسعى إلى تحقيق غايات مُعيَّنة لا تخضع لمراقبة الأنا، وسنرى كيف أن اللاشعور السياسي يؤدي أدواراً كبيرة في الشخصية السياسية.

1-1 النشاط الطلابي بوصفه مدخلاً للسّياسة:

لا يمكن فهم ودوافع وتصرّف الشخصية السّياسية السودانية المُعاصِرة، وما يتبدى منها سلوكاً وانفعالاتٍ في تعاطيها للسياسة، دون فهم حركة النشاط الطلابي في الجامعات السودانية، وفهم كيف يعمل العقل الطلابي، وتأثير ذلك الحراك على العمل السياسي، سواء في فضائه الضيق أو الحياة العامة. ويعتبر الحراك الطلابي أحد أهم روافد وآليات إنتاج السياسي السوداني المُعاصر فهو الشجرة (الحركة الطلابية) التي أنتجت هذه الثمرة (الشخصية السياسية).

شكَّلت الحركة الطلابية رافداً رئيساً للمُتعاطين والمشتغلن بالسياسة إلى يومنا هذا، ورفدت المؤسسات السياسية (الأحزاب – منظمات المجتمع المدني – النقابات.. إلخ) بالسياسيين، وأدت أدواراً كبيرة وأخفقت في أخرى كبيرة نعايش نتائجها الآن.

عانت الحركة الطلابية وما تزال تعاني من خلل فاضح لازمها منذ التكوين، فقد ورثت قمع الاستعمار وعقليته في صناعة التفرقة؛ وصراعات الطائفية والإدارات الأهلية وجماعات المثقفين واستبداد الدولة ودكتاتورية أنظمتها العسكرية، واستبداد الأحزاب السياسية نفسها؛ إضافة إلى الانقسام في المجتمع السوداني القبلي. إن الحركة الطلابية كظاهرة اجتماعية تبرز وتتضح وتؤثر، أو تبقى كامنة، تبعاً لتوافر أو عدم توافر الديمقراطية في كل مجتمع. ففي مجتمع لا تُفرض فيه قيودٌ على التفاعل الحر بين الناس، تنشأ الظواهر الاجتماعية وتنمو طبقاً للقوانين الاجتماعية التي تحكم التطور الاجتماعي، وبقدر حاجة هذا التطور للظاهرة ذاتها؛ ولكن متى مدت الديكتاتورية ظلالها في أي مجتمع، فإنها ستعوق حركة التطور الاجتماعي، وتحاول شل قوانينه الاجتماعية بما تفرضه من قوانين وضعية، فلا تكون الظواهر الاجتماعية واضحة الوجود. وكان أن أضحت الحركة الطلابية ضحية للأبنية التي شكلت الأنساق أو أطر الممارسة السياسية، بل وضحية لنسق التفكير العام في مؤسسات تعليمية، يُحاجُّ الفرد فيها بأنها مركز للتنوير والعقلنة. فالجامعة في الأساس مركز لإنتاج المعرفة والقيم، وأيضاً لتخريج النخب، وبالتالي هي فضاء لصناعة مستقبل الشعوب.

أحد أبنية الخلل في سياسي الحركة الطلابية، أنهم لم يتخطّوا هذه المرحلة حتى الآن؛ إذ ما تزال سمة التآمر والتخوين والإقصاء تلازمهم، بجانب عقلية الطالب الطوباوية وعدم تقبل النقد وممارسة العنف المادي والرمزي كعنصر أساسي في السياسة، مع قلة الخبرة بالشأن العام، إذ إن الهوة بين الطالب والجماهير شاسعة نسبة لفضاء الجامعة الضيق. أضف إلى ذلك، غياب العقل النقدي والكسل المعرفي والوثوقية في الأحكام والأفكار، لتطغى  في مثل ذلك الجو  فكرة "الحقيقة المطلقة وما سواها باطل". يمكن تحليل الحراك الطلابي وأثره في الشخصية السياسية المعاصرة نفسياً، باعتباره منتجاً ساهم فيه الأفراد المختلفون في توجهاتهم بصياغة ما يمكن أن يُطلق عليه (مفهوم السياسة) وطريقة الاشتغال عليها، منتجين بذلك أيضاً الفضاء السياسي واللاشعور السياسي أيضاً.

وبكل ما ينطوي عليه الحراك الطلابي من العنف وقمع السلطات والمنع والاعتقال والتعذيب، فقد ساهمت هذه الأفعال بشكل كبير في إعطائنا هذه الشخصية الموجودة الآن؛ شخصية هي نتاج العنف: من عنفٍ للسلطة والمجتمع والأسرة، والكبت المتمثل في قمع الغرائز والرغبات سواء من قبل السلطة أو المجتمع نفسه، والحرمان بكل أنماطه، ليكون الفرد عارياً من أي حماية أو تعاطف.

أفرزت هذه الإشكالات شخصيةً سياسيةً لا تستطيع أن تجد مدخلاً لأي حوار يؤدي إلى توافق؛ فهي شخصية لا تنمو إلا وسط الصراعات والانقسامات والانتصارات الشخصية لخطابها وتفكيرها وما تظن أنه الحقيقة، فهي لا تدرك نفسها إلا وسط هذه الأشكال من السلوك. ولا مجال للحوار الجاد وتقديم التنازلات حتى إذا جلس الناس للحوار، لأنها شخصية نرجسية، فهي نتاج أزمات كبيرة ولا تُري إلا ما ترى. أنتج الحراك الطلابي أيضاً معطى يظل يؤدي دوراً رئيساً في تفتيت أي وحدة محتملة، وهي شخصنة القضايا العامة والتاريخ في أمثلة ذلك مبذول. ونتيجة ذلك ظهرت (الشلّة).

1-2 الشلليّة – قطيع داخل قطيع:

عرّف قاموس المعاني الجامع كلمة (شِلّة) والجمع شلاّت وشلل بأنها جماعة من الأصدقاء ذات ميول واحدة. وكجزء من إفرازات الممارسة السياسة يتحلق أفراد من الانتهازيين (انتهازية واعية) حول شخصية يستطيع هو من خلالهم تحقيق أهدافه، ويستطيعون هم تحقيق أهدافهم أيضاً، على حساب المشاريع والقضايا. وهذه الشللية في غالبيتها تنشأ للتآمر على القطيع الكبير والسيطرة على كل شيء من الموارد واتخاذ القرار..الخ. وتذخر مؤسساتنا بهذه النوعية، فالشلّة توجد في المؤسسات السياسية كلها دون استثناء، وفي المؤسسات الخدمية في الصحة والتعليم والمصالح الحكومية والمنظومة الأمنية، وكذلك في الوسط الثقافي، وأخشى أن تطرق أبواب أسرنا أيضاً كظاهرة خطيرة جداً.

"الشلة" دائماً صغيرة في مجموع الأفراد، ولكنها نافذة، وهي البذرة الأولى لأي انشقاقات، ولأي شلة أخرى جديدة. صعدت الشلة السياسية وامتطت الفضاء السياسي؛ وأقول الشلة وليست النخبة، فهي ظاهرة لا تُعبِّر عن المفهوم التاريخي للنخبة ودورها في الحياة العامة، بل العكس فإن المجتمع السوداني بعقليته هذه؛ عاجز عن إنتاج نخب قادرة على العمل بموازاة المؤسسات، وتعبر عن عجز آخر يتجلى في كون المؤسسات التقليدية عاجزة عن إنتاج أدوات ديمقراطية للمشاركة. حدث ذلك في مجتمعاتنا التي يمكن وصفها بمجتمعات الانتقال الطويل؛ وهي المجتمعات التي تتحدث كثيراً عن المشاركة بدون مشاركة فعلية؛ وتتحدث عن الرأي العام وفي الأغلب تعجز عن إنتاج رأي عام أو توافق عام، فيما تحاول الشلل السياسية وارتباطاتها الإعلامية تصنيع الرأي الذي تريده والتعبير عنه، وكأنها هي من يمثل الرأي العام وهذا الأقسى فيما يحدث. لم تظهر الشلة السياسية مع قيام الحركة الطلابية، ولكن الحراك الطلابي عمّقها ووضع أسسها، فنحن نرى أن تأثير الشلة الطلابية على العمل السياسي الحالي ما يزال مزدهراً، ويمكن رؤية السياسيين الذين ما يزالون مأسورين بـ(الدفعة). وتعتبر الشلة وزمالة الدراسة  مهمةً في الالتحاق بالقطيع الصغير الذي يقود السياسة ويتذرع باحترافيتها مقصياً الآخرين؛ والشلة آلية لتوفير سياق يمكن من خلاله تأسيس علاقات شخصية وثيقة داخل العمل السياسي، بما يضمن عملية التبادل وضمان الولاءات.

1-3: كيف يفكر العقل الطلابي؟

الدولة المستبدة لضمان استمرارها تلجأ لاستئصال المخالفين والمعارضين والسيطرة على المجال الجغرافي والفضاء الاجتماعي، والسيطرة على مواطنيها من أجل الاستقرار الداخلي، وهذا هو منهج عمل الدولة في بلادنا وكذلك الحركة الطلابية، فالحراك الطلابي في جامعاتنا يفكر بعقل الدولة المستبدة، ويعتبر أسوار الجامعة حدودَ دولته، وبالتالي فعليه حماية الحدود من الأخطار الداخلية والخارجية المُتمثلة في التيارات المخالفة في المرجعية والتوجه السياسي، والمتمثلة أيضاً في الدولة نفسها، وأيضاً السيطرة على فضاء الجامعة لمواجهة أي فعل طلابي يمكن أن يشكل خطراً أو يعبر عن رأي يخالف رأي الجماعة الحاكمة، ويمكن رؤية ذلك في (أركان النقاش) التي غالباً ما تنتهي بعنف مادي أو رمزي. إن التفكير بهذه العقلية (عقلية الدولة)، أنتج لنا إشكالية أخرى وهي إشكالية الصراع الأفقي أو تغليب الصراع الأفقي (الطلابي طلابي)، حيث انتقلت الحركة الطلابية، من حركة متصارعة ضد قوى الاستعمار آنذاك، إلى حركة متصارعة فيما بينها، إلى أحزاب سياسية تتصارع، وإلى قادة أحزاب يتصارعون ويتلاسنون كل يوم على ما نشهد في وسائط الإعلام.

وقعت الحركة الطلابية في إشكالية الانفصال، الانفصال أولاً عن مجتمعها، فهي حركة مُسوَّرة داخل أطرها الجامعية، ولم تخرج من هذه الأسوار إلا لماماً. ثم إن أشكال الانفصال عن المجتمع ومعاركه من أجل التحرر، في اعتقادنا قد نتج عن إشكال أكبر نسميه بإشكال استبداد التاريخ؛ ففي كثير من الأحيان عِوض أن يكون التاريخ دافعاً للعطاء والتقدم، يصير نفسه كابحاً لهذا العطاء وذاك التقدم، حينما نجعل منه مرجعية نهائية؛ وقمة ما يمكن أن يصل إليه العقل، وحينما نسقط في تمجيد بل حتى تقديس ذلك التاريخ وصانعيه، فيصبح التاريخ هو المُحدد لفكرنا وسلوكنا عوض أن يكون من المحددات فقط، وهذا بالضبط ما وقع فيه العديد من سياسيي الحركة الطلابية، إذ لم يستطيعوا  الخروج من تاريخها، أو قل من تاريخها الذي صنعه جيل غير جيلها الآن، فالصراع الذي أطر أجيال الحركة الطلابية سابقاً ما يزال نفسه الذي يُؤطر العمل السياسي الحالي.

ورث سياسيو الحركة الطلابية تراثَ صراعٍ وأخطاء جيلٍ سابق ومفارق لها في الواقع والزمان، في غير مقدرة على القيام بعملية نقد ذاتي لذلك التاريخ، لإخراج غثه من سمينه، والتحرك بأكثر برؤية واقعية وفاعلية، والانتفاضة على عقلية “هذا ما وجدنا عليه آبائنا وإنا على آثارهم لمقتدون”، وحيث حينها سنعطي للتاريخ حقه الذي يستحق دون إفراط ولا تفريط، من خلال تنسيب صوابيته، الشيء الذي سيقودنا أيضاً إلى تنسيب قناعاتنا وسلوكنا وإخضاعهما لثنائية الصواب والخطأ التي تميز الإنسان وحركته.

يمكن إيجاز خلل الحركة الطلابية في جامعاتنا، وما أنتجته من سياسيين في الآتي:

 أولاً: استبداد التاريخ؛ فسياسيو الحركة الطلابية مأسورون في الزمن الماضوي فكراً وسلوكاً، وهي إشكالية ينبغي أن تُعالج بقراءة نقدية للتاريخ الطلابي وتفحص أنساقه والاستفادة منه في معرفة الأخطاء وتجاوزه.

ثانياً الاحتجاج: إذا كان الاحتجاج هو السمة التي ميزت مسار الحركة الطلابية منذ عقود، حتى أصبح مُحدِّداً من محددات الهُوية عندها، نرى وجوب المزاوجة بين الاحتجاج والإنتاج، فإذا كان طبع الشباب هو الاحتجاج فطبع الجامعة هو الإنتاج، والمقصود بالإنتاج هنا، هو تقديم المقترحات والرؤى، من أجل إصلاح التعليم وتجاوز أعطابه، فالاحتجاج لا يكفي لكي نعبر عن ذواتنا، إذ لا بد حتى يكتمل التعبير ويكون في أبهى صوره من الإنتاج. 

ثالثاً: الأزمة الهوياتية؛ وكما نعرف فإن أزمة الهوية في بلادنا قد سال فيها حبر كثير؛ ولكن  يبدو  أن طالب الجامعة يتعرّف على معضلة الهوية التي يعيشها مجتمعه في حرم الجامعة بعمق وتكثيف عالٍ وممارسة واضحة لأشكال العنصرية إلى درجة أن تُؤسس روابط عرقية وقبلية داخل مؤسسات المعرفة، ويؤخذ هذا الإشكال إلى سوح العمل العام.

 وبكل هذه المعضلات والإشكالات التي رأيناها آنفاً، فقد شكلت أجزاء كبيرة منها، وطبعت عقل السياسي، وتمظهر ذلك في سلوكه وكيفية ممارسته للسياسة.

2- السياسة والقبيلة والسلطة:

جانب آخر من جوانب التكوين والتنشئة السياسية، يأتي من الدور الذي تمارسه القبيلة سياسياً؛ ولعلّ دراسة بنى السّلطة في المُجتمع الرأسمالي الصناعي تتطلّب بشكل عام؛ دراسة علاقات الإنتاج والصراع الطبقي. ولكن تختلف مجتمعاتنا حين تُطرح مسائل بنى السّلطة فيها؛ فهي دراسة لعلاقات القرابة وكيفية انتقال السّلطة من نصاب رئاسة إلى نصاب رئاسة آخر بحسب المفكر الاجتماعي عبد الرحمن ابن خلدون.

ولا تطمح ورقتنا في دراسة سوسيولوجية معمّقة لعلاقات القرابة في القبيلة، كإطار رسمي لها ومفهومها وكينونتها وتأثيراتها على علاقات السلطة وأبنيتها وصوغ خطابها، إذ الورقة لا تسمح بذلك، إنما اعتمدت على المقاربة لمحاولة فهم خطاب القبيلة وخطاب الدولة، وكيف وظفت الدولة القبيلة في خطابها واستغلّ زعماء القبائل هذا التوظيف لمكاسب وامتيازات على حساب مفهوم المواطنة، والذي هو جوهر مؤسسات وبناء الدولة الحديثة.

فالقبيلة في تكوينها تنظيم مغلق؛ يستقبل الأفراد لكنه لا يقبل خروجهم منها؛ مما يعني أنها في نشأتها وفي تكوينها لا تستطيع أن تستوعب إلا شكلاً واحداً ونوعاً واحداً من الأعضاء، وحتى إن اعتبرناها دولة مصغرة؛ فطبيعة قراراتها لا يمكن أن تسري على أناس خارج نظامها العرفي والمكاني، فقراراتها تمس الأفراد المنتمين إليها ولا تسري على أفراد خارج نطاقها الإثني والمكاني. وإذ اعتبرنا عاملَي القوة والإكراه اللذين كانت تستعملهما القبيلة في وقت سابق لبسط نفوذها وحكمها، وقد اتفقت القبائل على هذه الأساليب؛ ففي الوقت الحاضر لا يُولِّد هذا الخيار إلا الحقد السياسي والعنف والذي يطال المؤسسات الدستورية والسياسية وحتى الأفراد في كثير من الأحيان الذين يصبحون ضحايا لقبائلهم (نموذج حرب 15 أبريل).

في تعريف حديث عرّفت القبيلة بأنها "جماعة من الناس ينتمون حقيقة أو وهماً إلى أصل مشترك"، ويُميِّز القبيلة وحدة اللغة والثقافة المشتركة لدى جميع أفرادها؛ إضافة إلى رابطة الدم والنسب، وهو عامل تجانس أساسي يُضاف إليه الموقع الجغرافي بحدوده المعلومة. أكثر ما يُميِّز القبيلة هو ذوبان الفرد في الجماعة والجماعة في الفرد، وهنالك دائماً ميل قويٌّ إلى الاستقلال وعدم الخضوع لسلطة الدولة، والميل إلى الحرية المطلقة داخل هذا الفضاء المُغلق، وهو ما يمكن التدليل عليه بأن كلمة زعيم القبيلة داخل هذا الفضاء أقوى من كل مؤسسات الدولة.

داخل هذا الإطار المذكور آنفاً؛ ينشأ خطاب القبيلة وفق عناصر رئيسة؛ تتمثل في توفيرها للعصبية، وتمثل عقلية عامة تحكم جميع أشكال العلاقات السياسية من خلال تخصيب الذاكرة الجماعية للمجموعة؛ وفي خطابها هذا تتصف القبيلة ببساطة السلطة السياسية داخلها وسهولة الاتصال السياسي بين زعيم القبيلة وأفرادها وهنالك الولاء المطلق للقبيلة. يصف علم الاجتماع السياسي القبيلة كمفهوم إقصائي بامتياز، ولا يمكن الانضمام إليها في أي وقت، وإنما ننضم إليها مجبرين ومكرهين منذ ولادتنا، ولا نملك الاختيار في ذلك مما يجعلك أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الالتزام والانصياع للقبيلة وقراراتها أو أن تتبرأ منك وتصبح منفياً خارجها، وهو ما يعني الاستبداد المطلق القبلي في منظور علم الاجتماع السياسي.

تبني القبيلة خطابها في فضائها المغلق على أسس إعلاء مقام الـ «أنا» وانتقاص قيمة «الآخر»، وهو خطاب يُفضي في محصلته النهائية إلى تكريس صيغ مديح الذات وهجاء الآخرين بلا مواربة. ولم تستطع النصوص الدينية المقدسة المؤثرة عادة في الوجدان في تحجيم هذا الخطاب؛ بل إنّ خطابها الموغل في إبراز الأنا قد تجاوز النص الديني في قوله (إنا جعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا)، وهو ما يُفسّر قدرة القبيلة على إبادة مجموعات قبلية أخرى دون أي وازع سوى خطابها.

خطاب القبيلة المبني على مديح الذات وإعلاء شأنها وهجاء الآخر، هو خطاب يُؤرَّخ له؛ حينما كانت القبيلة تكتلاً بشرياً صغيراً قائماً بذاته، يرى في تكتّله القدرة على مقاومة التكتلات الأخرى التي تُشكِّل خطراً عليه، فكان لا بد من العمل على بث الشعور بالتفوق، والعمل في الوقت نفسه على تعزيز خطاب العلو والتفوق وتضخيمه ومقاومة نصوص المساواة وتهميشها. لكنه صار فيها بعد خطاب الخصومة والعداوة الذي يجعل القبيلة تقف دائماً في موقف الخصم من كل قبيلة مجاورة لها أو بعيدة عنها، بل يجعلها في موقف الخصومة أيضاً مع بعض الطارئين عليها الذين لا يستحقون الانتماء الكامل إلى دمها الصافي النقي؛ وفي المحصلة فإن خطاب القبيلة هو خطاب إبعاد ونفي لكل ما سواها.

ديسمبر وفتح الأضابير:

فتحت حراكات ديسمبر؛ المجال أمام إعادة النّظر في طبيعة العقد الاجتماعي - الذي ينظم العلاقة بين الفرد والدّولة، وبين المجتمع والدولة. لقد وضع الحراك الذي اندلع في نهاية العام 2018 مفهوم الدّولة العميقة، القائمة على تشابك مصالح الفساد مع مصالح المؤسسة الأمنية، وعلى حرمان المُجتمع من أي قدرة على الحركة المستقلة أو الحُرية أمام الطّاولة لإسقاطها. لكنها طرحت إشكالية أخرى تتعلق بشكل الدولة وطبيعتها التي تروم إعادة بنائها، وما يتعلق بها من مسائل مثل المواطنة وإنهاء قضايا التمييز بين المجتمعات - وشكل الحقوق والواجبات؛ وقد برزت القضايا المذكورة آنفاً بشكل صارخ تبدّى عبر المُمارسة في الفضاء السياسي الذي تحول إلى فضاءٍ للعنف مع تحولاتٍ كثيرة نشهدها في تنامي ظواهر مثل الشرخ الاجتماعي والعنف والتّكتل القبلي والصّراعات السياسية (حرب 15 أبريل)، التي تأخذ أطرها ومرجعيتها من الأحلاف القبلية وكلما ضعفت سلطة الدولة ونظامها انتعشت القبائل.

إن الكُتل والكيانات الاجتماعية صوتها أعلى وأقوى من ذي قبل؛ في المشهد السيّاسي. ولا أبالغ حين نقول إن تأثير الكيانات الإثنية في بلادنا أضحى أكبر من أي تأثير آخر سواء كانت أحزاباً سياسية أو ائتلافاً سياسياً أو منظمات المجتمع المدنية أو نقابات. إن القبائل ما تزال تتمتّع بسيادةٍ ما على نفسها، وعلى مواردها، وتواصل حكم نفسها بنفسها في كثير من المجالات بحسب قوانينها أو تقاليدها الخاصة، وهذا يفرض بعض التساؤلات؛ منها كيف يجري تقاسم السيادة بين القبيلة والدولة من دون إلغاء هذا أو ذاك من الفريقين؟ فكانت أن أضحت القبيلة؛ عقبة أو تحدياً لتشكّل وقيام الدولة الوطنية في ظل سيطرة النّظم القبلية والصراعات المتكررة في الأقاليم والأطراف.

يتميّزُ تاريخنا السوداني بالعديد من التناقضات الفجّة؛ ففي مشهدنا السّياسي الذي أضحى مختبراً  لتجريب كل الأيديولوجيات  التي أثبتت فشلها المريع من اليمين إلى اليسار؛ كانت القبيلة هي (الأيديولوجيا/ البيولوجيا) الوحيدة المستقرة التي لا تتغيّر أبداً والتي يلجأ إليها كل المهزومين من النخب / الشلة السياسية والمثقفين والإدارات الأهلية، باعتبارها البيت والحاضنة الرئيسة التي تؤمّن الفرد من غوائل الآخر؛ وسرعان ما يتم التخلي عن الأيديولوجيا والفكر لصالح الكيانات الإثنية.

يبدو  كما لو أن العقل السياسي قد قسّم شعوب السودان تبعاً لقبائلهم وطوائفهم وجماعاتهم بدل الانتماء السّياسي والفكري العابر للتقسيمات الاجتماعية، وهو ما أنتج ما يمكن تسميته (هجيناً) حائراً بين الانتماء السّياسي والولاء القبلي، مما أتاح للفاعلين ومتعاطي السياسة فرصة لتفكيك عناصر قوة المؤسسات عبر استثارة النزعة القبلية وزجّها في مواقف سياسية؛ أي غزو الدّولة عن طريق القبيلة وتفكيك نزعة أي مؤسسة حديثة على غرار أن (الدولة نفسها مؤسسة حديثة)، كان ذلك عبر اقتصاد الريع العشائري حين تتحول الدولة إلى غنيمة لقبيلة ما وعن طريق الدوائر الانتخابية والبرلمان. وبفعل قوة النخب (زعماء القبائل) فقدت الدولة هيبتها وتحولت إلى مجال للغنيمة، فنتيجة عزل القبيلة كأعضاء عن الدولة لصالح النخب القبلية وعجز الدولة عن التعبير عن المجموع الوطني ومصالحه؛ أصبحت الدولة في إدراك الناس وتصوراتهم حالة طارئة، وقانونها لا يُطبَّق إلا على الضعفاء؛ لذا فإن أغلب الخاضعين للدولة من عموم الناس يحسون بالظلم والقهر وهذا جعل علاقتهم سلبية بالدولة.

وفي المخيال السوداني عموماً؛ ترى الفئات أو الكيانات  القبائلية المُستَبعدة من الموارد والسلطة، أن تنظيمات ما قبل الدولة والتي تشير إلى القبيلة؛ ترى هذه الفئات أن هنالك قبائل محددة في السودان تسيطر على الموارد والسلطة وأنها مؤثرة في قرارات الأفراد وذات وزن في بناء التنظيمات الاجتماعية والسياسية الأخرى، مثل الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني، بل حتى في المؤسسات التعليمية، مما حدا بالبعض إلى تأسيس روابط قبلية في الجامعات والمعاهد العليا في صروح أكاديمية يحاجُّ فيها الفرد بأنها مراكز للتنوير المعرفي والعقلانية.

تطرح مسألة القبيلة وتأثيراتها الكبيرة على صِنعة السياسة أو شكل القرار في الدولة؛ مسائل أخرى تتعلّق بخطابات الفاعلين السياسيين ومؤسساتهم الحزبية؛ وإلى أي مدى ساعدت هذه الخطابات في تغلغل القبيلة بشكل كبير في مفاصل الدولة، بجانب أطروحاتها كبديل للدولة نفسها فعلياً من خلال سيادتها على الأرض وتنفيذها للقوانين الخاصة في الجغرافيا التي تحكمها والاستنفار الذي تقوم به حال نشوب أي نزاعات مع القبائل الأخرى، وهي عناصر رئيسة تحتكرها الدولة الحديثة، ومدى الالتفاف والتجاوب الذي يلقاه خطابها والذي يوظفه السياسيون بشكل كبير في صراعاتهم السياسية وفي عملية التعبئة الإثنية لبرامجهم، وكذلك استخدامه لاغتيال خصومهم معنوياً ومادياً.

 ومع ذلك، فهنالك حضور باهت للمسألة القبلية في خطابنا السياسي، وأحسب أنه لا يُعرف أهميتها وخطورتها في آن. ونجد موضعة القبيلة في الخطاب السياسي تأثرت بالنزعات الأيديولوجية وانتهازية الساسة والفاعلين سياسياً، أما موقعتها في الخطاب الإعلامي فقد ارتبط بالأزمات الاجتماعية والسياسية، والتي تحدث حين تبرز الأحداث القبلية كتعبيرات احتجاجية مطلبية، وهو تحدٍّ يَفشل ويعجز فيه المشتغلون بالسياسة ومنظمات المجتمع المدني في تفسير آليات اشتغال التركيبة الاجتماعية والثقافية للمجتمع، فعقلهم السياسي أحد أعمدته، ويستند على العقل القبلي.

لعل أبرز عناصر الخطاب السياسي السوداني المُخاتِل دوماً هو طرحه لخطاب القومية والتماسك واللُّحمة الوطنية، وهو خطاب عام يبثّ في المنصات الحزبية والرأي العام، ولكن الوجه المخاتل له هو الخطاب الخاص في الدوائر المُغلقة، وأعني بها القبيلة المُعيَّنة، التي تُشكِّل رأس الرمح للتنظيم السياسي، كأتباع أو جماهير، ويمكن أن نستلف مصطلح الحاكورة لنَصِفَ به تنظيمات سياسية تنشط فيها القبيلة كفئة مؤثرة في مركز اتخاذ قراراها.

2-1: العنصرية والعقل العنصري:

لا تنبع التفرقة العنصرية من البشرة، بل من العقل البشري، والذي هو أسُّ الأوبئة، وبالتالي فإن قضايا التمييز ينبغي أن تبدأ بمُعالجة الأوهام العقلية التي أفرزت مفاهيم زائفة، على مر آلاف السنين، عن تفوق جنس على آخر من الأجناس البشرية (1). ففي جذور هذا التعصب العرقي تقبع الفكرة الخاطئة بأن الجنس البشري مُكوَّن من حيث الأساس من أجناس منفصلة وطبقات متعددة، وأن هذه الجماعات البشرية المختلفة تتمتع بكفاءات عقلية وأخلاقية وبدنية متفاوتة، تستوجب أنماطاً مختلفة من التعامل أو على هذا الأساس يجري قتلهم وإبادتهم.

تُعتبر العنصرية وخطاباتها إحدى أهم مشكلاتنا الرئيسية والتي أعاقت نمو وتطور الدولة السودانية منذ استقلالها؛ وقد ساعدت النخب (الشلة)  السّياسية والأهلية والمُثقّفون على نموّها وانتشارها في مجتمعاتنا تارةً بالسكوت والصّمت عن المُمارسات العُنصرية، وتجنّب الحديث عنها، وتارةً بالاستفادة منها، وذلك بتحريض القبائل والمُجتمعات على الاقتتال بوهم العرق المُتفوِّق أو الأرض أو الموارد. إن عدم إصدار أي قانون يجرّم  العنصرية ويفضح ممارساتها بحق شعوبنا حتى الآن في بلادٍ عمرها ستون عاماً ونيف، يُعتبر فضيحة بكل المقاييس؛ في بلاد شهدت وتشهد حروباً أهلية ما قبل استقلالها، وحين تشكل العنصرية والعرق والإثنية الأعمدة الرئيسية لنشوب الحروب وموت الناس.

أصبحت  العنصرية تتغذّى في بلادنا بعوامل كثيرة؛ منها الضغط السّياسي والاقتصادي المتزايد الذي تعرفه مجتمعات مختلفة من العالم في وقتنا الحالي. وبعبارة أوضح؛ اتساع رقعة التباين الاجتماعي سياسياً واقتصادياً سواء على مستوى العلاقات القومية أو على مستوى الجماعات المختلفة داخل المجتمع الواحد، حيث الصّراع على أشدّه من أجل المصالح وفقدان الأمن والتماسك الاجتماعي.

 إذا أردنا تحليل العنصرية سيكولوجياً فيمكن القول؛ إن الخوف من الاختلاف والمُغايرة وعدم تقبل فكرة عيش الآخر؛ يصبح العامل الأساسي المُسبِّب للصّراع العنصري بما يُخلِّفه من أحقاد وكراهية وصدام دموي بين الجماعات المتصارعة عنصريّاً، وكلما  ازداد هذا الصراع قَوِيَ تماسك كل جماعة بعدائها للجماعة الأخرى، وتختل المعايير الاجتماعية فيما بينها، وتصبح الروابط الاجتماعية التي تربط أفراد المجتمع متلاشية وتتحول العلاقات الاجتماعية من علاقات تعاونية إلى علاقات تنافرية، فيضحي المجتمع بذلك مجالاً لثورات واصطدامات اجتماعية وفوضى خطيرة، تهدد سلامة المجتمع وأمنه - كما نرى في (حرب 15 أبريل) - إضافة إلى أن العنصرية مرض نفسي، فهي ظاهرة نفسية أيضاً ترمي إلى التأكيد والمغالاة في احترامها، لدرجة أن الفرد المتعصب عنصرياً لا يرى العالم إلا في ميدان ذاته الضيق، فيتّسم سلوكه بالمظهر العدواني، وكما يقول (هامبري) في كتابه "أمريكا السمراء": "إن التعصب نوع من أنواع النرجسية، فمغالاة الأفراد في حب أنفسهم تدفعهم إلى مقت وكراهية الآخرين الذين يختلفون عنهم وتحول بينهم وبين التفكير السليم، ولهذا فالجماعة بالنسبة للتعصب تنقسم إلى قسمين: جماعة داخلية وجماعة خارجية لأن التعصب يؤدي إلى عزل الجماعات المتعارضة، وفي حالة التوتر للجماعة المتعصبة يتسم سلوكها بالعداء الخارجي نحو الجماعة المتميزة عنها في المظهر فتكون كبش الفداء ويزداد اضطهادها ومعاداتها كلما رافق هذا السلوك العدائي تبريرات وإشاعات مفتعلة تمس الجماعة المضطهدة، وخاصة إذا كانت جماعة ضعيفة (فالضعيف يشجع الناس على الاعتداء عليه) كما يُقال.

3- الطائفية السياسية والسياسي الطائفي

الطائفية هي أحد أنماط سياسات الهوية، وسياسات الهوية شكل من أشكال المشاركة الشعبية؛ فالطائفية السياسية هي أيديولوجيا مُوجَّهة، وتسعى الطائفية السياسية إلى "أثننة" الطائفة الدينية، أي التعامل معها باعتبارها جماعة يشترك المنتمون إليها في صفات موروثة ثابتة منفصلة عن الإيمان أو عدم الإيمان بالدين، باعتبار أن التبعية التاريخية لهذا الدين أو المذهب كافية لتشكيل أسطورة منشأ الطائفة والذاكرة التاريخية (المظلومية والأمجاد الغابرة في آنٍ معًا)، والصفات الثقافية المشتركة(2).

وتتجسد الإثنية في مجتمعنا كما هو معبّر عنها، في مشاريع سياسيّة وخطاب قومي وصناعة السياسيين، وفي الحياة اليوميّة أيضاً وفي التصنيفات العمليّة للمعطيات التي يُصادفها الإنسان في حياته اليوميّة إلى فئات وخرائط معرفيّة وأطر خطابيّة وروتين وأنماط تنظيميّة وشبكات اجتماعيّة ومؤسّسات. هكذا يكمن تسميتها إثنيّة الحياة اليومية، أو إثنيّة الأيام العاديّة.

والمجتمعات القبلية؛ يتحكم فيها العقل الطائفي ومفهوم العقل الطائفي الذي أصيغه هنا هو: عقل مغلق على عناصر تكوينه سواء الرمزية أو المادية فهو منغلق داخل إطار رؤيته ويملك الحقيقة المُطلقة ومأسور في الماضي الراكد، وهو نرجسي تجاه أي حقيقة خارج إطاره. والطائفة ككيان اجتماعي قائم بذاته، متماسك بلُحمته الداخلية، عميق الجذور في وجوده. وبناءً على ذلك تُعتبر الطائفة هي الوحدة الاجتماعية الأولى، لا الفرد. وهي مدخل الفرد ومعبره باتّجاه الدولة، أي أن الفرد لا يوجد في الدولة كمواطن، إلا بحسب موقعه الطائفي. والعقل الطائفي بالأساس مبنية أنساقه على زمان ماضوي.

اقترنت كلمة الطائفة بالدين على الدوام والتحيزات المذهبية، ولكن المفهوم يسبح في أفق أوسع من الدين. وإذا اعتبرنا الطائفية هي تحديدَ الفرد لهويته بالتعصب لانتماء ديني أو مذهبي إلى الجماعة أو الطائفة، بحيث يتحدد بموجبها سلوك الفرد تجاه بقية الأفراد داخل جماعته هذه وخارجها، أو إذا اعتبرنا الطائفيّة «تحديد الأعمال والسلوكيات والممارسات بواسطة الإيمان بالفوارق الدينيّة الناجمة عن جعلها حدوداً تمثّلُ التراتبيّة الاجتماعيّة والصراعات، وذلك في حالة وجود تديّن وصراعات دينية فعلاً، فيمكننا القول إنه، على مستوى الهوية، لم تكن الطائفة الدينية دائماً إطاراً للتعريف حتى حين كانت الثقافة الدينية هي السائدة". (4) فحتى في ظل هيمنة ثقافة دينية، أدت بنى اجتماعية مثل القبيلة والعشيرة والعائلة الممتدة أدواراً أكثر أهمية كثيراً في حياة الفرد، وكان لها أثرٌ كبيرٌ في تحديد هويته وسلوكه في الماضي.

  ونقول إن المجتمع السوداني طائفي كما في حالة الإثنية، حيث تتحول الطائفية إلى بنى وعلاقات اجتماعية مفروضة على الفرد حتى لو لم يكن طائفياً. وقد استنتج باحثون أن الطائفيّة ليست مجموعة أعمال فرديّة شاذة أو منحرفة، بل هي بنية اجتماعية ذات خصائص غير متعلقة بصفات الأفراد بالضرورة. (3) فمن الممكن أن يكون الأفراد طائفيين أو غير طائفيين، بمعنى أنهم يحملون أفكاراً مسبقة ضد الآخرين، ولكنّهم بالضرورة مُطيّفون أو يجري تطييفهم في المجتمع الطائفي، أو في النظام الطائفي، حيث الأسماء، وأماكن السكن، وفرق كرة القدم، وأمور كثيرة أخرى ترتبط بالانتماء الطائفي. يستند العقل الطائفي على النكوص النفسي  وهو الرجوع إلى أبنية سايكولوجية أقدم عهداً نتيجة جذب تمارسه إزاء ذكريات حاضرة ذات قوة كبيرة؛ الأمر الذي يحيي مرحلة نفسية سابقة طُمست انفعالاتها وصُرفت بسلوكيات بدائية تتخذ منحى تقهقرياً"(4)  ويعجز العقل الطائفي عن التفكير في الهنا والآن إلا باستدعاء الزمن القديم المحمّل بالرموز والشخوص.

إن نُظمنا وأنساقها ليست طائفية أو أقلَّوية بالمعنى الثّقافي، إلا أنها نظمٌ أقلَّوية بالمعنى الاجتماعي للكلمة. ويتأسس على هذه المقاربة القول بأن الطائفية سواء في أحزاب اليسار أو اليمين ظاهرة مرتبطة بنظم سياسية استبدادية، لا يمكن لغير استبدادها أن يحرس امتيازاتها واحتلالها موقع السيطرة على الموارد الوطنية وتحديد القرارات المهمة بشأن توجيهها وتوزيعها، ويحدث هذا على مستوى الممارسة سواء داخل أحزابنا السياسية أو على مستوى الدولة. ويمكن أيضاً استخلاص أن الطائفية لا تُصنع خارج السياسة أو السلطة أو بمعزل عنها. يمكننا القول إن التركيبة الاجتماعية لأحزابنا السياسية التي ينتمي أعضاؤها إلى طبقات اجتماعية تتناقض مصالحها الطبقية؛ ينعكس سلباً على برامجها وعلى العلاقة بين أعضائها وعلى العلاقة فيما بينها، وبالتالي فالطبقة المتمكنة من القيادة الوطنية أو الإقليمية، أو المحلية هي التي توجه عمل الحزب بطريقة تنعدم فيها الديمقراطية، مما يجعل العلاقة القائمة بين أعضائها استبدادية كامتداد للاستبداد المخزون والممارس من الطبقة الحاكمة وتاريخنا السياسي كفيلٌ بإيضاح تلك النقطة.

غياب الديمقراطية داخل هذه الأحزاب، يجعلها مجرد تعبير عن تكريس ديمقراطية الواجهة. أما الديمقراطية الداخلية فإن وجودها غير قائم كما تدل على ذلك تشكيلة أحزابنا السياسية التي تتغير باستمرار اعتماداً على الممارسة الانتهازية التي تطبع علاقة المنتمين إليها بقياداتهم المحلية والوطنية. وقلما نجد الحرص على الانتماء المرتكز على القناعة بالأيديولوجية والتنظيم والموقف السياسي. فوضعية كهذه تقف عند حدود أحادية الرأي المطبوعة بالوثوقية التي يترتب عليها ممارسة الإقصاء ضد الآراء المخالفة داخل كل حزب على حدة؛ تكريساً لممارسة تبعية الأعضاء الحزبيين لقياداتهم التابعة بدورها للطبقة الحاكمة، والمرتبطة أصلاً بمراكز الهيمنة العالمية التي أصبحت تفرض شروطها على كل شيء بما في ذلك الأحزاب المستفيدة من الوضع التبعي.

4- اللاشعور السياسي:

وبما أن الأفعال الإرادية خاضعة للشعور والمراقبة، فإن الأفعال الأخرى الصادرة دون مراقبة سُمّيت بالأفعال اللاشعورية، ويدين الطب النفسي بهذا المصطلح  إلى عالم النفس  سيغموند فرويد والذي يعزوها إلى الرغبات المكبوتة والدوافع الغريزية، حيث تعبر عن نفسها من خلال الأحلام وفلتات اللسان (5) وغيرها من الأفعال اللاإرادية. وهكذا صار يُصنَّفُ السلوك الإنساني بأنه سلوك صادر عن الشعور عن وعي وقرار وتصميم، وسلوك صادر عن اللاشعور لا تتحكم به إرادة المرء بل يفلت من الرقابة الشعورية، رقابة الأنا ليُلبّي حاجات غريزية ورغبات مدفونة ومكبوتة منذ الطفولة.‏

ويأتي عالم النفس كارل غوستاف يونغ ليعطي مفهوم اللاشعور أبعاداً أخرى، فالكائن الإنساني عنده عبارة عن مستودع أو وعاء تاريخي أو وعاء من التاريخ فيه جينات عضوية وثقافية وسياسية ودينية تتحرك باللاشعور الجمعي، وداخل كل دماغ كاميرا خفية تحفظ كل شيء وتُسجّل كل شيء دونما شعور منا. يقول يونغ إن "اللاشعور ليس رغبات فردية فقط وإنما أيضاً بقايا نزعات وعواطف جمعية تنتمي إلى ماضي البشرية القريب منه والسحيق، وتنتصب على شكل نماذج تشكل نمطاً من اللاشعور المشترك الجمعي. وهي رواسب دفينة في النفس البشرية ترجع إلى تجارب وخبرات النوع الإنساني يمتد بعضها إلى الماضي السحيق وما ورثه الناس وما تركته فيهم حياتهم الاجتماعية من العشيرة والقبيلة والأمة، وما ترسب في نفوسهم من خلال تجاربهم الخاصة ونظرتهم للمستقبل". كل ذلك يشكل في نظر يونغ اللاشعور الجمعي الذي يتحكم بصورة أو بأخرى في سلوك الفرد وسلوك الجماعة.‏

 كيف يتمظهر اللاشعور السياسي:

يتمظهر اللاشعور السياسي حين يأخذ طابعاً سياسياً لأي جماعة منظمة سواء أكانت حزباً أم قبيلة أم أمة وهو يختلف عن اللاشعور الجماعي النفسي. فالأمر يتعلق بعلاقات سياسية واجتماعية وليس شعوراً فردياً، وبالتالي حتى لو تغيرت القاعدة المادية للإنتاج يبقى اللاشعور السياسي الجماعي مستقلاً عنها. ووفق دوبريه فإن العلاقات الاجتماعية في المجتمعات الأوروبية تقع خلف العلاقات الاقتصادية؛ بينما في مجتمعاتنا فإن أنماط الإنتاج مرتبطة بالعلاقات الاجتماعية ذات الطابع العشائري والقبلي، وتحتل موقعاً متقدماً أساسياً وصريحاً في الحياة السياسية. من هنا تصبح مهمة اللاشعور السياسي في مجتمعاتنا هي إبراز كل ما هو سياسي في المخيال الديني والقبلي، أي الفيزياء الاجتماعية ببنيتها العشائرية والقبلية "من هنا يصبح العقل السياسي كممارسة وأيديولوجيا هو في الحالتين ظاهرة جمعية إنما يجد مرجعيته في الخيال الاجتماعي مجالاً للاعتقاد واكتساب القناعات وليس لاكتساب المعرفة، فهو هنا جملة الرموز والدلالات والمعايير والقيم التي تعطي للأيديولوجيا السياسية في فترة تاريخية ما ولجماعة ما بنيتها اللاشعورية، إنه يعمل على قاعدة لكل مقام مقال، إنه ميكيافيلية سياسة استدعاء ما يناسب الجماعة ومصالحها وتبيئته وفلسفته واقعاً لا تاريخاً"(6).

أعراض أمراض الشخصية السياسية السودانية

 ولأن أنظمتنا السياسية التي حكمت تكاد تكون هي هي؛ فيمكن أن نطلق عليها ما يُسمَّى بأنظمة الطفرة (7)، وهي أنظمة تتشكَّل في ظروف غير طبيعية، كالانقلابات العسكرية مثلاً، وكأنها تأتي بالمصادفة. وهذه الأنظمة غير منطقية وتصرفاتها غامضة وفجائية، فهي تخضع لمزاج الفرد على رأس السلطة ولا يمكن التنبؤ باتجاهاتها أو قراراتها. ثم ما هي الأمراض التي تتحكم  في عمل الشخصية السياسية سيكولوجياً في تعاطيها مع نفسها ومع الآخرين (الحزب؛ المؤسسات، الجماهير.....الخ). قلنا في مقدمة الورقة إن الشخصية السياسية تعاني من عدة إشكالات سايكولوجية  نابعة من أنساق بناء وتكوين العقل السياسي (الحراك الطلابي؛ القبيلة؛ الطائفة؛ العنصرية...الخ). وقد رأينا في الصفحات السابقة أعطاب هذه الأنساق وتأثيرها في السلوك وما يظهر ويتجلى في الفعل السياسي منها:

عقدة العُصاب الجماعي:

يعرّف العُصاب في علم النفس بأنه اضطراب وظيفي دينامي انفعالي في الشخصية نفسي المنشأ يظهر في الأعراض العصابية. وهو ليس له علاقة بالأعصاب، ولا يتضمن أي نوع من الاضطراب التشريحي أو الفسيولوجي في الجهاز العصبي، والعصاب كما يراه جورج طرابيشي في قراءته للخطاب العربي هو عجز الإنسان عن الإفلات من قبضة الماضي ومن عبء تاريخه. إنه عقدة العيش في الماضي في مواجهة الحاضر، فالسوداني معجب بماضيه وأسلافه وهو غافلٌ عن الآن والغد.

الحرمان النسبي:

الحرمان النسبي هو مصطلح يستخدم في العلوم الاجتماعية، لوصف مشاعر أو مقاييس الحرمان الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي النسبية وليس المطلقة. يرتبط هذا المصطلح بشكل وثيق بمصطلحات مشابهة مثل الاستبعاد الاجتماعي والفقر. يترك الحرمان النسبي عواقب مهمة على السلوك والمواقف، بما في ذلك مشاعر الضغط النفسي، والمواقف السياسية والمشاركة في العمل الجماعي. يرتبط المفهوم بدراسات الباحثين لمجالات متعددة في العلوم الاجتماعية (8).

على سبيل الاستعارة؛ فإن استبعاد الدولة للمواطنين يعني إقصاءهم عن حقوقهم في قطاعات مختلفة، وأخطر ما في الأمر أن منطق الاستبعاد يعني اختزال القيمة الوجودية للمواطنين كفاعلين وذوات بشرية لها حقوق وامتيازات بما في ذلك الهيبة والكرامة، ولذلك يبدو المقصيون عن المشهد كما لو أنهم يؤدون واجبات دون أن تكون لهم حقوق، وهذا كله يعني أن الاستبعاد يقود ضمناً إلى الحرمان.

هذا الحرمان المتولد عن الإقصاء، يُنتج مشاعر الاستياء، والحقد، والكراهية، والعداء داخل الأفراد أو التيارات المخالفة لتوجهات أحزابها، وتعد هذه الميول بمثابة القاعدة الحافزية للثورة، وبشكل خاص بعد أن تتكثف، ويلعب الزمن دوراً بالغ الأهمية في تفاعله مع العلاقة الاستبعادية والإقصائية وتكثيف هذه الميول. وطالما أن عملية الاستبعاد نابعة من رغبة وإرادة أصحاب المواقع العليا في الدولة أو الحزب المعين، فإن العلاقة الاستبعادية بالضرورة فاسدة ولا أخلاقية. ومن هنا، ليس من المستغرب أن تقترن عملية الاستبعاد باستخدام القهر والاستبداد، وهذا بدوره يؤدي إلى تكثيف إضافي واحتقان أشد لمشاعر الحرمان. وكلما تقادم الزمن؛ يقود استمرار عملية الاستبعاد والإقصاء إلى تفاعل الحرمان والقهر، مما يُنتج مادة نفسية اجتماعية تختزن طاقة هائلة للثوران. ولذلك تنفجر الثورات الاجتماعية دون تخطيط ولا تنظيم، إنما بتلقائية، وعفوية، وانفعالية، واستثارة أساسها تفاعلات تاريخية وحدث مثير، وهو ما حدث بالتفاصيل في بلادنا في ظل الحرب التي نعيشها الآن (15 أبريل)، وبالطبع ينطبق التفصيل على أحزابنا السياسية؛ فأحزاب كثيرة انشقت على نفسها والتاريخ مبذول.

عقدة المؤامرة:

يحلل المؤرخ الأمريكي Daniel Pipes في كتابه حول الشرق الأوسط التخوفات من المؤامرة؛ والتي يرى فيها أن الطبيعة الاستبدادية للأنظمة هي التي تجعلها تعتمد نظرية المؤامرة التي تعفيها من البحث عن الأسباب العلمية لحقيقة أوضاعها الدّاخلية والتنصل من مسؤولياتها من خلال إلقاء اللّوم على قوى خارجية أو حتى قوى متخيلة وخرافية. إن هذا التحليل ينطبق على نخبنا السّياسية المتحكمة في أحزابها سياسياً ومالياً؛ وكذا النخب التي تدير الدولة والتي لا ترى في ما يشهده المجتمع من احتجاجات مطلبية مشروعة إلا مؤامرة تنسج خيوطها أطراف خارجية؛ مثلما يظهر أيضاً في المشهد الحزبي حين تطالب قطاعات واسعة في حزب ما بإصلاح وتصحيح الأمور وتغيير طريقة إدارة أحزابها لتصبح أكثر فاعلية؛ ولن تلبث إلا قليلاً حتى توصم بأنها متآمرة مع قوى وجهات ما؛ وذلك إعمالاً لنفس النظرية القائمة على المؤامرة التي تحولت إلى ”مسألة إيمان بدون دليل”، حسبما يقول الكاتب السياسي مايكل باركون، وهو ما يجعل الاعتقاد الراسخ بفكرة المؤامرة، يغلق أي إمكانية للاجتهاد والنّقد الذّاتي.

إنّ من مفاعيل عقدة المؤامرة المتحكمة في ذهنيتنا، أننا نستغرق في قراءة نوايا الآخر أكثر مما نستغرق في قراءة واقعه وخططه وبرامجه، لأننا مسكونون بهاجس التآمر والخيانة، وهو ما يحجب عنا رؤية الواقع على أساس النوايا، بل على أساس الأفعال فقط. نظرية المؤامرة التي تتبعها الأنظمة السياسية في بلادنا تفسّر أن هذه الأنظمة والأحزاب تهوى تبرير فشلها، والتهرب من مسؤولياتها، بلجوئها لنظرية المؤامرة مما يبرر القمع الذي تمارسه على عضويتها داخلياً وما يتبدّى في الفضاء السياسي العام.

التخوين:

إن بنية العقل السياسي السوداني تحتاج إلى تغيير بشكل جذري حتى يتحول من عقل تخويني وإقصائي إلى عقل يمكنه استيعاب المشكلة.  يصدر التخوين؛ عن عقلية إقصائية وعن سلوك يحيل إلى (القتل الرمزي) وكلاهما يرتبط بأيديولوجيا أحادية إقصائية؛ وهو أزمة سلوكية وفكرية سياسية بل أخلاقية تعاني منها جميع التيارات السياسية على المستوى العام؛ هذه الأزمة أنجبت فقراً سياسياً تمخضت عنه نزعات شمولية جعلت زعماء أحزابنا السياسية مستبدين ومحتكرين للدور التاريخي، الأمر الذي يُمكّن ومكّن الانتهازيين من الاستحواذ على الممارسة السياسية، والأمر يتبدّى جليّاً في شكل الدولة السودانية بعمرها الذي يجاوز الستة عقود ونيف.

يبدأ الأمر عادة بتحفظات أفراد أو مجموعات على بعضهم البعض داخل الحزب الواحد أو في الفضاء السياسي العام؛ بسبب خلاف في الرأي السياسي حول قضية من القضايا، ثم يستفحل ليبدأ (الهمز واللمز) وينتهي الأمر إلى التخوين، الأمر الذي يعني إخراج هذا الشخص أو تلك المجموعة من دائرة الانتماء الواسعة والدخول في دائرة الجريمة (المزعومة)، وهذا الأمر قد يتخذ طابعاً علنياً أو سرياً لا يشعر معه المستهدف إلا بآثاره. وقد يكون الخلاف شخصياً وينتهي سياسياً أو العكس. وهذا الأمر يهدّد بناء الوطن والديمقراطية نفسها، كما يهدد أي إصلاح حزبي أو تطوير. وكما يقول المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي: “إذا غابت الفكرة، بزغ الصنم”، فإن ظاهرة التخوين ترتبط ارتباطاً وثيقاً بغياب الرؤية السياسية وآليات إدارة الخلاف وفهم أساسيات العمل السياسي.

 خاتمة: هل يمكن إعادة البناء (الشخصية أم العقل السياسي)؟

ولأن العقل السياسي غير مرئي إلا من خلال أنماط السلوك والخصائص التي تظهرها الشخصية السياسية؛ فيمكننا من خلال تحليل تلك الأنماط والسلوك الشخصي الذي يتبدّى في القول والفعل، أن نحدد الأعطال والخلل في العقل السياسي؛ بالنظر إلى أن السلوك هو نتاج النسق أو نظام المعرفة والذي يحدث وفق تراكم زمني طويل؛ فإن إصلاح السلوك السياسي هو مدخل أول لإصلاح العقل السياسي.

يظل العمل السياسي يجترُّ سياسات الفشل، وتتجدد أعطابه في الجسد السياسي؛ إذا لم يكن هناك إعادة صياغة شاملة للعقل السياسي، مُستخدمين في ذلك التطورات الهائلة في العلوم والمعرفة والتكنولوجيا؛ فلقد رأينا أبنية الخلل في العقل منذ نشأته. ولأنه نشأ ضمن عدة عقول صاغت مفاهيمه ضمن إطار العقل المجتمعي والذي هو بطبيعة الحال مكونٌ من أنساق عقلية متباينة، فهو يحتاج إلى تفكيك ونقد ووضعه على المشرط بشكل جذري يقضي بالاعتراف بما أحدثه من خراب سياسي وأخلاقي وتفكيك قيمي للمجتمع والناس والمؤسسات ونحمّله المسؤولية لأنه الفاعل الرئيسي. 

 وليس يكفي أن نثور على العقل السياسي وحده، بل نحتاج إلى ثورة ثقافية شاملة، إذا ما أردنا إصلاح أعطاب البناء السياسي؛ ثورة على كل الأنساق والأنظمة المعرفية والثقافية والبيداغوجية...الخ التي تشكله. يحتاج السودانيون لأن يتفقوا على موضعة السودان نفسه ضمن أطر تحقق التطور والتقدم بطرحهم لأسئلة جريئة وشجاعة حول واقعهم.

***

أحمد يعقوب

...............................

هوامش:

* كاتب وفيلسوف فرنسي، عمل مستشاراً للرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران للشؤون الخارجية. طور نظرية "الميديولوجيا"، وأسس مجلة  Médium، كما أسس "المعهد الأوروبي للدراسات الدينية"، وكان عضواً في أكاديمية غونكور. نشر العديد من المقالات والكتب. من مؤلفاته: ثورة في الثورة؛ مذكرات برجوازي صغير؛ نقد العقل السياسي؛ الميديولوجيا.

** مفكر وفيلسوف مغربي له أكثر من ثلاثين عملاً في مختلف الحقول المعرفية أبرزها نقد العقل العربي.

مراجع:

1. وحدة الدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجية والإثنية في المعهد العالمي للتجديد العربي محاضرة فكرية بعنوان "أنثروبولوجيا القبيلة في العالم العربي: نزعات نقدية"، 14/7/2021

2. Rogers Brubaker, Ethnicity without Groups (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 2004

3. john D. Brewer, «Sectarianism and Racism, and their Parallels and Differences,» Ethnic and Racial

4. عزمي بشارة - الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة المركز  العربي للابحاث ودراسة السياسات – الطبعة الأولى 2019

5. سيجموند فرويد – مدخل إلى التحليل النفسي – ترجمة جورج طرابيشي دار الطليعة للطباعة والنشر الطبعة الاولى 1980 بيروت (انظر المحاضرة الثانية المعنونة بالهفوات).

6. د. محمد عابد الجابري - العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته – مركز دراسات الوحدة العربية الطبعة الرابعة أغسطس 2000 .

7. د. محمد المهدي- - علم النفس السياسي – رؤية مصرية عربية مكتبة الانجلو مصرية 2007.

8. خواض مصطفى: الحرمان النسبي كمدخل تفسيري للعنف والتمرد داخل الجامعات المجلة الجزائرية للدراسات السياسية 6.6.2022

مصادر:

1- الدولة والقبيلة في السودان: القبيلة في دارفور مثلاً - عبد الله أحمد جلال الدين محمد – المركز الديمقراطي العربي.

2- غلاب، نجيب. 2010. لاهوت النخب القبليّة. بيروت: بيسان للنشر والتوزيع والإعلام.

3-  "relative deprivation". Oxford Reference (بالإنجليزية). Archived from the original on 2021-04 -10. Retrieved 2021-04-1

4-  محمد عابد الجابري – العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته – مركز دراسات الوحدة العربية الطبعة الرابعة 2000.

5- د. برهان زريق – العنف السياسي الطبعة الأولى 2016.

6- كريستيان تيليغا – علم النفس السياسي سلسلة عالم المعرفة مايو 2016.

7- العشيرة والدولة في بلاد المسلمين – ترجمة رياض الكحال، المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات 2019.

8- محمد ابو هنطش- علم الاجتماع السياسي ؛ قضايا العنف والحرب والسلام – دار البداية 2016

10- مارفن هاريس- التحريم والتقديس ؛ نشوء الدول والثقافات – المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات  2020.

11-  عبدالرحيم العطري- من القبيلة إلى الدولة الانتقال العسير – موقع TRT عربي على الإنترنت.

12- د. محمد ربيع - الأنا والآخر من خطاب القبيلة إلى الخطاب الديني- صحيفة الرياض.

13- محمد نجيب بوطالب: الظواهر القبلية والجهوية في المجتمع العربي المعاصر- دراسة مقارنة للثورتين التونسية والليبية 2012: المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات.

14- عبدالمنعم أبو إدريس "مدخل إلى القرن الأفريقي. القبيلة والسياسة" دار العربي.

في المثقف اليوم