ترجمات أدبية

غي دو موباسان: في البحر

للكاتب الفرنسي:

GUY DE MAUPPASSANT1

ترجمة: أحمد القاسمي

***

قرأ النَّاس مؤخرا في الجرائد السطور التالية:

«بولون- سور- مير2 (Boulogne – Sur – Mer) . 22 يناير. أُبرق لنا هذا الخبر: مُصيبة مريعة ألقت على التو الذعر ما بين سكاننا على الشاطيء، أُبتلي بها سابقا منذ سنتين مركب الصيد الذي يقوده الربان (جافيل)؛ عندما كان داخلا المرفأ، قذفت به الأمواج إلى الغرب؛ فتحطم على صخور رصيف تكسير الأمواج.. بالرغم من مجهود سفينة الإنقاذ، والخطوط المرسلة بواسطة بندقية حمل الحبال، غرق أربعة رجال، وبحار حَدث3».

«يستمر الطقس الرديء، يخاف الناس كوارث أخرى».

من هو هذا الربان (جافيل)؟ أهو شقيق مبتور الذراع؟

إذا لفَّ الموج الرجل التَّعس، ومات ربما تحت حطام مركبه المحطم إلى أجزاء؛ فهو الذي أفكر فيه، عاش منذ ثمانية عشر سنة فاجعة أخرى مُرعبة، وبسيطة كما هي دائما كوارث البحر هذه الرهيبة.

كان إذن (جافيل) البكر ربان مركب صيد.

مركب صيد بامتياز؛ صلب؛ لا يُخَاف به من أي حالة طقس. الجوف مستدير، محاط بدون توقف بالأمواج كسدادة من فلّين، دائما في سلام.. دائما مجلود برياح (المانش) القاسية والمملحة؛ يقاوم البحر؛ لا يكل. الشراع منفوخ؛ ساحبا بالخاصرة شبكة صيد كبيرة؛ تكشط أعماق المحيط، وتُزيل وتجني جميع الأحياء البحرية الراقدة على الصخور، والأسماك المفلطحة المتلبطة بالرمال، والسلطعون الثقيل بأرجله المعقوفة، والسرطانات البحرية؛ بشوارب طويلة ومنتصبة.

عندما يكون هواء البحر باردا، وتكون الموجة قصيرة؛ يشرع المركب في الصيد. شبكته مربوطة على طول عصا من خشب مجهزة بحديدة؛ التي تتركها تهبط بواسطة حبلين، ينزلقان على لفيفتين على طرفي المركب؛ الذي ينجرف تحت تأثير الريح والتيار المائي، يسحب معه هذه الآلة التي تُتلف وتكتسح أرض البحر. كان لـدى (جافيل) على متن السفينة أخوه الأصغر، وأربعة رجال، وبحار غلام، كان قد خرج من (بولون) بطقس صحو وصاف؛ ليرمي بشبكة الصيد.

والحال أن الرياح اشتدت عما قليل، وحدثت فجأة عاصفة أجبرت مركب الصيد على الهروب، توجه نحو شواطئ انجلترا، لكن البحر الثائر جلد الأجراف البحرية، ووثب في اتجاه اليابسة؛ جعل ولوج المرفأ مستحيلا. لاذ المركب الصغير بالفرار في عرض البحر، وعاد إلى شواطئ فرنسا. استمرت العاصفة في جعل أرصفة تكسير الأمواج متعذرة العبور، فجميع إمكانيات الدنو من ملاذ النجاة محفوفة بالخطر، وبالضجة، وبزبد البحر.

أبحر مركب الصيد ثانية، يمخر عباب البحر.. مرتج.. مخضخض.. منساب.. مصفوع بكمية كبيرة من الماء، لكنه جسور بالرغم من كل شيء، متأقلم مع هذه الأجواء العاصفة التي تمسكه أحيانا خمسة أو ستة أيام؛ متنقلا بين البلدين المجاورين؛ فرنسا وانجلترا؛ دون أن يستطيع الرسو في كليهما.

ثم هدأت أخيرا العاصفة الهوجاء. ولما كان في عرض البحر، ولو أن الموجة كانت ما تزال هائجة؛ أمر قائد المركب برمي الشبكة.

مُرِّرت إذن شبكة الصيد على جانب السفينة، رجلان في المقدمة، وآخران في المؤخرة، بدأوا بلف الحبال على اسطوانات اللفّ التي تشد الشبكة، لمست فجأة القاع، لكن موجة عالية أمالت المركب، فترنَّح (جافيل) الأصغر الذي كان موجودا في المقدمة، والذي كان يوجه هبوط الشبكة، فوُجدت ذراعه مشدودة مابين الحبل لحظة ارتخائه برجة، والخشبة التي ينزلق عليها. قام بجهد يائس محاولا باليد الأخرى رفع الحبل، لكن الشبكة انسحبت من قبل، والحبل لم يرتخ قط.

الرجل متشنج بالألم؛ فنادى، أسرع الجميع، غادر شقيقه مقبض الدفة، هجموا على الحبل، باذلين الجهد في تخليص العضو الذي سُحِق؛ كان هذا بلا جدوى.

- يجب قطع الحبل؛ قال أحد البحارة.

وسحب من جيبه سكينا عريضا الذي يستطيع بقطعتين إنقاذ ذراع (جافيل) الأصغر.

لكن قطع الحبل كان يعني فقدان شبكة الصيد، وهذه الشبكة في ملك (جافيل) البكر؛ تساوي مالا.. الكثير من المال، ألف وخمسمائة فرنك؛ فصاح بقلب منكل:

- لا.. لا تقطعوا ، انتظروا؛ سأُقرب المركب من مهب الريح.

وعاد إلى دفة السفينة، وجعل جميع مقبضها إلى الأسفل. لم يستجب المركب إلا بعد لأي، مشلول بهذه الشبكة التي قَيّدت حركته، ومجرور من جهة أخرى بقوة الانسياق والريح.

جثا (جافيل) الأصغر على ركبتيه، كزَّ على أسنانه، عيناه زائغتان، لم ينبس ببنت شفة. عاد أخوه مرة أخرى خائفا دائما من سكين أحد البحارة:

- اِنتظروا.. اِنتظروا؛ لا تقطعوا؛ يجب إلقاء المرساة.

تم إلقاء المرساة، كُرَّت السلسلة كليا، ثم أُديرت البكرة للتخفيف من ضغط حبال المركب؛ فلانت، أخيرا فُكَّت الذراع الجامدة تحت كُم مُدمى من الصوف.

بدا (جافيل) الأصغر كالأبله، أُنتزِعت منه سترته، وشوهد شيء فظيع؛ لحم مهروس حيث ينبجس الدم بغزارة؛ كأنه مدفوق بمضخة. نظر الرجل إذن إلى ذراعه وتمتم:

- أنا سيء الحظ.

ثم لـمّا كوّن النزيف بحيرة على ظهر السفينة؛ صرخ أحد البحارة:

- سينزف من دمه؛ يجب أن يُربط العِرْق.

أخذوا إذن خيطا... خيطا غليظا داكن اللون، ومطليا بالقار، وضموا العضو من فوق الجرح، ضغطوا بكل قوتهم؛ توقف تدفق الدم بشكل غير محسوس، وفرغوا بأن انقطع كليا.

اِنتصب (جافيل) الأصغر واقفا، يتدلى ذراعه على جانبه، تناوله بيده الأخرى، وأداره، ثم حركه؛ الكل كان مهشما؛ العظام مكسورة؛ العضلات وحدها تشد هذا الجزء من جسده، نظر إليه مليا بعين كئيبة؛ متفكرا؛ ثم جلس على شراع مطوي، ونصحه زملاؤه بترطيب الجرح بدون توقف؛ لتفادي الإصابة بالتعفن.

وضع سطلا بالقرب منه، ومن دقيقة إلى دقيقة يغترف منه بواسطة كأس، ويُبلل الجرح الفظيع؛ تاركا قليلا من ماء صاف ينساب من فوق.

- ستكون أحسن في الأسفل، قال له أخوه.

هبط؛ لكن بعد ساعة صعد؛ لم يشعر بالطمأنينة في وحدته، ثم إنه فضل الهواء الطلق. جلس مرة ثانية على شراعه وشرع في تبليل يده.

كان الصيد كثيرا، تمددت بجانبه الأسماك المفلطحة ذات البطون البيضاء؛ مخضوضة بتشنجات الموت؛ كان ينظر إليها دون أن يتوقف عن نضح عضلاته المسحوقة.

لما كان المركب يمضي عائدا مرة ثانية إلى (بولون)، عصفت رياح جديدة، فبدأ عَدْوه الجنوني؛ واثبا...داحرا الأسيف الجريح.

قدِم الليل، وظل الجو جسيما حتى مطلع الفجر. شوهدت من جديد (آنجلترا) مع شروق الشمس؛ لكن ولما كان البحر أقل إزعاجا؛ أخذ المركب طريق العودة إلى (فرنسا)؛ متذبذبا.

عند المساء نادى (جافيل) الأصغر على زملائه، أظهر لهم بقعا سوداء..أثر نَتانة شنيعة على جزء العضو الذي لا يشد نفسه.

نظر البحارة إلى بعضهم البعض، وأبدوا رأيهم:

- يمكن أن يكون قد أصيب ذراعك بالتعفن؛ اِعتقد أحدهم.

- بناء على هذا؛ الماء المالح ضروري، صرَّح آخر.

جلبوا إذن الماء المالح، وسكبوه على موضع الألم؛ فصار الجريح أدكنا، صَرَّ أسنانه، تلوّى قليلا دون أن يصرخ؛ ثم حين سكنت حُرْقته قال لأخيه:

- اِعطيني سكينا.

مد الأخ الأكبر سكينه.

- أمْسِك لي الذراع إلى أعلى بشكل مستقيم، اِجذب بقوة.

فعل أخوه ما طُلب منه.

بدأ إذن يقطع نفسه؛ يقطع ببطء وبتأمل؛ فاصلا آخر طرف العضلة بهذه الشفرة القاطعة كحد موسى، وسريعا لم يعد الذراع أكثر من بقية عضو مقطوع، تنفس الصعداء، وقال:

- كان هذا ضروريا، كنت هالكا لامحالة.

بدا مرتاحا، وتنفس بقوة، بدأ يسكب الماء على العضو الذي فضل له.

كان الجو ما يزال بعد الليل رديئا، فلم يستطيعوا الرسو.

عندما لاح الصباح، تناول (جافيل) الأصغر يده المبتورة، وعاينها طويلا، ظهر عليها التعفن، جاء أيضا زملاؤه وتفحصوها، ومرروها من يد إلى يد، تحسسوها، وآشتموها.

قال أخوه :

- يجب أن تقذف هذا في البحر حالا.

لكن ( جافيل ) الأصغر غضب:

- لا..لا..لا أريد إطلاقا؛ هي لي؛ ليس صحيحا؛ ما دامت يدي.

أخذها و وضعها مابين ساقيه.

قال أخوه:

- ليس أقل من أنها ستنتن.

طرأت إذن على الجريح فكرة؛ لحفظ السمك عندما يمكث الصيادون طويلا في البحر؛ يكدسونه في براميل من الملح.

تساءل:

- ألا أستطيع أن أجعلها في نقيع من الملح؟

قال الآخرون :

- هذا هو الصحيح.

قرع إذن واحدا من البراميل؛ كان مملوءا من قبل بصيد الأيام الأخيرة، وفي القاع وُضعت اليد، سكب عليها الملح، ثم أعادوا الأسماك الواحدة بعد الأخرى.

أبدع البحارة هذه الدُّعابة:

- شريطة أن نبيعها في المزاد.

وضحك الجميع، ما عدا الأخوين (جافيل).

كانت الرياح تهب باستمرار، سار المركب متذبذبا ضد الرياح؛ متوجها إلى (بولون) حتى الساعة العاشرة من صباح الغد. استمر الجريح في نضح جرحه بالماء بدون توقف.

يقوم من حين لآخر، ويتمشى من طرف المركب إلى الطرف الآخر، أخوه الذي يقبض بالدفة يُشيعه بعينيه هازا رأسه.

انتهت الرحلة بدخول المرسى.

فحص الطبيب الجرح؛ وأعلن أنه في سبيل حسن، جعل عليه ضمادة كاملة، وأوصى بالراحة، لكن (جافيل) لم يرد أن ينام بدون أن يسترد ذراعه؛ فرجع أدراجه إلى المرفأ ليجد البرميل الذي كان قد وسمه بعلامة.

أفرغوه أمامه، و أخذ مرة أخرى عضوه محفوظا في النقيع من الملح، مُتغضن، رطب، كفّنه في منديل حمله لهذا الغرض، وآوى إلى بيته.

تفحص أبناؤه وزوجته بقايا الأب هذه طويلا، ويجسون الأصابع، وينزعون ذرارة الملح الباقية تحت الأظافر؛ ثم استقدموا نجارا ليصنع تابوتا صغيرا.

في اليوم التالي كان أفراد طاقم مركب الصيد يشيعون دفن اليد المبتورة؛ الأخوان (جافيل) جنبا إلى جنب، يتقدمان المأتم. يحمل كاهن الكنيسة الجثة تحت إبطه.

عدل (جافيل) الأصغر عن الإبحار؛ حصل على عمل في المرفأ، فيما بعد عندما كان يتحدث عن حادثته؛ كان يسرد بصوت خافت على مستمعيه:

- كان أخي يسعى إلى مصلحته قبل كل شيء، لو أراد وقتئذ قطع الشِّبكة لكنت آحتفظت بذراعي.

***

.....................

* النص مأخوذ من المجموعة القصصية:

Contes de la bécasse, GUY DE MAUPASSANT, Booking international, PARIS. 1995.

1- كاتب فرنسي؛ هو مبتكر القصة القصيرة بلا منازع.

2- مدينة تقع في الشمال الغربي لفرنسا على ساحل Pas de calais ؛ الذي يصل بين شمال فرنسا وبحر (المانش).

3- الحَدَث: الصغير السن.

في نصوص اليوم