تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

ترجمات أدبية

يفغيني غريشكوفيتس: الاسترخاء

بقلم: يفغيني غريشكوفيتس

ترجمة: صالح الرزوق

***

كان ذلك يشبه الوقت الذي لا تكون متأكدا خلاله من أي شيء. فالصيف شارف على نهايته  ومع ذلك لم تصفر الأشجار فعلا، وكنست الرياح الأوراق الخضراء الميتة إلى الزوايا وتحت الأسوار. أما في خارج المدينة تطاول العشب وبدا ملوثا على نحو من الأنحاء. كان الصيف يختتم وجوده، أو الأدق، دلت كل العلامات على أنه انتهى حقا. بقي علينا تحمل عدة أيام قليلة من آب، و.. تقريبا عاد كل أصدقائه وأصحابه ورفاقه ومعارفه وزملائه من العطلة محمرين بالشمس، ومشتاقين للاجتماع مجددا، وتبادل القصص والحكايات. ما عدا ديما فقد أنفق الصيف صامدا في المدينة. طبعا لم يصمد طيلة فصل الصيف، ولكن خامره الشعور كأنه أنفق كل الصيف في المدينة، وحتى لو لم يكن محروما من بعض المتعة والفائدة، يمكن القول إنه " مر عليه صيفه وهو جامد". ولذلك قال ديما للجميع:" ماذا يعني كيف الحال؟ أنفقت كل الصيف وأنا في مكاني في المدينة". بعد ذلك تنهد، وصنع بيده تلويحة نافية وقصيرة، وغطى وجهه الحزن. صرف ديما عائلته منذ أوائل تموز. ابنه إلى مخيم دولي، ليتمكن الصبي من التمرن على الإنكليزية. وزوجته وابنته أولا إلى والدي زوجته في الشمال، ثم إلى الجنوب، نحو البحر، حيث أنفقا معا أوقاتا طيبة في عدة مناسبات. أما هو فقد مكث في المدينة.. ليتابع أعماله.

في الحقيقة كان لديه عمل لا بد من إنجازه، ودعاه سبب مهم وملح للمكوث في المدينة والانكفاء على العمل، مع أن المدينة في منتصف تموز تذوب تحت الحر، ولا تجد حينها أحدا يتخذ قراراته، أو يخطط ليعمل. فالمدينة لا تحرك ساكنا في الصيف. أولا، يخلي المدينة أصحاب القرار في مختلف المجالات، ومن يبقى منهم يكون مرهقا، أو على نحو من الأنحاء، بمزاج متوعك.. يضعف بصر العينين.. وتطن أصوات الصمت في الأذنين، أو تتراكم الكهرباء الساكنة داخله. وفي نهاية تموز، حلت على ديما حالة ركود. دخل بكسل غريب يسببه الصيف، حينما تزحف الأيام ببطء مقلق، ويطير الوقت بسرعة غير مفهومة. في البداية استلقى ديما عدة أيام على الكنبة، أمام التلفزيون. وتابع التقليب بين المحطات دون توقف، متمهلا هنا وهناك لدقائق... ثم تابع التقليب. وحينما تعثر بفيلم قديم، كان يعرفه منذ أيام صباه، صفق، وفرك يديه، ورتب مجلسه على الكنبة، وذهب مسرعا إلى المطبخ لتحضير الشاي وشطيرة غير صحية على الإطلاق - ولكنها لذيذة. كانت الأفلام القديمة، والشطائر السريعة، والشاي المحلى، تزيد من إحساسه العميق بالمتعة. ووجد في ذلك شيئا لم يشعر به منذ فترة طويلة: الاسترخاء المخدر. وفي ثالث يوم من هدوئه هذا، بدأ يفقد إحساسه بالوقت. كان ينام حتى وقت متأخر يمتد من الصباح لفترة ما بعد الظهيرة. وكان يستيقظ على أصوات الصيف المنبهة للحواس القادمة من الباحة. وحينما يجد الثلاجة فارغة، يعارك الجوع طيلة يومه تقريبا. وكان يبدو له من غير المناسب أن يغادر المبنى. أجل ديما رحيله لفترة طويلة. ومر عليه وقت محسوس لم يحلق فيه وجهه، ثم فجاة وجد البهجة العظيمة في الحلاقة. ثم أنفق وقتا طويلا بالغسيل، وارتداء الثياب، وفي النهاية ذهب إلى المتجر... برضا وانشراح. وانتقى كومة كبيرة من الأشياء.

عاد من المتجر، ولم يتسرع بتناول طعامه، ولا تناول شطائره مجددا بمزاج ممتعض، ولكن رتب الشقة برضا غير مفهوم، وغسل كل الأطباق، وأودع كل شيء في مكانه المناسب في الثلاجة. ثم بتمهل جهز غداءه وعشاءه دفعة واحدة (بمعنى أن ديما لم يتناول الغداء، وكان المساء قد خيم عليه). أعد الوجبة وهو يستمع لصوت الراديو المهدئ... وفتح زجاجة نبيذ، شعر بجو مسالم، وبدأت كلمات متفرقة تطير في أرجاء ذهنه مثل "ليس سيئا" أو "نعم هكذا"... أو "اللعنة"... وحينما كانت الوجبة تنضج في الفرن شرب كوبي نبيذ. وأصاب النبيذ الهدف على نحو ممتاز.. تناول ديما الهاتف. واتصل بالأبوين (أبويه)، ثم طلب مكالمة زوجته في الجنوب. قالت جينيا إن كل شيء على خير ما يرام، باستثناء الطقس، فهو غير جيدا.

ثم أخذت ابنته الهاتف، وأخبرته أنها بأحسن حال، والطعام جيد، وكل شيء ممتاز بشكل عام. وحينما سألها ديما إن كانت مشتاقة له، ردت بسرعة: "نعم".  بعد ذلك مباشرة اتصل بصديق قديم، ولكنه لم يجده، وهكذا أخلد في النهاية للاسترخاء. كانت أموره جيدة. وجيدة جدا. ولكن أحيانا تشتعل فكرة في رأسه:" أوي. هناك أمور يجب إنهاؤها. يجب أن...". ولكن لاحقا يقول لنفسه:" انتظر قليلا. تمهل فقط...". أو "لكنه فصل الصيف". الشيء الوحيد الذي أزعجه هو الحرارة. وليس لأن الجو حار - ولكن لأنه خامل، ويزيد من التعرق وما شابه ذلك. ما أزعجه أن الحرارة كانت تخيم على كل شيء... في العام الفائت، أنفق ديما الصيف مع عائلته على شاطئ البلطيق. وقال له رفاقه: "لماذا هناك؟ المطر لا ينقطع والبحر بارد.. هو مكان جميل لكنه بارد". مع ذلك حالفهم الحظ بالطقس. واستجموا بالشمس على الشاطئ أو بالجلوس تحت المظلات واحتساء البيرة في المقهى، ومشاهدة الأخبار مساء. وهكذا علموا أن المطر لم يتوقف في مدينتهم، وأن العواصف هبت على الجنوب، والبرد تساقط على اليونان. كم من الممتع أن يكون الصيف رماديا وغامضا. ثم لم يذكروا في التلفزيون درجة سخونة الماء في البحيرات التي تحرقها الشمس، بالمقارنة مع ماء البحر الأسود، ولذلك أنشأوا شواطئ شعبية عند أقرب بحيرة، وكانت جيدة مثل أي منتجع آخر.

وقد كانت تبلغه اقتراحات بين حين وآخر وتأتيه من وراء جدران بيته الأربعة... اقتراح زيارة شخص أو آخر في مخبئه، أو الذهاب لصيد السمك مع شخص غيره. وكان ديما يخترع الأعذار المختلفة ولم يذهب إلى أي مكان. وكانت حالة الاسترخاء التي خيمت عليه أعمق، وأثمن وأكثر أهمية من أي متعة صيفية. ثم جعلت الأمطار الباردة والرمادية الأوضاع أقرب للمصالحة والسلام. ومسالمة كالكريستال. كان الطقس مقلقا من قبل، وحسب ما يتذكر كانت علاقته مع الطقس مزعجة دائما. وحينما حانت أواخر أيار، وحينما أصبح من الصعب جدا أن تنتهي من دراستك وتخضع للامتحان، مال الطقس ليكون رائعا. كان دائما منعشا ودافئا، ولكن ليس حارا… شيئا تتمناه. ولكن حالما تبدأ العطلة - يحل المطر والريح والبرد. وحينما يصلون إلى البحر، تهب عاصفة منذرة بالخطر ويتبعها مطر ورياح. هكذا هو الحال دائما. ويتذكر كيف أنفق مرة نصف الصيف في قرية مع عمته ولم يخرجا ولو مرة واحدة لصيد السمك. ومع ذلك كان معه قصبة صيد ممتازة. وكانت هناك بحيرة، فقال له زوج عمته إنه لا يذهب للصيد إن هبت الرياح. ولو هناك ريح، لا معنى للصيد. وقال العم فوفا :"انظر، هل تشاهد تلك الشجرة هناك؟. لو أن الوقت في الصباح ولا تتمايل، هذا يعني أنه لا توجد رياح. حينها احمل قصبتك، وأيقظني، لأن التقاط الأسماك مضمون. ولكن إذا كانت ترتعش، لا تحمل نفسك عناء رؤيتي. أفضل أن أنام، وأن لا أغامر بالصيد".

واستمر ديما بمراقبة الشجرة نصف فصل الصيف.

كل يوم كان ديما يحمل قصبته لينظر إليها ثم يعيدها إلى السقيفة. وعمليا يحفر كل يوم للبحث عن ديدان وعيزه على الشجرة. وفي المساء تبدو له الشجرة تقريبا كأنها راكدة دوز حراك. ثم في منتصف الليل نهض ديما ليتبول، وخرج إلى الشرفة، فرأى، بضوء القمر، ذروة الشجرة الجامدة سوداء تحت نجوم الصيف. فخفق قلبه من السعادة، وعاد إلى سريره وسقط بالنوم. وتنفس بعمق ثم شخر بصوت مسموع.. وفي الصباح استيقظ قبل غيره وأسرع إلى الشرفة. وهناك كانت الشمس قد أشرقت وبدأت السماء تتلون بلون أحمر، والغيوم تتجمع، وقمة الشجرة تتمايل، وكل ورقة فيها ترتعش.

انتظر ديما لبعض الوقت، وهو يراقب الشجرة، ثم توقف قلبه عن الخفقان، وتجمد، كان المطر قد بدأ ينصب عليه. عاد ديما إلى سريره، وبكى بصمت. بعد ذلك كان يستيقظ متأخرا ليمرر نهاره الثقيل، وأحيانا يضجر، وأحيانا يلهو ليسلي نفسه. ولكن حتى هذا اليوم إذا ذهب ديما إلى مكان ما في وقت مبكر من الصباح، وكانت هناك أشجار، ينظر إلى أطولها كل الوقت، ويراقبها... ثم يعود بعد أن يراقبها بهذه البساطة. الحرارة - وهذا هو أوان ذروة الصيف - كانت كل ما يفسد ويعكر الاسترخاء الذي يغلف ديما.

في أول أيام آب، تغاضى قليلا ووافق في المساء أن يرافق امرأة يعرفها. تقابلا حوالي التاسعة. وكان هناك ركود مزعج تسبب لصديقته بالصداع، فذهبا إلى النافورة، ووجدا حولها حشدا كبيرا. كانت المدينة تستمتع بوقتها في الهواء الطلق، والجميع جن جنونه. وكل الضفاف والمقاهي المجاورة لها، وكل المساحة المحيطة بالنافورة - قد غرقت بالناس. وقرب النافورة، صادف ديما وصديقته صديقا لديما برفقة زوجته.

قدم ديما صديقته بصفة زميلة جاءت إلى البلدة بعمل. فاتسعت عيناها من الدهشة. شيء لا يصدق... ثم انهمر مطر غزير على المدينة، ورافقه البرق. وكان نوعا من الأمطار التي لا تعطيك نصف دقيقة لتتصرف. وغرق الجميع. وكانت العاصفة عاتية. نوع من العواصف النشيطة والنموذجية. باختصار اقتنع ديما أن حالة الاسترخاء لا يمكن فرضها، ولا تستطيع أن تخدعها. في اليوم التالي لم يغادر البيت، مع أن الطقس رائع طوال النهار.

استرخاء. حتى أن ديما لم يخرقه ولو بشرب البيرة. لم يكن يشعر بالميل لها. كان في حالة صلح وسلام مع الذات. وطرقت رأسه أفكار مسلية وغريبة. كانت هذه الأفكار تحط على رأسه، وتتقلب فيه، ثم تتلاشى. بعد الهطول فكر ديما بحنان متمهل:" لو كنت متنبئا بالطقس، لأدليت بنشرات طقس متماثلة: أمطار متفرقة. وهذه هي الطريقة العامة والمناسبة للتعبير عن الموضوع إذا هاجمتك الأمطار والثلوج، أليس كذلك. هذا يعني أنك في المكان الصحيح. لا ثلج ولا مطر - المكان خاطئ. هذا كل شيء.  وهو أمر بسيط".

كان ابنه يكلمه بانتظام من المخيم، ومن الواضح أنه مرتاح. أما والدا ديما فلم يغادرا مأواهما أبدا. ولم يسمع ديما من ابنته وزوجته - كلما اتصل بهما - غير الكلمات المطمئنة. استرخاء. استقرت الأمطار لعدة أيام في بداية آب. فابتهج ديما وأنفق أيامه بأعظم قدر ممكن من الاسترخاء. كانت الأمطار غزيرة ودافئة...

ثم توقفت وخرج نبات الفطر. ولم يتمكن أبواه من الامتناع عن الحديث حول هذا الموضوع بالهاتف، وحتى محطة التلفزيون المحلية أذاعت عن محصول فطر غير مسبوق وأوصت المستمعين أن لا يقطفوا الفطر غير المعروف وأن لا يشتروا الفطر المجمد إن كان مصدره مجهولا.

لم يذهب ديما إلى الغابة منذ زمن طويل. كان يحب حصاد الفطر. ويحب النزهات في أرجاء الغابة، يتنقل بحذر، وفجأة، بين الأعشاب والأوراق والظلال المتداخلة، يجد نبات الفطر. قبل لحظة كان الفطر مختبئا بين بقية الأشياء التي تخشخش وتتكسر تحت الأقدام، ثم فجأة - هوب - ها هو نبات فطر. فيركع باسترخاء إلى جانبه، وينقب في جواره.. كم أحب ديما ذلك. ولكن الآن ربح الاسترخاء. وكانت أفكاره تسقط فوق رأسه كالتالي: "ماذا ستفعل بالفطر الذي تجده؟"، "آه، أنا أعرف كل شيء عن ذلك البحر العرمرم من الفطر"، "نعم، هناك في الغابة ناس بأعداد أكبر من السوق في يوم السوق المفتوح". ولبث ديما في البيت وقرأ روايتين بوليسيتين ورواية نسائية لا على التعيين وجدها على طاولة سرير زوجته. وعمليا شعر ديما أن وزنه زاد قليلا في هذه الفترة، ولكن ليس بقدر كبير. الزيادة كانت ملحوظة بصعوبة.

ثم أوشك البيع أن ينتهي فجأة، وقريبا تعود زوجته والأولاد. كان الطقس رائعا، كالسابق، ولكنك فعليا لا تستطيع أن تثق به. في أي لحظة يمكن للصيف أن يتداعى ويبدأ الخريف. وعليك أن تغتنم كل دقيقة من الطقس الجيد بينما الصيف يتراجع. ولكن ديما لم يغتنم شيئا. فقد كان يغط في حالة من الاسترخاء. لم يقص شعره طيلة الصيف. اتصلت غوشا بالضبط قبل يوم من عودة زوجة ديما وابنته من الجنوب. قالت غوشا بصوت غلبت عليه الدهشة قليلا حينما التقط ديما السماعة: "هيي، كيف الحال؟. هل عدت فعلا؟. أنا، إيه، اتصلت فقط للتأكد. وها أنت في البيت. هل حصلت على عطلة مريحة؟".

رد ديما وهو يتنهد: "أية راحة. كنت في المدينة كل الصبف. وأنتظر الراحة في العطلة التالية. كيف حالك؟".

قالت غوشا بصوت غلبته الدهشة الحقيقية والواضحة:" ماذا تقول، كنت هنا؟. كنا متيقنين أنك سافرت. لم نجد لك أثرا في أي مخبأ. أما أنا فقد عدت منذ فترة".

"أين كنت؟"

"أين كنت، كنت أبحر وأشتمك كل أيام الصيف. ألم تطن أذناك؟. استمعنا لنصيحتك وسافرنا إلى البلطيق. وأغرقنا المطر حتى شحمات آذاننا. ولم يمر علينا يوم واحد طيب. لذلك هربنا. بينما أنت امتدحت المكان بكل ثقة في العام الماضي...".

"غوشا. اسمعيني يا غوشا. وهل هو خطأي لأنني أخبرتك بذلك؟. فقط أنت لم يحالفك الحظ".

قاطعته غوشا بقولها: "نعم. أنت دائما المحظوظ فينا. أخبرونا أن الطقس كان لديك ممتازا طيلة الصيف. ماذا فعلت خلاله اذا؟".

" نعمممم. أشياء كثيرة يمكن القيام بها. الهراء المعتاد. أرسلت العائلة إلى البحر. كان علي إنقاذ الأولاد من المدينة. وهل عدت منذ فترة طويلة؟".

"منذ عشر أيام. أصابني الضجر وتقريبا شعرت بالجنون. ولم يكن معي هناك أحد. غادر الجميع. من المؤسف أنني لم أعلم أنك كنت موجودا هنا. ومنذ أيام قليلة عاد الجميع دفعة واحدة، ولعبنا أمس كرة القدم. ولاحظت أنك لم تكن معنا. فاعتقدت أنك لم ترجع بعد".

"لعبتم البارحة؟. بدوني؟ لماذا لم يخابرني أحد؟".

"حسنا. لم يعلم أحد أنك هنا".

" تعلمون أو لا تعلمون. هل من الصعب جدا أن تخابروني؟. ولعبتم بدوني ولم تكلفوا أنفسكم عناء الاتصال؟. هل هذه هي الطريقة المناسبة لإنجاز الأمور؟".

قالت غوشا مصدومة: "توقعنا.. في الواقع، لم نتوقع".

قاطعها ديما قائلا:" لقد نسيتموني. اعترفي بذلك. هل يصعب على أحد أن يطلب رقمي؟".

غضب ديما وشعر بالاستفزاز. مباريات القدم هذه في إستاد المدرسة طقس مهم. والمشكلة أن ديما هو من أسس بالأصل الفريق، وأنفق وقتا طويلا لتعويد الجميع على إجراء المباريات الأسبوعية، وبعدها القيام برحلات إلى حمامات البخار، وما يتخللها من نقاشات حارة. ولم يكن هذا هو الأهم. كانت المشكلة أنهم لعبوا بدون حضوره، ولم يتصل به أحد. لا أحد. ولا أي شخص. المسألة أنهم كانوا جاهزين ليلعبوا بدونه دون أن يشعروا بالنقصان. واتصلت غوشا - بالصدفة - في اليوم التالي الذي أعقب المباراة. وبعد عدة ساعات من اتصال غوشا، اتصلت صديقة قديمة. كانت تريد أن تعرف إن كان ديما يريد أن يتكلم، بمعنى أنه حر وزوجته غير موجودة.

قال ديما:" بالتأكيد. تكلمي. تكلمي. كل شيء على ما يرام". روت له أنها قامت برحلة ممتعة جدا إلى إحدى الجزر، واستراحت هناك تماما، وأحضرت معها هدية له. قالت:" بالمناسبة يا ديموشكا، عليك أن ترى كيف لوحتني الشمس بلونها". توقع ديما أن صديقته مخمورة وتشعر بالسعادة الغامرة.

سألها:" ومن رافقك؟".

ردت: "حسسسننا. من المؤكد لم أكن وحدي". كانت صديقة من أيام غابرة، ولكن ليس من ناحية عمرها. فهو لم يقابلها منذ عهد طويل، وأدهشته مكالمتها غاية الدهشة. ولكن كلامها "من المؤكد لم أكن وحدي" أصاب ديما. لم تستفزه الكلمات وتلهب غيرته وحنقه، ولكن لم يسبق لديما أن زار تلك الجزيرة. كلا. وقرضت هذه الكلمات استرخاءه.

ثم في المساء وردت مكالمتان بشأن العمل. ليست مكالمتين سيئتين، ولا كانتا مهمتين، ولكن لم يجد ديما شيئا يشارك به. وطيلة يومه ذاك لم يشعل التلفزيون، وتذكره في وقت متأخر، في فترة أخبار المساء. لم تكن الأخبار سارة، ليس الأخبار الأجنبية، ولكن أخبارنا. وفي غضون خمس عشرة دقيقة من الإرسال راى ما يكفي في الوجوه المشدودة للبيروقراطيين والنواب ليعلم أنهم جميعا يكذبون حقا، وأنه لا يوجد أي شيء طيب. ولم يسمع شيئا مهما عن الرياضة، وفاتت ديما نشرة الأحوال الجوية، لأن زوجته اتصلت لتذكره برقم رحلتها الجوية وتوقيت وصولها. نام ديما نوما قلقا في الليلة السابقة لعودة زوجته. واحتاج لوقت طويل ليغرق بالنوم. وفي الصباح رتب الشقة تقريبا. نظف بالمكنسة وسط الحجرات والمطبخ. وحمل الثياب المبعثرة في الزوايا وهكذا، ثم غادر إلى المتجر وأحضر الطعام والشراب، ليكون لديه ما يطعمه لهم بعد انتهاء رحلتهم.

كل هذه الأمور كانت صعبة للغاية. ثم توجب عليه ان يجري مكالمات هاتفية عديدة. كان كل إنسان عائدا من مكان ما، ويريد أن ينضم للآخرين ويتبادل معهم الحكايات. وحينما قاد ديما السيارة إلى المطار، لم تتقدم السيارة بشكل جيد. فهو لم يجلس وراء المقود منذ عهد بعيد، وكانت السيارة مطمورة بالغبار، وحركتها ليست على ما يرام. أما الطقس فقد استمر رائعا. السماء الزرقاء والغيوم الصغيرة والمتباعدة، تصفي الروح... وبدت المدينة بنحو تام ذاهلة عن نفسها وصيفية. والنساء، كما هو حال تموز، ارتدين ثيابا قليلة. ولفتت عيني ديما صورة نسائية، ثم أخرى. وعلى مدخل المطار كانت تجري أعمال صيانة الطرقات. وانبعث منها صوت مدحلة بخارية وماكينة تعبيد طرقات. وكان حاملو المجارف يسترون أنفسهم بجاكيتات برتقالية دون ثياب تحتها. التمعت أجسادهم بالعرق، ومن النافذة المفتوحة هبت رائحة الحرارة الخانقة والإسفلت الملتهب. وكان يبدو لبعض الوقت كأن للصيف قد باشر توا. ورأى في المطار حشودا من الناس. معظمهم يتجه إلى بيته، وآخرون يراقبون رحيلهم. وكان العديد يأتون، عائدين من مكان ما ومسرعين ليضعوا أولادهم في البيت قبل بداية المدارس. وكثيرون بانتظارهم. في صدر الصالة، كانت الأبواب الزجاجية تفتح للمسافرين المشاركين برحلة إثر رحلة. وكان العائدون مصبوغين بالشمس، ويبتسمون بسعادة. وسرعان ما يحتضنهم من وقف بانتظارهم، ثم يلتفتون إلى الأولاد... رأى ديما صديقا يعانق آخر. وكان ديما يعرفه منذ أزمنة بعيدة. في الماضي البعيد. ولم يتذكر اسمه.

سأله الصديق:"من تنتظر هنا؟".

"أسرتي ستعود من البحر".

"وأين كنت أنت؟".

لوح ديما بيده تلويحة نافية وقال: "آههه. أمضيت كل الصيف في المدينة. وأنت، من أين لك هذه السمرة؟".

ضحك زميله وقال: "أنا؟. كنت على السطح. أمضيت الصيف وأنا أعتني بالبيت مع ابني. ولكن أرسلت الزوجة بعيدا. وها أنا هنا لملاقاتها. وأنت كيف أحوالك؟".

"اي أحوال؟. الصيف بلغ نهاياته وأنا أتسكع في أرجاء المدينة. ولم أكسب أية فرصة للاسترخاء. حسنا. نلتقي فيما بعد". وتبادلا المصافحة. بعد خمس دقائق شاهد ديما صديقه يحمل حقيبتين ضخمتين، وخلفه تسير امرأة ضخمة بثوب خفيف. وكان يبتسم لنفسه وهو يمشي. وفجأة شعر ديما بالسخط من الكذبة التي ألقاها على مسامع صديقه المنسي. لماذا قال له إنه أمضى صيفه وهو بحالة سيئة؟. ولماذا قلل من أهمية رخاء الصيف الذي مر عليه؟. قد لا يمر عليه صيف رائع مثله. تأخرت عدة رحلات لأسباب مختلفة. والرحلة التي كان ديما بانتظارها ستتأخر ساعتين. ولم يجد حكمة في العودة إلى المدينة، ثم القدوم مجددا إلى هنا. ولذلك تسكع، وتجول قليلا، ثم نام في السيارة... لاحقا أعلن مكبر الصوت أن الرحلة ستتأخر ساعة إضافية. وتورمت مشاعر ديما. وجاء في ذهنه:" هذا آخر يوم في الصيف، وأنا أقتله هكذا". اشترى صحيفة، ولم يتمكن من قراءتها. لم يتحرك شيء في داخله. والاسترخاء لم يشفع له. وها هو يشتاق فعلا لزوجته وابنته. واشتاق لابنه. ولكنه سيعود بعد يومين. لقد اشتاق لهم جميعا.  وحين كان يفكر بهم، ارتاح وجهه، ومال رأسه قليلا إلى اليسار. وتراجعت أصوات المطار. أخيرا قابل عائلته. حضن ابنته ورفعها عاليا بين ذراعيه الممدودين، ثم قبل زوجته. وانتظروا حقائبهم. وكانت ابنته تثرثر دون توقف، وتعرض عليه هذا الشيء وذاك، وترقص له. وأخبرته زوجته عن معاناتهما الفظيعة بسبب التأخير المزعج. وحاول ديما أن يصغي بانتباه.. ولكن في الواقع كان يصغي للاسترخاء الذي احتله من الداخل..

هل هذا الاسترخاء موجود؟ هل هو مستمر معه؟ كان الليل يخيم وهم يعودون بالسيارة إلى البلدة. نامت ابنته في المقعد الخلفي - بوضعية لا تتوقعها من بالغة. وبدأت جينيا بترتيب قائمة الأمور التي يجب القيام بها في الغد. وأوضحت أنه عليه أن يخرج صباحا ويشتري لابنته حذاء ولوازم أخرى كثيرة للمدرسة. وافق ديما وابتسم وهو يفكر... كلا، لم يفكر، فقط نظر إلى عينيه المسترخيتين، حتى لا ينسى شكلهما. نظر لبعض الوقت إلى العالم بهاتين العينين - وانتابه الرضا. وأراد أن يتذكر تلك العينين بعد أن يودع هذه الحالة. وحينما وصلوا إلى المبنى كان الوقت مظلما تقريبا. قالت زوجته: "آه، يا لهذه المقاعد الجميلة التي أضافوها. هذا ما نحتاج له، شيء جميل".

نظر ديما، بالتأكيد، شاهد أنهم أقاموا بعض المقاعد الجديدة قرب المدخل. تساءل: متى أضافوها؟. فهو لم يلاحظ ذلك. رد ديما فورا:" نعم، نحن لا نهدر أوقاتنا هنا بلا طائل". قبل زوجته، ثم باسترخاء وحرص جر ابنته من السيارة، بينما تكفلت زوجته بحمل الحقائب الكبيرة وحقيبة اليد من صندوق السيارة. وتابعوا إلى المدخل. كانت ابنته تتعرق بنومها. حضنها ديما بقوة. كانت مائلة للأسفل وشعر بثقلها وحجمها. وكان لشعرها رائحة الشمس والريح والبحر. قال ديما لنفسه:" أنت دافئة... يا جميلتي". تكلم بصمت تقريبا. وحينما فتحت زوجته باب المبنى، نظر إلى الخلف بسرعة نحو الباحة. وتعلق بصره بأعلى شجرة قيقب كانت تتتسامى فوق البتولا وشجر المران. كانت القيقب طويلة، طويلة جدا. وقبالة الظلام الدامس الذي أغلق السماء أمكنه أن يلاحظ أن القيقب كتلة خامدة، لا ترتعش على الإطلاق. طرف ديما بعينيه، وانصرف عنها، وحين دخل المبنى ابتسم وقال مرغما: وداعا...

***

15 أيلول 2004

....................

* الترجمة من الروسية بول ي. ريشاردسون    Paul E. Richardson ناشر مجلة "الحياة الروسية" و"شتينيا: قراءات من روسيا" وهي فصلية أدبية. يحمل إجازة الماجستير في العلوم السياسية.

يفغيني غريشكوفيتس Yevgeny Grishkovets ولد في كيموروفو عام 1967. درس فيها فقه اللغة. له مسرحيات وألبومات موسيقية. من أهم مؤلفاته المطبوعة: المدينة 2001، كيف أكلت كلبا ومسرحيات أخرى 2003 (مسرحيات)، القميص 2004 (رواية)،  الأنهار 2005 (مذكرات).

في نصوص اليوم