كتب واصدارات

عرض لرواية "منافي الرب" لأشرف الخمايسي

ترجمة وتحقيق: صالح بوعذار

توطئة المترجم

أشرف الخمايسي كاتبٌ مصري بارز، ولد عام (1967) في مدينة الأقصر. ويسعنا الإشارة من بين رواياته ذائعة الصيت والشهيرة إلى؛ "منافي الرب" و"الصنم" و"ضارب الطبل" و"انحراف حاد" و"صوفيا هارون".

صدرت رواية "منافي الرب" عام (2013) وفي عام (2014) وصلت إلى القائمة الأخيرة لجائرة البوكر العربية.

رواية " منافي الرب" هي روايةٌ تجعل الموت والخلود مرآة لإظهار انجذاب الانسان واندفاعه في هذا المسار. فهذه الرواية مرقومة لتمجيد الحياة، وهي محاولة لجعل الحياة تتغلب على الموت!

يبحث "حجيزي" بطل الحكاية، عن الخلود، إذ يجتاز مراحل عديدة بغية الوصول إلى الانعتاق والخلاص. بيد أنه يُنشد الخلود والبقاء في هذه الدينا، وليس في الجنة والمدن الفاضلة. حيث اجتاز طريقاً وعرة متوخياً الحصول على الخلود، وينزعُ لمدة من دين الإسلام إلى المسيحية، علهُ يظفر بينبوع خلود الجسد في هذه الدينا. أجل فهذه الرواية تمجدُ الحياة وتمتدحها، إذ يجهد البطل ليتخطى الكليشات والمسلمات ليبلغ تلك الحياة الخالدة.

تجلت في عموم الرواية الاستعارة الرئيسة "غير مدفون". وتمثل هاجس البطل في الاحتفاظ بجسده وسط الأحياء، وألا يُحرم من إنسهم ومسامرتهم. فشخصية "حجيزي" مبتكرة وتضج بالحياة، إذ يمكن وضعها في مصاف الشخصيات الأدبية العالمية الأخرى مثل "هاملت" و"جان فالجان" و"دون كيخوته" و"أبلوموف" و" آنَا كارينينا" وغيرها.

وحياة حجيزي برمتها مشوبة بالموت وفكرة الموت، لأن والده كان منخرطاً في مهنة تحنيط الموتى أيضاً، ولاحقاً سار على نهج والده أيضاً. يشكلُ الموت بالنسبة لحجيزي، تحدٍ ومعضلة جسيمة، لأنه لا يفرق بين الصغير والكبير، ويجندل الجميع بحد سنانه، فيتعين على الناس مرغمين أن يدفنوا أحبائهم.

لا يدور هاجس حجيزي الأبدي والعميق حول "الموت" بحد ذاته؛ فقد تجاوز هذا الأمر قبل سنوات خلت، بل كان يخاف الوحدة والفناء بعد الموت، وكان يجهد على الدوام ليجد سبيلاً كي لا يدفنوه بعد موته، ويحتفظوا بجثمانه صحيحاً سليماً بين الأحياء.

فكرة الموت هذه وهاجس عدم الدفن، تسببت في ألا يستمتع حجيزي طوال عمره بحياته مثل الآخرين وألا يشعر بالسعادة ويعتاد الروتين. إذ يتنبه خلال أيامه الثلاثة الأخيرة إلى هذه السعادة والحب الضائع وحسب. "السعادة هي جماع الُمتع المنثورة في کل تفاصیل حیاتنا، حتی أسوأ تفصیلة تحمل متعة ما، لکننا في بحثنا المحموم عن السَّعادة، کُتلة واحدة مکتملة وواضحة، ندهش هذه المتع، و لا نجد السَّعادة أبدا.

السعادة لن‌ تأتي‌ أبدا کّتلة واحدة مکتملة و واضحة". بناءً عليه "فالحب" يعد عنصراً قوياً وعميقاً في هذه الرواية، ويسعه ضمان وحدة سعادة الإنسان وتكاملها نسبياً، ويجعله متفوقاً على "الحزن" الذي يُعد مثالاً عن منافي الرب.

في سير وسلوك حجيزي، البقاء والفناء، أرفعُ من قضية "الحياة" و"الموت". لأن هذه قضية الانسان الوجودية التي تحدثُ في مستوى العرض والجوهر. فالعرض من هذا المرأى ماضٍ إلى العدم، فيما يشيرُ الجوهر من هذا المرأى إلى أنه موجودٌ حيٌ وخالد، بيد أنه في كلّ أسفار عمره كان يتحرى الخلود من خلال منطلق الحفاظ على جسده، وهذا مستوعب في مستوى عرض الحياة وليس في جوهر العمر. لكن في نهاية المآل، يجدُ الخلود في الاستئناس بالجماعة وصحبة الآخرين: " الإنسان لا یموت، لأن الموت اختفاء، و الانسان‌ ظاهر في الأرض یشیًد خلوده، لا یموت الإنسان ولا‌ یُدفن". وعليه، فرواية "منافي الرب" تشكل نوعاً ما بحثاً عن الحياة بعد الموت ودليل على انتصار "الانسان" في قضية الخلود. بحق يمكن تسمية هذا الأثر "بملحمة الموت"، لأن البطل في كل اتجاهاتها وطوال سفره الطويل يتغلب على الموت.

لذلك في نهاية المطاف يجد السعادة في هذا الأمر: "السعادة امرأة تحبُّك وتحبّها. لو وجد أحدنا امرأة تحبُّه ما ألقی‌ بنفسه في منافي‌ الرب!"

وثمة استعارات ورموز عديدة مطروحة في هذه الرواية، على سبيل المثال: المسجد، والقطار، والعصفور، الصحراء، والواحة، وشجرة البرتقال والبئر و...

ومن خلال هذا المشهد، فقد كان مسجد قرية "الوعرة" الذي كان يحظى بقداسة خاصة من قبلهم، واتضح لاحقاً لهم أنه في الحقيقة كان عبارة عن سجن شيده العثمانيين، كانوا يسجنون فيه المماليك. بناءً عليه يريد الكاتب أن يقول إن الدين بوسعه أن يغدو أداة من أجل العبودية والأسر، ويفرغُ الانسان من الداخل، في حين إن الدين في الأساس ينشدُ خلاص الانسان وتنویره. لهذا السبب تُقحم الرواية الخطاب الديني الخشن والمتصلب في سجال، وتدعونا من منطلق نهج التهكم إلى استقصاء المفاهيم والكليشات الدينية والمناسك. في كل هذه الرواية، ثمة مفاهيم تُطرح مثل الموت والدين والحب، ثنائية الجسد والروح والزواج والحرب والثروة و...

كما ينبغي معرفة أن وصف المشاهد الجنسية في هذه الرواية، يهدف إلى تأكيد واستعراض عظمة الحياة. لأنه من هذا المشهد، ومن منطلق الجنس والحب يمكن هزيمة الموت بقوة والانتقام منه.

ومن الناحية التقنية، هذه الرواية ممتازة للغاية، فوصف الشخصيات لم يتربع على ذروة الجمال وحسب، بل كانت كل الأوصاف وخلق الفضاءات عظيمة وحية ومبتكرة. إذ يمكن لمس ومعاينة مشهد التحليق الجماعي للطيور البيضاء المهاجرة ورائحة الرمال ورغاء الجِمال بشكل حي. كما وُظف عنصر الصحراء في هذه الرواية بذكاء ولطافة كبيرة، لأنه يشكل تداعياً للعدم والموت، وكذلك شكل عنصر "الواحة" في هذا الكتاب، دلالة على الحياة والعمران، وكانت الصحراء أيضاً في طول التاريخ وعرضه، مهد الأنبياء والرسل. تأسيساً على ذلك، تقع كلّ الأحداث القصصية في الصحراء وجاءت متناسبة مع مضمون الرواية وموضوعها، مسلطةً الضوء على مصير الانسان ووجوده، إذ انحصر أمله الوحيد في الحياة بوجود هذه الواحات والقرى المتناثرة.

ومن جهة أخرى، هذه الرواية، تتجاوز الزمان والمكان، إذ يجعل الكاتب مخاطبه مستخدماً الزمان والمكان المتلفت، يعومُ في الماضي والحاضر والمستقبل، ويقذفه في جو أثيري نابع من ومضات الواقعية السحرية. وجاء سرد قصص الجماع نابعاً من الواقعية والخيال والحلم والأسطورة والتاريخ، فأفضى هذا الانزياح إلى مضاعفة المتعة وحظه الفني.

المكان في رواية "منافي الرب" شاسع برحابة الصحراء، يبحث الانسان في ميدان العدم لإيجاد نفسه، والزمن في هذه الرواية العجيبة ليس خطاً بل هو دائرة. بمعنى أنه من أي نقطة ندخل فيها إلى هذه الرواية، نصل إلى نقطة البداية ومن ثم نُقذف إلى أول حركات الحكاية. أحداث وحكايات هذه الرواية تقع خلال ثلاثة أيام وحسب؛ بيد أنها ثلاثة أيام بطول الأبدية، والبطل في هذه الأيام الثلاثة يستقصي نفسه ويغسلُ غبار النسيان عنها.

***

 

 

في المثقف اليوم