كتب واصدارات

تأملات في كتاب الدين والظمأ الأنطولوجي

801-jabarيضيق المقام إذا ما ذهبنا الى التعريف بالأستاذ الدكتور عبد الجبار الرفاعي، وحسبنا القول إنّ مسيرته الفكريّة والبحثيّة تشهد له بالالتزام الأخلاقي، والمسؤوليّة، والحريّة، والصرامة المنهجيّة، والوضوح الفكريّ، والتواضع العلميّ. وهو ما شاركني فيه الكثير ممن يقرؤون له الأعمال التي كتبها ونشرها، خصوصا (الدين والظمأ الانطولوجي)، الكتاب الذي تحبه من أول لحظه تقرأه فيها. يطمح الكثير ممن يقرأ له أن يجعله قدوة ومحل إعجاب، دون أن يكونوا مقلّدين له، فمن بين ما زرعه الأستاذ الرفاعي في مدرسته الّتي أسّسها، وتابعها، ويتابعها إلى اليوم، أنّ السؤال المعرفيّ الحرّ، والفكر النقديّ، والمسؤوليّة العلميّة هي ما تمثّل دعائم البحث العلمي وثوابته، بقطع النظر عن الاختلاف أو الاتّفاق في وجهات النظر، والنتائج التي يتمّ التوصّل إليها. وبذلك يكون الرفاعي، من بين الأساتذة في الجامعة والحوزة الذين نذروا حياتهم ونشاطهم للبحث والتعليم، من اعداد وتنشيط متواصل للباحثين، وتأطيرهم، في نطاق مشروع فكريّ واضح متكامل، لم يتوقّف عن النشاط العلميّ، ولم يكتف بما قدّمه لتلامذته، ولروّاد دروسه، اذ جاء أخيراً كتابة (الدين والظمأ الانطولوجي) حاملا معه مشاغل شتى طالما بحثنا عنها في حلقات الدرس وفي المدارس والجامعات، حيث غابت عنا، جاء هذا الكتاب حمّالاً لمشاغل شتّى، مبوّباً وفق مواضيع تنشد فهما وتفسيرا بديلا للايمان والتدين المتصالح مع عصره.

801-jabarوعلى الرغم من تعدّد مفاهيمه، وتنوّع مقارباتها، فإنّ هناك ما يشبه الإجماع على أنّ كلّ ثقافة تحمل ضروباً من الخصوصيّة، وعوامل داخليّة تسمح لها بالتطوّر، بشرط الانفتاح على غيرها من الثقافات. وفي هذا السياق، يمكن تنزيل (الدين والظمأ الانطولوجي)، بوصفه بحثاً في التأصيل الفلسفي، وبيان ما له من أساس معرفيّ يمكن أن يتأسّس عليها، والتدليل على كونه موجوداً بتمام الوضوح في الثقافة الاسلامية.

 إنّ ما يَعدّه الرفاعي ثائراً للجدل هو وظيفة المثقّف عينها عبر إعادة النظر، والسؤال، والنقد لمختلف أشكال الخطاب، سواء كان خطاباً سياسيّاً، أم دينيّاً، أم فنّياً، أم فلسفيّاً، أم تاريخيّاً، أم لغويّاً، أم أدبيّاً، وهذا ما تنزّلت ضمنه الدراسات التّي ضمّها كتاب (الدين والظمأ الانطولوجي).

لقد أثار طرح الدكتور الرفاعي قضايا تتعلّق بمشارب عدة، تربط العقيدة بغيرها، وهو على علاقة، أيضاً، بوظائف المتخيّل الديني الموظّف لما عُدَّ أخباراً لدى المؤمنين بها، بشكل  تتحوّل فيها الشخصيّات، والأحداث، والألوان، والكائنات، والأزمنة، والأمكنة، إلى رموز تؤسّس العقائد وترسّخها، وتحقّق انسجام المجموعة الدينيّة وتماسكها، وتعبّر عن آمالها. إنّ ما يُعَدّ عين الحقيقة يراه الدكتور الرفاعي مدخلاً للبحث والنقد والمراجعة، وقد يوصله القارئ إلى النظر في العلاقة بين الكتابة في التاريخ، وما تحمله من وظائف إيديولوجيّة وعقائديّة.

تحدث كتاب (الدين والظمأ الأنطولوجي) عن أكثر من قضية، وأثار أكثر من إشكالية يتفق البعض معها أو يختلف،كأشكالية تحديث التفكير الديني التي يقدمها الكثير في مؤلفاتهم ومؤتمراتهم ومحاضراتهم، وإن قدمت للعالم فلم تقدم بنفس الطريقة والمنهج الذي تناولها كتاب الدين والظمأ الأنطولوجي، والذي يتناول الدين في حياة البشر بطريقة مختلفة، مدافعا ومحللاً ومفسرًا.

 تلاحظ الدقة في كتابات المؤلف من قراءة عنوان الكتاب ابتداء، ومن العلاقات الاجتماعيّة، الّتي يمكن الكشف عنها من خلال لغة بعض الخطابات الدينيّة، قضيّة الانسان التي تناولها المؤلف في كتابة متحدثا عن سيرة الذاتية، وعلاقاته الاجتماعية، وثقافته الحوزوية، واتصاله بالجماعات الاسلامية، فيقول (لا أزعم أني أمتلك ما يكفي من روح المجازفة والمغامرة والشجاعة، لتدوين ما يخدش الحياء، أو ينتهك التابوات المتجذرة في عالمنا، خاصة وأني مازلت منتمياً للحوزة، ومتساكناً مع الإسلاميين بألوانهم واتجاهاتهم كافة، وحريصاً على حماية ذاكرتي المشتركة معهم، وعدم التضحية بعلاقاتي التاريخية، بل أعمل على تعزيزها، وعجزي عن الانفصال والخروج والانشقاق على المحيط الاجتماعي، ذلك أن من يعترف بخطئه في مجتمعاتنا يغامر بفقدان هويته، ويكون الطرد والنفي واللعن مصير كل من ينتقد قبيلته وطائفته وحزبه). يختم الرفاعي سيرته الذاتية بقولة (تعلّمتُ أن الحياةَ عبورٌ متواصلٌ... لا أتهيب المغامرة مهما كانت شاقة، ولو افتقدتُ أية وسيلة أستعين بأظفاري للحفر بين الصخور، والعض بأسناني لتفتيتها،كما هي عادتي، منذ مغادرتي بيت أهلي بعمر اثني عشر عاماً، واستقلالي في إدارة شؤون حياتي، وتجرّع مرارت أيامي). يلتذ القارئ بهذه السيرة الجذابة التي يقدمها الرفاعي بشكلها الرؤيوي الرائع.

تناول الرفاعي في كتابة قامة علمية ثار نحوها الكثير من الجدل، وكتب عنها العديد من الكتابات، وهو حسب تعبيره: (المثقف الرسولي علي شريعتي)، اذ كان شريعتي يرى نفسة بمثابة النبي المرسل للامة لهدايتهم، شرح الرفاعي كيف شرع علي شريعتي في أدلجة الدين والتراث، وتناول ما قام به بالتحليل والنقد تارة ، وتارة أخرى عن طريق محاكمة آرائه، معتمداً على نصوصه الفارسية التي تناولها، بهدف الكشف عمّا وراء الدلالات الّتي يقدّمها على أنّها جملة حقائق بديهيّة، من أبعاد سلطويّة تترجم عن أشكال النظام السائد، ووُجّه الرفاعي هذا التفكيك والحفر إلى العديد من كتاباته، وأثرها في كلّ ما سيأتي بعده. موصلا إلى أمور؛ يتعلّق الأوّل منها بالتوصّل إلى الآليّات اللغويّة الداعمة لاختيارات اجتماعيّة، وثقافيّة، وسياسيّة، والثانية: التحديد النهائي للجهاز الاصطلاحي والمفاهيمي الّذي يتأسّس عليه علم الكلام ، والثالث إعادة تشكيل الماضي بطريقة تحوّله إلى سند (واقعيّ) لجملة الاختيارات المرجّحة؛ وتتمثّل الرابعة في الإيهام بالجدل، وبإفحام المخالف وبناءً على هذا الأمر الأوّل المتعلّق بالآليّات اللغويّة تتأسّس سلطة خطاب واضح ، وتقديمة مع غيرة من الاعمال الذي  يمكنه إصلاح الواقع الذي نعيشه. مقترحا الدكتور الرفاعي على الدارسين للجماعات الاسلامية: أن تهتم بقراءة ومراجعة أعمال المرحوم شريعتي، كونها نموذج ينبغي أن يراجع في سياق أدبيات الجماعات الاسلامية سنية وشيعية.

يبرز التخفّي في الخطابات الدينيّة وراء (التجربة الدينية والظمأ الأنطولوجي للمقدس) للتأثير في الواقع، وتوجيهه في مسائل عديدة ذات علاقة بتصوّر العلاقات في المجتمع وتنظيمها، وهو ما بدا لنا واضحاً من خلال كتاب الدين والظمأ، إذ إنّه نابع، بالأساس، ممّا يواجه من تأثير للدين على نفوس البشر ، وما تتخذه الجماعات الاسلامية من اساليب في التعامل مع البشر كالتيار السلفي وغيره وما له من سحر عليهم.

 

يرفض الرفاعي التصوف الطرقي  القائم على الدروشة، وتعذيب الجسد، والغياب عن العالم، وجاء هذا العمل مثالًا يحتذى به.

ذهب الأستاذ الرفاعي  إلى بحث قضية (تكفير الآخر المختلف) والذهاب الى وسائل مفضوحة ادت بنا الى ما نحن فيه اليوم من تكتم على المنظومة التاريخية وغيرها من أحكام، على الرغم من هذا التصنيف القائم على تمايز منهجيّ، فإنّ النتيجة كانت عدم التوصل الى حلول وصيغ مناسبة حتى اللحظة، بل وصلنا إلى الانفصال التامّ؛ والتعارض بين المنظومة العامّة، التي ينتمي إليها التشريع الديني عامّةً، والإسلامي بصفة خاصّة، والمنظومة الّتي ينتمي إليها، بطريقة أو بأخرى، ويفكّر في نطاقها هذا النمط من التكفير، فضلاً عن سيطرة الموجّهات الإيديولوجيّة، الّتي فرضت على تصوّراتهم نحو ما يخدم مواقفهم الإيديولوجيّة.

لم يتعدَّ ما أسلفنا ذكره في هذه الورقة حدود التقديم، فلا ندّعي، مطلقاً، أنّه تجاوز العرض إلى القراءة، والنقد، والمراجعة، والنقاش، وهو أمر مقصود، فلم يكن تقديمنا، هنا، سوى مواصلة للاحتفاء بالأستاذ عبد الجبار الرفاعي وكتابه، من خلال الأعمال الذي قدمها في كتاب الدين والظمأ، وهو عمل تشهد بمضامينه ومناهجه، على اختلافه وتنوّعه، والذي استطاع أن يُسهم بقسطٍ وافرٍ جدّاً في تأسيس لمدرسة وفكر جديد لا يعترف بعقليّة (الشيخ والمريد)، وتسعى إلى أن يقدّم معرفة لا تستلهم من الأستاذ مقولاته فتتبنّاها، وإنّما تستلهم منه العمل الدائم على الإنتاج العلمي بوضوح، وفي تواضع في غير ابتذال، وفي صرامة في غير تعقيد، وفي دقّة دون تكلّف، وفي جرأة في غير تجرّؤ، وفي ثقة في غير ادّعاء، وفي موضوعيّة في غير استقالة، وفي مسؤوليّة دون حسابات؛ لذلك، وغيره، لم نرد لتقديمنا أن يكون نقديّاً هذه المرّة، وأردناه احتفاءً متجدّداً بالأستاذ المعلّم الرفاعي.

 

د. محمد محمد عبدالله السنفي

باحث من اليمن مقيم في القاهرة

 

 

في المثقف اليوم