نصوص أدبية

نصوص أدبية

في انتظار أبداً

من لا يأتي

تَشيخُ السَّاعاتُ

والشَّوقُ يا سيِّدتي

لا يقاسُ فهو المقياسُ

والعشقُ لا يؤطَّرُ

في موازينَ فهو الميزانُ

فلا الزَّمانُ مارِدٌ

ولا التَّاريخُ جَبارٌ

خيوطُ الُّلعبةِ صنيعتنا

وكُلُّ الأحداثِ بحناجِرنا

تَهتفُ وتَبوحُ

لا تُعلِّقي خيباتَك

على مشاجبَ الأيامِ

نحن يا سيدتي

سادةُ العصرِ

وملوكُ الزَّمان

ونحنُ يا حلوتي

من يصنعُ للتاريخِ

أحداثاً وأزماناً

لاتكوني قاسيةً

مثل صخرٍ مثل صلد ٍ

أو صَوَّانٍ

ومثل حكايا الرٍّيحِ

تلتهمُ حكايا العُشاقِ

وأبداً منها لا تشبع

ومثل صُوَرِ الأحلامِ

كلما مَددتُ يَدي

لأقطفَ نجمةً

تَفرُّ مِنّي

وفي المعارج القَصيَّةِ تتوهُ

نتغيرُ أم يتغيرُ المكان

نتبدلُ أم يتحولُ الزمانُ

نكبرُ أم من بين أيدينا

يتَسرَّبُ العُمرُ

تتلعثمُ البوصلةُ

ويصيبُ الخَرَفُ

خرائطَ الطَّريقِ

ودهاليزُ النِّسيانِ

تزدردُ وجوهَنا

وتُلقي بأرواحِنا

في حقائبَ سفرٍ

عبر متاهاتِ القرارِ

لا أحبُّ الدَّمعَ في عينيكِ

شلالاتُ الحُزنِ

تُغرِقُ مراكبَ الأفراحِ

وتتركُني على المفارقِ

وحيداً أعاينُ الأضرارَ

***

جورج عازار

ستوكهولم السويد

دندنتْ على نافذةِ الشِّعرِ

مواسمُ القصيدةِ

ففي انحناءِ المعنى ..

تبجيلُ الأَلفِ والياءِ

وغناءٌ

يكتبُ الضّوءَ

على العناوينِ الملوَّنةِ

المدهونةِ بالخرابِ

أبخرةُ احتراقِ الصّوَرِ

توحي بظلالٍ عميقةٍ

سقطتْ سهواً

من أذهانِ الشّعرِ

حينَ

نهدمُ بيوتهُ

بيتاً.. بيتاً

ونسكنُ بيتا غرائبيَّاً

لنبشِ الماضي

تراثاً

نكراناً للحاضرِ

ونكتبُ على جدرانِ الأمسِ

مواعظَ منمَّقةً

نفردُ القواميسَ

المشرَّدةَ خلفَ المعنى المبهمِ

ونستأثرُ بالشُّعراءِ

لنملأ فراغَ قهرنا

بالشَّعوذاتِ

والقصصِ الخرقاءِ

ندخلُ من القلبِ

ونخرجُ من فجوةِ العقلِ

حاملينَ معنا

جلبابَ القصيدة …

***

سلام البهية السماوي

 

خرج جبر العايف من داره كعادته في صباح كل يوم متوجها إلى مصدر رزقه.

لم يكن يخطر ببال جبر، إن أمرا غريبا سيغير حياته في ذلك اليوم.

وكان قد غادر داره عند الضياء الأول من النهار وهو الوقت الذي يخرج فيه معظم الكسبة من أجل تأمين قوت يومهم.

سلك جبر نفس الطريق الذي تسلكه الشغيلة في كل يوم.

وبمجرد خروجه من داره بدأ الهواء الساخن يلفح وجهه، وهذا ما عرف عنه في مثل هذه الأجواء في شهر تموز من كل عام (وإن جميع أبناء بلدته يدركون ذلك أيضا).

وهو أمر طبيعي فلن يمنعه ذلك عن مواصلة السير.

لاحظ: جبر أن أعدادا غفيرة من الناس رجالا ونساء يحثون الخطى للوصول إلى مكان ما!

وعليه أن يسرع هو أيضا ليتبين سبب ذلك (وهي حالة قد تميز فيها جبر وهي حب الاستطلاع).

قال جبر في نفسه: إنها محاولة جديرة بالاهتمام قد تعود علي بالفائدة.

خطر في بال جبر بأن الآخرين قد يفكرون في مثل ما يفكر فيه وعليه أن يسارع الخطى.

شعر جبر في قرارة نفسه أن الحالة هذه تختلف عن بقية الحالات التي خرج فيها سابقا من داره.

واستدرك قائلا: قد يكون الأمر طبيعيا.

فليس من المعقول أن يكون كل هؤلاء لا يعرفون سبب توجههم إلى ذلك المكان!

علي أن أتريث وأسأل أحدهم عن سبب ذلك عله يعرف.

وأردف قائلا: كلا لا يتطلب الأمر السؤال علي أن أسرع أولا.

حينما وصل جبر إلى نهاية الطريق، وجد أن البعض قد سبقه والبعض الآخر قد تخلف عنه.

حينذاك بدأت الشمس تلقي خيوط ضوئها على المكان مما مكنته من أن يتبين المكان الذي اندفعت اليه تلك الجموع وهو من ضمنهم!

عند ذاك رفع جبر بصره إلى أعلى فشاهد لوحة عليها عبارة بخط عريض وبلون أحمر!! أثارت العبارة في نفسه الريبة والقلق وعندها أخذ يردد بصوت غير مسموع:

(ما ذا يعني هذا المكان وماذا تعني عبارة (المسلخ العمومي)1؟

ولماذا يهرع الناس للوصول إليه؟

وليكن، وعلي أن ألج هذا المكان مع تلك الجموع:

ومع هذا فإن الهدف لا زال غامضا عندي:

ولكن، علي أن أسأل أحدهم وقد يكون عنده ما يكشف السر:

أجاب أحدهم ردا على سؤاله:

(اعتقد وعلى ما سمعته من أحد المسؤولين:)

(إنهم سيوزعون اللحم والدجاج في هذا المكان وعنوان المكان يشير إلى ذلك وهو مسلخ!)

وأردف قائلا: (قد تكون حصة إضافية على البطاقة التموينية)

دخل جبر إلى ذلك المكان فوجده يختلف كليا عن بقية أمكنة مدينته!

يبدأ المكان بسلم طويل يتجه إلى أسفل.

لم يتمكن جبر من معرفة عدد درجات السلم بسبب الارتباك والدهشة التي اعترته1

وجد جبر نفسه وسط قبو شبه مظلم تنتشر في أرجائه عدد من الشموع وتفوح من أرجائه رائحة غريبة أشبه برائحة البخور.

وتلك الرائحة أعادت لذاكرته الأمكنة التي كان يجدها في المزارات والمدافن والأعراس!!

ما أن استنشق جبر تلك الأبخرة والروائح حتى أصيب بدوار هو اشبه ما يكون في أخذه جرعة من الأفيون.

أجال جبر نظره ليتأكد ما يجري حوله في ذلك القبو.

لقد تمكن من التعرف على بعض المشاهد والتصرفات اتي بدت له غريبة ومريبة جدا وبعيدة عن المألوف !

كان جبر يمتلك بعضا من صلابة جأش بسبب ما مر فيه سابقا من مواقف صعبة أثناء مثوله أما لجان التحقيق وخلال انتزاع اعترافات منه تحت التعذيب أضافة لمكوثه في غياهب السجون والمنافي البعيدة لعدة سنوات.

لذلك فإن أول ما تعرف اليه وما وصل إلى ذهنه هو ذلك الصوت الأجش الذي رددت صداه جدران القبو المعتم وهو يصرخ لمرات عدة:

(الكل يخلع ملابسه ويتعرى بالكامل!!)

قال جبر مخاطبا نفسه:

لابد أن أجد مخرجا وأنفذ بجلدي قبل أن أخلع ملابسي ولكن:

علي أن أراقب من بعيد ما سيحصل هنا في هذا القبو الغريب والرهيب!

وأضاف: وبذلك سأكون شاهد عيان وأنقل الحقيقة للناس الآخرين المخدوعين.

انتبه جبر لوجود لافتات عديدة تغطي جدران القبو وإنه بالكاد تمكن من أن يقرا بعضا منها وذلك بسبب عدم وجود ضوء كاف فتبين له أنها هي نفس الشعارات التي كان البعض يطلقها لخداع الناس وابتزازهم.

تمكن جبر من قراءة البعض من تلك الشعارات وبشكل متقطع!!!:

(بالروح بالدم... الموت والموت... ثم... الموت حتى الشهادة.. يسقط... يعيش ...الوطن... الحرية... المستقبل...الخبز... أين حقي؟

ارتعدت فرائص جبر حينما شاهد ماكنة كبيرة وغريبة الشكل تنتصب وسط القبو.

عاد ذو الصوت الأجش يصد أمرا آخر:

(على جميع العراة أن يقفوا بالطابور إزاء الماكنة صفا واحدا !!)

وما أن دخل واحد من ذلك الصف إلى الماكنة انطلق الصوت الأجش يصرخ بأمر جديد:

ارتعد فرائص جبر من شدة الصوت الأجش المجلجل.

(شغل: أسلخ!)

دوت الماكنة بصوت أشبه ما يكون بإزالة شريط لاصق من مغلف محكم أعقبتها موسيقى صاخبة أشبه بمارشات عسكرية إضافة لترديد بعض من آيات الذكر الحكيم!

خرج الرجل المسلوخ من الباب الخلفية للماكنة.

عاد الصوت الأجش يردد هذه المرة صوتا حنونا يختلف عن المرات السابقة!:

(بالعافية ومبروك عليك ستكون الآن إنسانا خاليا من المشاكل والطلبات الكثيرة!!)

أستمر جبر يراقب ما يجري داخل القبو ومن موقعه المخفي عن الأنظار.

وخلال ذلك راودته فكرة مخيفة وتساءل مع نفسه:

(كيف سيكون مظهري وشكلي أمام الناس وخاصة أمام أهلي لو تم سلخ جلدي مع هؤلاء، وهل سيتعرفون علي بعد سلخ جلدي واختفاء تفاصيل جسمي وقسمات وجهي لو أنني رضخت لأوامر صاحب الصوت الأجش؟)

أبعد جبر ذلك الكابوس من رأسه واستمر بالمراقبة:

أطلق جبر صرخة مكتومة قائلا:

(يا للهول إن المسلوخة جلودهم يقفون صاغرين بصفوف متراصة أمام أحد جدران القبو ولا تظهر عليهم أية علامات استنكار أو أسف ولا يمكن تميز واحدهم عن الأخر بسبب اندثار   سيماء وجوههم والأغرب من ذلك فقد أصبحت أشكالهم الجديدة بعد سلخ جلودهم أشبه ما تكون بالسحالي الملساء!!)

تابع جبر من موقعه مشاهداته وقال في نفسه: ما الذي حل بجلود تلك الزمرة التي خرجت من الماكنة بعد سلخها ثم استطرد.

(نعم هو كذلك وكما أراه الآن.)

فهنالك مجموعة مسلحة تخفي وجوهها بأقنعة تقف بجانب الماكنة وتتلقف جلد المسلوخ وتذهب به إلى موقع في جدار القبو لغرض تعليقها هناك بخطافات حديدية!

عقدت الدهشة لسان جبر حينما رأى تلك الجلود تعلق في الخطاف من أياديها متجه إلى أعلى وكأنها تمثل حالة استسلام الجنود خلال معركة خاسرة!!

لقد وجد جبر فرصة مواتية لينفذ بجلده ووجد هنالك في القبو ممرا سريا يفضي إلى الخارج.

خرج جبر سالما معافى من القبو وأطلق ساقيه إلى الريح ليصل إلى بيته قبل إن يلحق به واحد من جماعة الصوت الأجش.

وفي غرفة الضيوف في بيته أخذ جبر يسترجع احداث ذلك اليوم الرهيب وورد سؤال في ذهنه:

كيف سيبدو مظهر الذين قد تم سلخ جلودهم عند وقوفهم أما كاميرات المحطات الفضائية

وهل سيتمكنون من الإدلاء باعترافاتهم ويبينوا للمشاهدين كيف خدعتهم الدعايات والشعارات الزائفة وكيف جرتهم اقدامهم إلى هذا المصير السيء وكيف فقدوا أهم ما يحتفظون فيه في حياتهم وهي قسمات وجوههم وطبعات اصابعهم التي تميزهم والتي هي الشاهد الوحيد على اثبات شخصيتهم؟

قبل أن تأخذ جبر سنة من النوم رن جرس هاتفه النقال وردد صوت أجش موجود في الطرف الآخر قالا بحدة وغضب:

(ألو هل أنت جبر العايش؟)

انتفض جبر من غفوته ورد على المتصل:

(ألو، ألو من المتكلم؟)

أنقطع الاتصال!!

***

لطفي شفيق سعيد

مدينة رالي 22 شباط 2024

العودة إلى الكتابة بعد عمر التسعين

ألمسُ النهار

وأنتِ فيه الحرير

منه تومضُ ضواحي القلب

تتبلّل حماماته البريّة

قبل أن تطير.

هذا الرأس

بيت العواصف

حارس الشهقات

لا تولد فيه سوى قبلات

تنقذُ الحبّ من الأسر

كلما تأرجحتْ ناره

بين زنازين ثدييكِ النهرين

*

عدتُ إليكِ

لباحة التوت والقرنفل واللوز

أجدفُ فيها

ولا مِنْ فاكهة أعصر ريقها

لتصير بحيرة من لهبٍ

*

لتكتب الغابة عن هذي الطينة

قبل أن يجفّ فانوسي

قبل أن تحترق الظهيرة

وتتحول القصيدة إلى تابوتٍ

إلى امرأة بحلمة ورديّة واحدة

تذوب اشتهاءً

من سؤالي الأخير

كم مرّة اصطادتْ ثيابكِ هذا الغول؟

وخلّفتْ قطرات خائفة

تتجول في الزمهرير

*

اجعليني أتعلّقُ بكِ

كالحروفِ بالمحبرة

لأشاهد ميلادكِ، هجركِ، موتكِ

حتى يعلو بساطكِ السحريّ بي

أطوف جسد العالم العاري

أزجُّ بألف موت غادر هذا الرثاء الباكر

دون أنْ يفيق

*

ها أنا ذا عالقٌ في اللّحن

يدي بين سنبلة الشوق

وليل غامض التفاصيل

ينساب على كتفي... شعركِ الديجور

يزجرني ... أتمتم غيمة غيمة

فيخفقُ مرتبكا قلبي لهذا الانتقام

هذا ما قالته حكاية الأمس

مجرد خيال شيخوخة مرّت بالظلال

أرشديني لو كان رأس الشقاوة مني

هذا الشِعر البالي

أنا لم أقتفي أثره

هو من مشّط قاموس أحجاري

فمشيتُ بلا خُضرة

أزيّن عنق موجة

وعدتني بالولائم والغزلان

*

خذيني نصفا

ولا تُبقي مني النصف في بلادي

*

الآن وقد انسكبَ هذا الجُرح

لؤلؤة قادرة على اللّمعان

تصفرُ

حتى اتسع طيرانه بالدموع

*

اكويني ببهجةٍ صافية السماء

وافصحي عن فوهة جحيمي

برّاقة هي شرارات العزلة

كلما غُمّستْ النظرات بالآهِ

يا ياقوتة أحلامي الطريّة

حين أسكن سرابها

تفيض انوثتها ماءً وخبزا

*

كنت في النار عنوة

عند منعطف قدميها

وما من أحدٍ يصبُّ عليّ آية إبراهيم

أو ينجي مني هذا الوريد

*

ما زال العناق يملأ فاجعتي

يبلغ حقلا من صراخ أبدي

فاض جنوب ذاكرتي

***

زياد السامرائي

وقــفتُ  أمــامَ عــينيها الــرقيقةْ

بــصمتٍ دامَ أكــثرَ مــن دقــيقةْ

*

أحـــدِّقُ  بــاحــترامٍ وَ يْــكَــأني

أطــوفُ شــوارعَ القدسِ العتيقةْ

*

فــــأدّيــتُ  الــتــحيةَ بــاحــترامٍ

كــجنديٍّ مــن الــدولٍ الــعريقةْ

*

مــخاطبةُ الــجمالِ لــها طقوسٌ

وأفــضلها يــكونُ عــلى السليقةْ

*

فــفي العــينين أســرارٌ حــيارى

تــنــاديني لأكــتــشفَ الــحقيقةْ

*

لــمحتُ بــعمقها أســرارَ عشقٍ

فــأبــدتْ لــي تــفاصيلاً دقــيقةْ

*

ذهــبتُ مــع الــخيالِ إلــى بعيدٍ

وراءَ  الــغــيمِ وديـــانٌ ســحيقةْ

*

لــعبقرَ فــي بــلادِ الجنِّ أمضي

وحــيداً والــمخاطرُ بــي مُحيقهْ

*

لأكــتبَ فــي مــحاجرِها حروفاً

تــحــلِّقُ مــثــلَ أطــيارٍ طــليقةْ

*

وتــأتي فــي ســكونِ الليلِ سراً

عــسى تــلقى لــمخدعِها طريقةْ

*

وتــخــبِّرُها بـــأنَّ هــناكَ قــلباً

بـــه فــي كــل زاويــةٍ حــريقةْ

*

ألا هــــبـّـي لــنــجدتهِ ســريــعاً

وكــوني  كــالملاكِ بــه رفــيقةْ

*

تــجلَّى  مــن سنا الخدينِ صبحاً

بــه انــبهرتْ أزاهــيرُ الــحديقةْ

*

وقطراتُ الندى في الثغرِ لاحتْ

كــلــؤلؤةٍ  تــنــامُ عــلى عــقيقةْ

*

تــغارُ الــرِّيمُ والــغزلانُ مــنها

فــراشاتُ الــحقولِ لــها عشيقةْ

*

فذي سفني التي خاضتْ بحوراً

بــعينيها  لــقد ســقطتْ غــريقةْ

*

أيــا  صــنوَ الــبدورِ خــلاكِ ذمٌّ

كــمــا الــملكاتُ فــارهةٌ أنــيقةْ

*

فــمن  نــخلِ العراقِ بها شموخٌ

كــمــا بــغــدادُ نــاعمةٌ رشــيقةْ

*

بــعــيدٌ عــنكِ تــأكلُني الــمنافي

مــتى ألــقاكِ يــا أغــلى صديقةْ

*

فحبكِ في الحشا قد باتَ بعضي

وقــدْ رَسَــخَتْ لــه أُسُسٌ عميقةْ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

كنا نمشي أنا وكاظم الطعان في (الصالحية) فمررنا أمام مبنى الاذاعة والتلفزيون حيث أعدم الزعيم عبد الكريم قاسم، فأشار اليه وقال (هنا قتلوا الحسين بن علي): فقلت أو هو قال يرثي نفسه:

***

قتلوني فهذهِ الأرض طفّي

وكثيراتٌ في العراق الطفوفُ

*

لم يقتَّل فيه الحسينُ وحيداً

بل رأى ما رأى الحسينُ ألوفُ

*

ومصابي بكربلائي مصابٌ

سوف يبقى والدمعُ فيهِ ذروفُ

*

وصليبٍ للحب ظلتُ عليه

وقلوبٌ لها عليه رفيفُ

*

مات حانٍ - لمَّا قتلتُ - عليها

وعليها جنى جناةٌ صنوفُ

*

ودمايَ التي على الشَّعب سالت

هي منِّي وجسمه المنزوفُ

*

المساكين حينما قتلوني

ساكتون، ينظرون، وقوفُ

*

لم يقولوا كلا وفي كل شخص

ألف كلا تَخافُ وهي تخيفُ

*

نحروني كما الغزال المسجَّى

نحروه ولا أقول الخروفُ

*

لا لنفع لهم ولكن عليهم

هو شعبي وطبعه معروفُ

*

فحثثتُ الخطى تَصَبَّبُ جرحاً

حيث ألقى بيَ المصيرُ الرسيفُ

*

وحضنت الموتَ المقدَّر شوقاً

كحبيبٍ الى لقاء يشوفُ

*

حين ناديتُ بالحقيقة حاطتني

كروبٌ وعاجلتني حتوفُ

*

وهوى سيفُ المجرمين برأسي

كي يظلَّ الخنا وتبقى السدوفُ

*

فاستحالتْ من بعد موتي حياة

لمماتٍ، وكلُّ شيءٍ يخيفُ

*

كان موتي بداية لا انتهاءً

أو كما يحجب الشموسَ كسوفُ

*

خاب ظن العدى.. وخيَّب شعبي

أن رأياً به استدلوا كفيفُ

*

وبذوراً زرعتها في الغدِ الهشِّ

رعاها دون الربيعِ الخريفُ

*

قتلوني وفي العيون دموعٌ

وبنفسي حزنٌ عليهم منيفُ

*

واضطرابي ما زال نفس اضطرابي

حين أسعى لأجلهم وأطوفُ

*

وحياتي حياتهم قد فقدناها وكلٌّ معذبٌ ملهوفُ

*

فلتذرِّ العيونُ دمعاً على عمري التقضَّى وكلُّه تأفيفُ

*

ولتغنِّ الأيامُ ألحانَ أحزاني فيشفى بها سقيمٌ أسيفُ

*

ولتنادِ الرياحُ من جانب القبر: هوتْ راية وماتَ رفيفُ

*

وأريحَ الجهادُ واستوقفَ الزحفُ

ونامتْ ملءَ الجفونِ السيوفُ

*

أيها القبرُ ما شفيتَ جروحاً

بفؤادُ ولا اختلاني النزيفُ

*

لا أقول الشعبُ الذي خانني بل

خانتِ الشعبَ والبلادَ الظروفُ

*

ذاتَ يومٍ سيستفيقُ ندائي

بين شعبي ويستجيبُ الشريفُ

*

فلتسجَّلْ هذي الحروفُ على

قبري لتبقى عنِّي تقول الحروفُ

*

قتلوني فهذهِ الأرض طفّي

وكثيراتٌ في العراق الطفوفُ

*

لم يقتَّل فيه الحسينُ وحيداً

بل رأى ما رأى الحسينُ ألوفُ

***

أ. د. محمد تقي جون

للعشق ِ روح ٌ

وللروحِ عِشقُ

يُفَتِّحُ في النَّفْسِ

أزهارها الظامِئاتْ.

*

يُعِيدُ لِشَيْخُوخَةِ الكلماتْ

نَضَارَتَها المُشتَهاةْ.

*

يُعَبِّدُ للعابرينَ الوصول إلى

مُهَجِ الزاهِرَاتِ.

*

يَؤمُّ إلى طَرْفِهِ المُسْتحيلْ

يُحيلُ الرَّدى قلماً ودَواةْ !

والليلُ كرَّاسَةً لحديثٍ طويلْ

تُسَطِّرهُ الهَجَسَاتْ

وأنَّاتُ نَــــايٍ

وناياتُ نَأْيٍ

أنكأُ مِنْ

انْطِفاء الرِّئاتْ !

*

يُؤَدِّي أمانَتَهُ

إذْ يُوَفِّقُ بين فؤادَيْن ِ

ضَلَّا سبيل الوِدادِ إلى

الماسِ..والباقيـــاتُ !

بأنقى نقاء ٍ

وأَصفا لقاء ٍ

وصِدْقَ بقاء ٍ

وطِيْب حياة!

***

محمدثابت السميعي - اليمن

٢٠٢٤/٢/١٣م

عاد الزوجان أبو رهان من عيادة الطبيب المتخصّص بالعظام، في مدينة حيفا، إلى بيتهما في أحد أزقة الناصرة القديمة. كان العجوز أبو رهان يتوكأ على كتف زوجته العجوز أم رهان. شرع الاثنان في صعود الدرجات السبع العتيقة الموصلة إلى بيتهما. توقّف أبو رهان عن الصعود في الدرجة الخامسة، فطلبت منه أم رهان أن يصبر قليلًا.. اصبر يا رجل أصبر.. اعرفك قويًا. قالت، فردّ عليها لا أحد قوي على المرض. أخشى أن يكون ما قاله الدكتور صحيحًا. عادت الزوجة المنهكة تقول لا أعتقد أن ما قاله صحيح. أنت قوي ولا يمكن أن تعجز عن المشي على قدميك خلال فترة قصيرة. استنشق أبو رهان نفسًا عميقًا. وهمّ بمواصلة الصعود متكئًا على كتف زوجته، إلا أنه شعر بخدر يسري في قدميه. لا أستطيع المواصلة قال. أصبر يا زلمة. ما تبقّى من درجات أقل مما مضى.. الآن سنصل وسوف ترتاح. فكّر أبو رهان فيما استمع إليه من الطبيب. هو لم يكن يتصوّر ولا في أشد كوابيسه الكثيرة أن يضحي عاجزًا عن المشي.. ألم يُطلق عليه أصدقاؤه وأبناء حارته لقب أبو سبع اجرين؟.. إن شا الله بكون ما قاله الطبيب مجرّد وهم ينتهي ويعود أبو رهان القديم ليذرع الازقة والحارات المجاورة مواصلًا متعته في الحياة.. طولًا وعرضًا.

أخيرًا دخل الزوجان الغرفة. ليتواصل بينهما حديث الخوف والقلق.. منذ فترة عاد أبو رهان من جولته الصباحية اليومية في الحارة القديمة، وشكا من ألم في رجليه. يومها ابتسمت أم رهان وهي تربّت على كتفه لا تخف.. يبدو أنه ألم عادي.. خفيف ويمضي. ارتاح الزوج لكلمات زوجته الطيبة.. ابتسم.. ولم يعلّق.. غير أن ما كشفت عنه الليلة التالية، أظهر أن ما ألمّ برجليه من ألم لم يكن لعبة أولاد وإنما هو ألم جدي. بعد يومين لم يعد بإمكانه المشي إلا بصعوبة. الامر الذي دفع أم رهان للتوجه برفقته إلى مستشفى البلد. هناك حقنه الدكتور بحقنة خاصة. أراحته قليلًا إلا أن الوجع ما لبث.. في اليوم التالي.. أن سرى في قدميه. عندها عاد الزوجان إلى المستشفى.. ليتفاجآ بقول الطبيب المداوي لهما.. لقد فعلت كلّ ما بإمكاني.. لا أقدر على فعل المزيد. والحلّ يا دكتور؟ الحلّ بيدكم. الامر يحتاج للتوجه إلى طبيب متخصّص في حيفا. وقدّم لهما ورقة كتب عليها اسمه وعنوانه. في الليل أخذ الزوجان يضربان أخماسًا بأسداس ويتوقّعان ما يمكن أن يحلّ بعمود البت التاريخي وعندما خطر في بال أبو رهان أنه قد يتوقّف عن المشي نهائيًا هتف لنفسه بصوت مرتفع.. لا. عندما بلغ قوله هذا سمع زوجته ردّدت دون إرادة منها لا.. لذا ما إن بزغ فجر اليوم التالي حتى حمل الاثنان نفسيهما وانطلقا باتجاه حيفا. قدّم الطبيب المتخصّص هناك له العلاج الممكن. بعدها حاول تقديم العلاج غير الممكن.. بعد ثلاث أو أربع جلسات.. كما تتذكر أم رهان، رفع الطبيب يديه مستسلمًا.. لقد عجزت.. خلال فترة بسيطة سيكون المشي عسيرًا عليك والاغلب أن يتحوّل إلى مستحيل. والحل يا دكتور؟ الحل أن ننتظر معجزة. لقد بذلت كلّ ما بإمكاني من خبرة وعلاج ولم يعد بمقدرتي تقديم المزيد.. هناك محاولة أو محاولتان بعدهما لن يكون بحوزتي تقديم المزيد... فتح كوة الامل هذه دفعت الزوجين العجوزين للعودة إلى بيتهما في الناصرة القديمة.. ليصعدا الدرج ترافقهما معاناة حقيقية.. وأمل شحيح.

اتخذ كلّ منهما موقعه التاريخي القديم. على كنبتين عتيقتين متلاصقتين، ونظر كلّ منهما إلى الآخر.. لا يعرف ماذا يقول له. ما دفع أم رهان إلى فتح التلفزيون القديم قُبالتها.

-الدنيا بردّ.. أريد أن أستمع لنشرة الاحوال الجوّية. قالت

غرس عينيه في قدميه المتعبتين: لا تغلّب نفسك أعرف هذا البرد إنه برد شباط.. الاغلب أنها ستمطر.

بعد نطق أبو رهان بكلماته هذه سرى في رجليه وجع غير معهود، فانقبض وجهه..

- ما الذي حدث.. خاطبته زوجته.

- يبدو أن فترة جديدة عسيرة في حياتي ابتدأت.. أشعر بوجع فظيع في قدمي.

افتعلت أم رهان حركة توحي باللامبالاة أمام كلمات زوجها المنذرة بشرّ مستطير.. وقامت من فورها.. نقلت سرير زوجها من غرفة نومهما إلى غرفة الاستقبال.. بعدها أعانته على الوصول إليه. استلقى أبو رهان على سريره. فيما أحضرت زوجته الماء الساخن ليضع رجليه فيه..

- إرتح يا رجل.. ارتح الآن..

طفرت دمعة حارقة من عيني الزوج المكلوم:

- كيف سأرتاح وأنا أشعر بكلّ هذا الخطر المقبل؟

أرسلت أم رهان نظرة آملة إلى زوجها طالما أفرحته في ايام الشباب والعز:

- لا تقنط من رحمة الله.. لا تقنط.. إنه قادر.. يحيي العظام وهي رميم.

ارتاح أبو رهان لكلمات زوجته هذه. أغمض عينيه ضمن محاولة جادة للخلود إلى الراحة والنوم.. فيما راحت زوجته تتابع البرامج التلفزيونية واحدًا تلو الآخر. عندما هدأ زوجها. استسلمت إلى وسن خفيف.. فيما دخل أبو رهان في استراحة المريض. أحست الزوجة في أواسط الليل و.. ربما في أواخره.. لا تدري بالضبط.. أحست أن زوجها يسعى إلى المطبخ. ففرحت غير أن فرحها لم يدم. فقد هوى على الارض. بخفة فراشة.. وراح يزحف على أربعته.. محاولًا الوصول إلى حنفية الماء. وخُيّل إليها أنه لا يستطيع أن يقف على رجليه، فاسودت الدنيا في عينيها. فتحت عينيها ضمن محاولة للهروب مما هي فيه.. لتفاجأ بأن كلّ ما حصل إنما كان كابوسًا عابرًا. اقتربت من سرير زوجها ورفيق عمرها خلال أكثر من خمسين عامًا.. تمعنت في وجهه.. ماذا سيحدث له.. ولها أيضًا.. إذا لزم الفراش ولم يعد بإمكانه هو أبو سبع اجرين المشي عليهما.. أحست بغصة في حلقها ودمعة في عينها.. لقد ابتدأت فترة صعبة جديدة في حياتها.. وما كان في الامس لن يكون مثله في الغد. جلبت حرامًا قديمًا جديدًا خبأته منذ كانت عروسًا في أول زهوتها.. غطّت زوجها به وهي تتمتم.. بكلمات أشبه ما تكون بالتمائم والسحر.. انتابتها موجة من البرد غير معهودة.. فتوجّهت إلى النافذة لتغلقها.. أرسلت نظرة خاطفة إلى حيها القديم.. كان المطر يهمي مدرارًا.. وعادت إلى مقعدها قُبالة سرير زوجها لا تلوي على شيء.

***

قصة: ناجي ظاهر - (الناصرة)

 

بعد خمسين عاما يلقي القدر بين

يديه شهابا منها فيحترق جناح هدوئه

الى صديق الصبا والشباب عبد علي ساري

***

مربكا كان وكان

ضيق الصدر عجولا

يبتغي اخذ جريدة

دونَ قَصدٍ

حينَ مالَ

شَمَّ عِطرًا

وبها عَفوًا صَدَمْ

فعَلَتْ سَحنَتهُ طَيف ابتِسامَةْ

آسِفًا! قالَ واَحنى رَأسَهُ

لم يكُنْ في فيهِ خَيطًا للسؤالْ

لم يكن يَبغي بُلوغَ الساعَةِ القُصوى

من الوَقتِ المُحالْ

قالَ شَيئًا وتمطت شفتاه

فَفَشا صَمتُ الكَلامْ

اشْتَرى شِلْوَ جَريدَةْ

وضَعَ الزيزانَ في اقفاصِها

عدًا ونقدًا بِالتمامْ

قالِ: شُكرًا

وتَملّى لَحظَةً ثم اسْتَقام

اسْبَلَ الجفنين

مِنْ ثَمَّ اسْتَدارَ نُصفَ دَورَةْ

اكمَلَ السيْرَ الى حَيثُ الهَواجِسْ

.....

.....

لم يَكَدْ يَمشي سِوى بَعضِ الخُطى

وتَلفَّتْ

لِيَراها مِثلَما كانَ يَراها

مُهرَةٌ تَمشي على حَرفِ غَمامْ

ضَيَّقَ الوَردُ على مَشيَتِها

فَتَهادَتْ..

تَسرِقُ الأبصارَ من فَوقِ الطريقْ

....

...

اسلَمَتهُ النارُ للريحِ فَمالَ

كَعَلاماتِ السُّؤالْ

نَفَضَ الفينقَ في ِبُطءٍ وطار

يَمسح التأريخَ عن ذاكَرَةِ الوَقتِ المُحالْ

قَبلَ ان يَجلِسَ ما بينَ الظِّلال

قبل ان يَفتَحَ أبراجَ الحَمامْ

لتفُرَّ الكلماتُ من تَقاريرِ الجريدة

نحوَ تقريرٍ لِذِكرى عَذَّبَتهُ سَنوات

نحو

ذكرى

عذبته

...

...

عذبته سنوات

***

طارق الحلفي

كــلُّ الخُطى ترتَـقي إن كـان هاجِـسُهـا

للعــزم يــرفــدُ ، لا اطـماع تُـلـهِــيـهــا

*

شُـــمُّ الأنـوفِ ، فضاءُ الـعِـزّ مَنـزِلُهـم

ومَــن تَـعــوَّدَ  ذلاً  ، خـابَ بــانــيـهــا

*

قــلـبُ الـجــبــان ، اذا غَــذتْـــه أوردةٌ

مِــن الـتتخــلّــف يـبقى  فــي مَـهاويـها

*

مَــن يـدَّعــي الشـأنَ لا يقـوى مواصلة ً

وذو الاصالــة ، فــي عِـــزٍّ يـُؤديــهـــا

*

والإبـتــسامــةُ ،  إنْ ابْــدَتْ تـــكلــفــهـا

تُـــوحي بِرافــد نَــتْــنٍ ، فــي ســواقيهـا

*

عَـرّجْ عـلى بـعـضهـا واسْـبـرْ قـوافـيـها

واسْـتخبـرِ البـؤسَ هــل أبـْكى مـآقـيـهـا

*

وســائـلِ الـحـقَّ فـي أي الـجهـات خَـبـا

إذ لـم يـَعُـدْ مُـفصِحًا عـن نـفـسه فـيــهـاَ

*

مَــنْ ذا يـُعِـيـرُ لـها (تـَـفعيلةً) ذُرِفَـتْ

مِــن عــين مـُوجَعَة قــد غــاب والـيهـا

*

ومـِـــن أنِــين يــتامى خـلْــفَ أقْـبـِيـــةٍ

صُـفرِ الوجـــوه تـرَجّتْ مــَن يــُداويها

*

أكـــفّـَهــا رَفــَـعــتْ.. مِـمـّـا ألـمَّ بـــهــا

تـشكـو شــعارات مَـن بالزُور يُلهـيـهــا

*

هـــذا يــُغرّدُ  دون الــسِّرْب مُــغْـتَبِطــاً

بــحَـفْـنَـةٍ مِــــن وُرَيـْـقاتٍ يـُـداريـــــهـا

*

وَذا عــلى قَـــتَــبٍ يـــسعـى لـِــبَهْــرَجَةٍ

مُـغَــرَّراً ، بـكـؤوس مـات ســـــاقِــيـهـا

*

اســتـيقـظي يــا قــوافي واسْــكبي دِيَـمَـاً

فــتُـربـَــة الـمَجْــدِ تـُسـقى مِـن مَـعالــيها

*

الا يـَـعـيـــبــكِ أنْ تـــبـكي نــوارســُـهـا

وعَــزْفُ حـرفــِكِ ، مأســـورٌ لباغـيـهــا

***

( من البسيط)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

....................

(!) (الى المضامين الشعرية المأجورة المغردة خارج السرب لإرضاء الأسياد والعملاء ،بعيدا عن معاناة الشعب .. نشرت في 2017 م):

* وردت كلمة (تفعيلة) ويقصد بها مصطلح في وزن الشعر

كان رجب، ولمرات متكررة، ينادي ابنه ليعرف منه آخر المستجدّات والاستفسار عما يحدث في الخارج. هذه المرة جاء الابن ليخبره عن وجود بعض رجال ينتظرون مقابلته، وقد تعرف عليهم كقادة للمنظمة الحزبية في المحافظة. فنهض رجب وذهب لاستقبالهم. جلسوا صفاً واحداً في غرفة الضيوف، وجلس رجب أمامهم يطالع وجوههم. كان كمن يَعدّهم بين لحظة وأخرى ينظر مليا في سحنات مصفرّة وعيون أثقلها النعاس وكدّرها الخوف. طالعهم دون أن يفتح فمه. بدت تلك اللحظات ثقيلة وكأنها دقائق لتعازي تقدم لأهل الميت. صمت وريبة. استمر هذا وقتاً قصيراً. ولم يكن رجب واثقاً من كونه قادراً على حسم الأمور معهم بما يليق به شخصياً، أو بهم كقادة، كانت المدينة تحت سطوتهم وتنفذ لهم ما يرغبون. ولكن نفسه حدثته بأن تلك الأرواح تسعى اليوم للحصول على نجدة، تريد من يساعدها للملمة ما تصدّع. هكذا هي الأشياء دائما دون ثبات. حين كانوا يذلـّون أهل مدينتهم كانت كلماتهم الثرثارة تسقط ثقيلة قاسية تثقب الأرواح وتهينها مثل بصقة تلطخ شيبة شيخ قبيلة. واليوم أنقلب السحر وحل بدله الرعب والترقب.

لفـّهم صمت مطبق، فما كان من رجب إلا أن بادرهم دون مقدّمات من ترحاب وتودّد.

ـ كان كل واحد منا يتبع نهجاً ويسير عليه ومن أجله. وأنا كنت دائماً أفضّل أن أكون بعيداً عن أغراضكم وعلاقاتكم الحزبية بالرغم من جميع الحوادث، وأنتم بالذات تعرفون جيداً مقدار ما أملكه من أسراركم، ومع هذا فقد زهدت وأخفيت الكثير، ليس من أجل الحزب أو من أجلكم، ولكن من أجل مدينتنا. وأظن أن كشف بعض المستور سوف يكون شرارة تحرق الكثيرين، لذا فأنا أرى أن الصمت وإخفاء أو إتلاف بعض الأوراق الموجودة في المنظمة، سوف يساعد على حصر النزاع وإبعاد الشبهات، وليأتِ القدر بعد ذلك بما يشاء. ولكن ثقوا، وهذه أقولها من معرفتي الجيدة بأهل مدينتنا، ثقوا أن مدينتنا سوف تنال الطمأنينة بعد حين، وبعد أن يخمد أوار هذه الحرب الملعونة.

كان رجب يطلق كلماته ببطء شديد وكأنه يضرّسها تحت أسنانه، وهو يطالع الوجوه الخمسة ذات النظرات الحائرة المرعوبة التي جلست قبالته ترنو لإشاراته وحديثه مثل تلامذة مدارس. كان الخوف بادياً على ملامحهم، بالرغم من محاولاتهم التماسك لإبعاد شبح الرعب الذي سيطر عليهم كلياً. ولاحظ رجب أنهم، وللمرة الأولى، قد تخلوا عن بذلاتهم الزيتونية اللون.

ـ ولكن أبو قصي.. لقد اقتربوا من المدينة والمعارك تدور الآن عند جسر الهولندي، وتل اللحم أيضاً.. لقد أحاطوا المدينة من أغلب مداخلها.

ـ لا ضير.. لقد حُسم الأمر.. أظنه حُسم لصالحهم هذه المرة ولا حاجة لكم للعناد بعد اليوم ولا تفكروا بالحزب وتنظيماته بقدر خلاصكم الشخصي.

ـ ما الذي نفعله الآن..؟

ـ لا شيء.. لا شيء على الإطلاق.. نحن أبناء هذه المدينة، والجميع أبناء حمولات، وبيننا وشائج قربى. اذهبوا إلى بيوتكم والله يتدبر كل شيء.

ـ ولكن يقال إن بعض العشائر تتجمع لتدخل المدينة، وربما سوف يحدث الكثير من الانتقام والقتل والسرقات.

ـ لا تلتفتوا للإشاعات.. لا تدعوا القلق يقتلكم قبل أي شيء آخر.

ـ ألا يوجد حل؟

ـ أيّ حل وحول ماذا؟

ـ لوضعنا.. فأنت تعرف مسؤولياتنا في الحزب، ونحن نخشى من ردود فعل الناس.

ـ لا أظن أن مثل هذا سوف يحدث، ولكن لنتدبّر الأمر.. عليكم عمل الكثير وبسرعة، وأولى تلك المهامّ هي إحراق وإتلاف كل ما تحتويه المنظمة الحزبية من ملفات، لا بل عليكم إضرام النار بالمنظمة ذاتها وكذلك بمقر المنظومة الأمنية.

ـ ولكن..

ـ دون نقاش.. أنا لست مسؤولكم الحزبي، ولكني أتحدث من معرفتي بما يدور حولنا، وما تحتاجه وتترقبه المدينة قبل أي شيء آخر. ليس لكم غير طريق واحد، وجميعنا نتعلق به كأمل وخلاص. وقبل هذا أرى أن كل شيء قد انهار أو في طريقه.. ليست حرب عام واحد وتسعين.. إنها النهاية ولا تخدعوا أنفسكم.. لكم أن تختاروا ما تفعلونه بعد ذلك، ومن المصلحة بعد ذلك أن تكونوا دخلاء عشائركم.ذلك هو الحل الأمثل.

كان رجب محقاً في توقعاته، فقد كانت أخبار الانهيار تتوارد بسرعة وتنتشر بين الناس الذين يبدو أن الدهشة تملّكتهم فبدا الصمت سّيد الموقف، يخالطه التشفـّي الذي يطفح بشكل ظاهر فوق الوجوه المرتبكة. هكذا أخبره ابنه بعد خروج أعضاء الحزب.

***

رائحة الدخان تسرّبت ثقيلة مع موجة الغبار التي لفت المدينة. ليست خالية من روائح بارود وعفونته. دفع رجب حافة النافذة وأسدل الستارة وجلس يستمع لجهاز المذياع. أدارت أصابعه ولعدة مرات مفتاح الجهاز من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ثم توقفت عند وشوشة وصفير يأتيان من بعيد، وكأنهما من عالم آخر. عالم ساكن تتوقف فيه الحياة والريح صرصر تخترق الأجساد المتيبسة فتحيلها إلى رماد يُذرّ في الهواء، ثم يأتي المطر مدراراً فتبنى أجساد جديدة لتجفّ بعد حين، تأتي بعدها الريح العاصف تنخر الأجساد، وهكذا دواليك، دوامة إثر أخرى. من أين يبدأ حلم الإنسان؟ بأوجاعه أم بسعادته؟ وعند أي منعطف يلتقي بما أراد الوصول إليه. دسّ رجب رأسه تحت الوسادة الثقيلة فشمّ رائحة زفرة ريش الطيور فدفع الوسادة ورماها بعيداً.

***

ضغط رجب على أسنانه وأخرج كلماته ثقيلة واثقة.

ـ لا.. أرجوك، قل لهم يتركوني لحالي كي أعيش بسلام. هيا قل لهم ذلك. فلا شأن لي بهذا.

ـ لا أستطيع، فهناك من يريد سماع شيء منك.

ـ أيّ شيء.. ليس عندي ما أقوله.

ـ جرّب، فأنت لن تخسر شيئاً. وهم يودون فقط سماعك، ليسوا أعداء كما تظن. تأكد من ذلك. أنا متيقن من هذا، فلو كانوا يضمرون لك شيئاً لأتوا واعتقلوك دون مقدمات، لا يريدون إحراجك، ولا حتى إثارة الشكوك حولك، هاهم ينتظرونني في سيّارتهم، انظر هناك عند المنعطف.

ـ ولكن الأمر صعب.. صعب جداً.. فلم يسبق لي التعامل بأمور كهذه.

ـ إنهم يريدون الحصول على المشورة. بعض من أهل المدينة دلهم عليك.

ـ حول أي شيء وهم يملكون ما يملكون، والمدينة باتت تحت سيطرتهم واستقرت لهم الأمور.

 ـ جرّب، لن تخسر فأنا كنت متردداً مثلك. ولكن في النهاية تيقنت بأنهم بيننا، ومن الخير التعامل معهم.

كانت تلك ليلة قلقة مترعة بالكوابيس وخيم الغم الثقيل على قلبه. لم يكن ليخطر في باله أن يطلب الأمريكان مشورته،وعد مثل هذه الدعوة شؤما وخسارة جديدة تحسب مثل سابقاتها، ما الذي يقدمه لهم، ولم اختاروه بالذات.

بزغ الضياء الأول من صباح مغبر يلف المدينة،دفع رجب ستارة النافذة وطالع الشارع الفارغ الممتد أمامه، وحاور نفسه ثم خلص لجملة دائما ما عدها محاولة لطمأنة النفس.وهي تأتي مثل ترياق يسري بين العروق لتهدأ النفس وتذهب لحالة يأس مفرط أو لا مبالاة مفرطة.

ـ ليكن ما يكون.

***

أجتاز رجب الشارع مطرقاً رأسه، وذراعاه متشابكتان خلفه، مبعداً نظره عن حركة الأشياء من حوله. فكر بما دار من حديث مع القائد الأمريكي، كل ما أرادوا معرفته قدّمه لهم بنصيحة العارف بدقائق الأمور. طالبهم بأن يمنعوا الانتقام لكي تهدأ الأوضاع ويشعر الناس بأنهم قدموا لحمايتهم وليس للانفلات والفوضى وإشاعة الموت. كان مضطرباً وهو يسير وسط الشارع العريض الخالي من المارة ، تملكته رغبة عارمة للذهاب إلى مكتبه الذي عافه منذ بدأ الهجوم. ولكن رغبته تلاشت، ووجد قدميه تقودانه نحو بداية الشارع المؤدي إلى الناحية القريبة من شارع الحبوبي، حيث بيت صديقه المحامي أبو جبار اللامي، هناك يستطيع أن يفصح عما يدور في خلده، وليناقش معه ما دار بينه وبين القائد الأمريكي، فأبو جبار يملك من الحنكة والحكمة ما يستطيع أن يبعد عنه كل ذلك القلق والإرباك، ولا يمكن له أن يضنّ على صاحبه بما يطمئنه. ولكن ضحكة القائد الأمريكي كانت ترنّ وتملأ رأسه لتلسعه بطنينها. شقّ عليه استيعاب فكرة النوايا الحسنة، وراء تلك الضحكة التي عرض عليه بعدها أن يكون صلة الوصل بينهم وبين أهالي المدينة. داعبه لحظتها الأمل، ولكنه سرعان ما استيقظ منه، شاعراً بثقل المهمة وغموضها، في هذا العمر وبعد أن جاهد كثيراً. كل تلك الحياة التي عاشها مغامراً يتقلب فيها بحثاً عن وجود وكينونة، لم يدر في خلده أن يواجه مثل هذا الموقف وفي هذا الوقت بالذات. حتى الموت حسب له حساباً ولكن موقف اليوم له شأن مختلف. في تلك الساعة الحائلة الملامح، تبدو الأشياء وكأنها تُشوى فوق جمر. ولم يجد من يقف جواره. شعر بوحدته المضنية. لم يصنع سوءاً لأحد، فلماذا تتعقبه الأقدار بخياراتها القبيحة وبكل هذه الحدة والقسوة؟ من الصعب أن يشيخ المرء ويدرك في الأخير، أن ما تشبّث به كان خدعة أو لعبة لا خيار له فيها، بقدر ما يقودها القدر دون أن يفصح له عن هدفها. هل يمكن نسيان كل ما حدث مع مرور الزمن؟ واليوم عليه أن يبدأ من جديد. أية لعبة اختارها له قدره؟ وبعد كل حقول الألغام التي نصبت له والمهازل التي قدر له أن يكون مصاحباً لها، وتلك التي نجا منها. يجد نفسه اليوم لازال متماسكاً ويفكر. ولكن بأي شيء؟ ومن أجل ماذا؟ أيحتاج الأمر كل ذلك الجهد؟ أيخرج التعامل مع الأمريكان مدينته من محنتها؟ أم ترى أن المسألة تعيد صناعة نفسها؟ فبالأمس كان يرافق رجال البعث من أجل عمل أو حماية. والآن ما لون القادم؟ وما سوف يكون عليه مصير المدينة؟

سار رجب منعطفاً نحو البناية القريبة الواقعة في مقدمة السوق حيث عليه أن يتخطاها ليعبر الطريق نحو الجانب الأخر. بدت البناية وقد لـّطخت ببقع داكنة ونطت من سقوفها بقايا حديد معوجّ كأنه أضلع مكسورة. كان الدخان ما يزال يملأ المكان برائحته. دخان أسود يخرج من الجوف المحترق وبقايا كراسِ ومناضد وأوراق مبعثرة محترقة مرمية وسط الشارع. وثمة ثريّا معلقة في إحدى واجهات غرف البناية تتدلى وكأنها رجل مشنوق.

ـ ها أبو قصي، شنو بدلت ثوب البعثية بثوب الأمريكان؟

لم يسمع رجب الكلمات جيدا، فقد ضاعت عنه مع صوت رشقات رصاص. هزّت الرصاصات جسده وطوّحت به ليهوي عند عتبة البناية. اضطرب معها جسده فشعر بوخزات حادة لاسعة تخترق صدره. تلمّس مكامن الجراح وضغط عليها شاعراً بحّدة الألم. تراجع نحو الخلف ثم هوى بجسده وأخذ يخبط الأرض وكان الدم ينزّ فواراً من جسده المضرج ، وعيناه المتيبستان ابيضّتا وكانتا تحملقان في الفضاء الكالح البعيد.

***

فرات المحسن

 

بعدَ أنْ قالَتْ لَهُ

إنّهُ اليَوْمُ الأخيرْ

لَمْ تفارِقْهُ،

وظلّت خَلْفَهُ

خَطْوُها يَتْبَعُ سِرّاً خَطْوَهُ

ظلّ يمشي دون رُشْدٍ أو هُدى

والصّدى، يَتْبَعُهُ رجعُ الصَدى

غَيْرَ  إنَّ اليأسُ قَدْ طوّقَهُ

فغدا يجتَرُّ  ما قالَتْ لهُ:

إنّهُ اليَوْمُ الأخيرْ

إنّهُ اليَوْمُ الأخيرْ

كانَ مَهْموماً بلا وعيٍ يسيرْ

سائلاً نفسَهُ كَمْ

كَمْ من المراتِ قالَتْها

و كَمْ

ردَّدَتها

دونَ حُزْنٍ أو ألَمْ

ورمتْها في بحارٍ  مَنْ نَدَمْ

وقفا دونَ حَراكْ

حينما جاء مَلاكْ

وَهْوَ  يَشْدو:

ليسَ من شيءٍ أخيرْ

في متاهاتِ الحياةْ

قبلَ أنْ يأتي المَماتْ

والسؤالْ

سوفَ لا يترُكنا

قبلَ أنْ نَرْحَلَ

عَنْ هذي الدُنى

***

شعر: خالد الحلّي

ملبورن - أستراليا

ها أنتَ تجْنِي ما زرعتَ وتحْصدُ

لا تدَّعي مجدًا، فمثلُكَ يُقصدُ

*

أنتَ المُؤمَّرُ مِنْ إلهٍ عادلٍ

عرشُ الإمامةِ خلفَ ظهرِكَ يُسندُ

*

يا أيُّها الرجلُ الذي لا ينْثنِي

إلَّا ويزهرُ حيدرٌ أو أحمدُ

*

مذْ أنْ تشرَّفتِ الخليقةُ حيثُ كا

نتْ فاطمٌ ترجو الإلهَ وتَنْشدُ

*

أشْرقتَ من خَلَلِ القداسةِ كوكبًا

للآنَ دريًّا يضيءُ فيُحمدُ

*

وحملتَ سيفَكَ مذْ عرفتَ أُوارها

وقضيتَ ما يُقضى وسيفُك أجردُ

*

عرَّيتَ شجعانًا، تهاوى مجدُهُمْ

هُزمُوا ولكنَّ الهزيمةَ تُحمدُ

*

أرْهبْتَهم حتَّى جعلتَ قلوبَهم

صرعى، وغيمةُ بأسِ سيفِكَ تُرْعِدُ

*

لمَّا دعاكَ اللهُ لبَّيتَ الندا

ورَكبتَ مرْكَبَ صعْبِها كي يُسْعِدوا

*

وخرجتَ أنتَ وذو الفقارِ بغايةٍ

إختارَها الفردُ العظيمُ الأوحدُ

*

لم تبلغِ السِّنَّ الرشيدَ ولم تزلْ

غضَّ الحمائلِ، ليسَ مثلُكَ يُجهَدُ

*

فحملتَ بابًا لا يقومُ بحملهِ

إلَّا أخو سيفٍ يكرُّ ويَزْبدُ

*

عجبًا لمن نكروا الإمامةَ وهْيَ فيْ

كَ تناسلتْ وبها المَلا تتعبدُ

*

لم يقرؤوا القرآنَ إلَّا ظاهرًا

زَهدُوا بما هو مُضْمرٌ ومُسدَّدٌ

*

ونَسوا بأنَّ اللهَ قالَ مُخاطِبًّا

يا ناس بعد محمَّدٍ له أخلدوا

*

وقَطعْتَ شوطًا في المدائن حاملاً

ما كان أوصى للأنامِ محمّدُ

*

جنْدلتَ مرحبَ وهو اسمٌ لامعٌ

وصَرعْتهُ والناسُ حولك تَشْهدُ

*

كنتَ ابن بجدتِها علوتَ على العُلا

ببلاغةٍ وفـصيحِ  قولٍ يُفردُ

*

أنتَ البليغُ وأنتَ كلُّ فصاحةٍ

نهجٌّ بلاغيٌّ وقولٌ سرمدُ

*

ظلموكَ كلَّ الظلمِ حتَّى أنَّهم

جعلوا سِبابكَ ديدنًا يترددُ

*

قتلوكَ في يومِ السقيفةِ، يشتكي

للآنَ، منها: مبغضٌ ومؤيَّدُ

*

وتوالتِ الضَّرباتُ حتَّى أنَّها

زادتْ عن الحدِّ الذي لا يُحمدُ

*

للآن ما زالوا على منوالهم

سبيٌّ وتهجير وحقد أسودُ

*

ونسوا بأنَّك مذْ ولدتْ موحِدًا

وبأنَّ مثلك، لا يموت، مخلدُ

***

د. جاسم الخالدي

لا شيء مستحيل على الإطلاق

باستطاعتنا فعل كل شيء

طرد المسلمات المتعفنة من البيت

قلب نظام الأشياء بضحكة مجلجلة

إنتشال صداقتنا البريئة من قاع الجب

تقليم أظافر الكلمات القاسية

الذهاب إلى الوراء قليلا

بأقدام مجنحة

لتنقيح أسطورتنا الخارقة

من شوائب البراقماتيزم

إذن لنعقد صفقة تبادل عاجلة

تحت شجرة الأكاليبتوس

أو في ملهى ليلي

تحرسه نمور من السافانا

أحرر قبلاتك من أنفاق روحي

وتحررين أسرى كلماتي

من معتقل اللامبالاة

أشهد أني خسرت الكثير

في هذه الحرب القذرة

تفتحين النار على طوابق الفوبيا

في حديقة رأسي

تفتحين النار على سرب صلواتنا

تدمرين أبراج ذكرياتنا بدم بارد

تدمرين الأرجوحة التي صنعناها من ريش النعام

من جدائل الموسيقى الناعمة

نافق حمام علاقاتنا الباردة

ممتلىء جدا هذا الفراغ

بثعالب الوقت

مجنزرات العزلة تضرب في منحدراتي

القنابل لها طعم الفراولو

وموتاي يدقون الطبول

أمام دار الأوبرا

فوق الجسر المتحرك

تصغين لنأمة أصابعي

إذ تنقل مشاهد الحرب

تحت القصف الكثيف

عدوانية مفرطة

تمارسها كلماتك المحتشدة

بقذائف الآربجي

تقتلين الأشياء الجميلة

بكتيبة من القلق الفلسفي

لنعقد صفقة نهائية

تخلصين روحي الأسيرة

من قبضتك الحديدية

وأطلق سراح مائة وعشرين أسيرا

من جنودك المرتزقة

أعيد إليك سماءك زرقاء

كما لو في عز البدايات

أعيد طفولتك

في سلة مليئة بالفستق

وتعيدين لي ذهب المتصوفة

ومفاتيح المدينة المقفلة

أنا متعب جدا

يداي متهدلتان مثل شفتي عجوز

وللأشياء طعم الرصاص الحي

الحرب افترست كل شيء

مخيمات اللاجئين في طابوق قلبي

طائراتك الوقحة لا تعرف النوم

إيقاع الجنازات موجع للغاية

روحي متفحمة جدا

الأطباء ماتوا  بسكتة دماغية

الأمكنة فارغة مثل عيون الموتى

الربوة مطرزة بالجثث

الخراب يطال كل شيء

لنعقد صفقة نهائية

ونطرد الشياطين من فردوسنا

نطرد الشك مثل لص براقماتي

من شرفة روحينا المتنافرتين

نطرد بوم الضغينة من غابة الكلمات

نعيد الينابيع الصافية إلى كلماتنا الحزينة

لننه الحرب

ونتبادل جميع الأسرى في كنيسة ما

نقيم مأدبة عشاء سري

أمام تمثال مريم العذراء

نصلي على إيقاع السلام الأبدي

نعمد روحينا المتعبتين بمياه المحبة

ولتذهب الحرب إلى مملكة هاديس.

***

فتحي مهذب

أَهْدَتْهُ الشمعة وانْطَفَأَتْ

أَوْهَبَها الضوء ولم يَخْبُ!

*

كانت تَحْرسهُ بَنادِقها

ولذا بالفِيزَا ساحقها

فابْتَلَعَتْ منفى الجنسيةْ!

*

قالت: دنيا

قال: لديك ِ أَحُطُّ رِحَالي...

قالت:وأنا إليكَ سآوي!

*

ذات هواها البدوي:

غنمي

إبلي

طيري

عُمْري

رأس أبي مَهْرَاً لِرِضَاكْ!

*

ذات الجنس العادي:

ليلُكَ فَخْذٌ

وصباحُكَ جِينْز أَمَاليد ِ!

*

وتَلَتْهَا.. تَلَت ْ

بنت أبيها

بنت الشارع

بنت السوق

بنت العم فنادق

بنت وزير الحب

بنت سفير الخصر

بنت القاضي الشائك

ديانا الفتنةْ

ذات الُّلعْس الأولى

ذات الخال الأبيض

البرتقالةْ

جارة ليلى

ورد الورد

نوال الخُردةْ

نور الصين

هند الهند

عدن الأنثى

أم يهوذا

خالة توني

مريم بوش!

*

آخرهُنَّ أضاءَتْ:

ثمري أحلا

وفمي أشهى

وشماريخي تُغْرِقُ كَشْحي!

*

أَهْدَتْهُ الشمعة وانْطَفَأَتْ

أَوْهَبَها الضوء ولم يَخْبُ!

***

محمدثابت السميعي - اليمن

2006م

 

لم أكن أتوقع وأنا أستمتع بالاستجمام ذات صيف جميل على شاطئ بحر طماريس بنواحي مدينة الدارالبيضاء، لم أكن أتوقع أنني سأقع أنا أيضا وبشكل درامي ضحية الغرق. وأنا أستعيد إلى حدود الآن تلك اللحظات العصيبة وعلى الرغم من مرور سنوات طويلة على ذلك الحدث المخيف ما تزال الذاكرة ترتج، فحدث الموت مفزع ولا يمكن تقبله. كنت بالكاد قد أنهيت السنة الدراسية بتميز حاصلا على شهادتي الجامعية وكلي توقد لمواصلة مسيرة حياة متميزة ومتفردة. وكي أتخفف من عناء السنة ومشاقها قررت الاصطياف بشاطئ البحر رفقة العائلة وفي غياب الأم المتوفاة. كنا قد اعتدنا على قضاء بضعة أيام من العطل الصيفية بفضاء شاطئ طماريس الجميل، إذ ما أجمل صحبة الرمال الذهبية والهواء البحري الصافي الصحي، وأكثر ما كان يغويني هو أن تعيش بجوار البحر. كنت مفتونا وأنا تستيقظ صباحا مع شروق الشمس وبصري يمتد بعيدا نحو أفق ضبابي ولا محدود، ويصلني صخب الأمواج وهي تداوم على حركيتها العبثية ليل نهار. كان من عادتي وأنا أقضي هذا الاستجمام المدهش أن أكتفي بالاستلقاء على الرمال مستلذا سخونتها حاملا بين يداي كتابا، وكان الكتاب الذي حملته معي " الإنسان المتمرد" لألبير كامو. لم أكن أستوعب ما يعرضه من أفكار وتصورات فلسفية بقدر بساطتها الظاهرية إلا أنها تتضمن صعوبات مفاهيمية غاية في العمق وإشكالات فلسفية غير معهودة.

و لن تفارقني ذكرى ذلك اليوم الذي قررت فيه السباحة وسط أمواج خادعة، إذ كانت في البداية هادئة ومغرية وجذابة، تستميلني بلطافتها وأنا أرتمي في أحضانها، كان ذهني يجتر بقايا أفكار بدت لي عصية على الهضم والفهم، كانت أمواج البحر تتلاعب بي كذلك أفكار الكتاب، كنت ربما ذاهلا أو غائبا وأنا أشق صفحة الماء، وأتهادى وسط البحر الفسيح، اندفعت متعمقا سائحا بلا بوصلة منتشيا بالتمثلات التي كانت تتصارع بداخلي  وتتراقص لها خلايا الذهن باستمتاع. بدأت الأمواج تصخب فما عدت أفرق بينها وبين ما يتموج بداخل الذهن، وحينما استدرت ورائي بدا لي الشاطئ بعيدا فقررت العودة، إلا أن ما حصل أفزعني إذ بقدر ما كنت أتحرك نحو الشاطئ كان تيار مائي يجرني نحو الأعماق، فبدأ الخوف يراودني واستيقظ المتمرد منتفضا، وسرت رعشة عميقة في أكل أوصالي تمدني بكل الجهد كي أصارع التيار الذي يسحبني إلى داخل البحر. وعيت أنني في ورطة من أمري وبدأت أطياف الفكر تحوم من حولي وأنني غارق لا محالة. وحينما أحسست أن نهايتي قد حانت، بدأ ذهني يتساءل: أ هذه نهايتي؟ والكتب التي نويت أن أقرأها هذه السنة؟ والكتب التي اشتريتها مؤخرا، لماذا اشتريتها وأنا الآن على عتبة الغرق والزوال؟ والكتب الأخرى التي على رفوف مكتبتي الصغيرة والتي تنتظر أن ألامسها وأتمتع بقرها؟  أ هذه هي النهاية؟ لا يمكن أن يحصل ذلك بهذه السهولة، لا يمكن.. كانت الأسئلة تتهاطل علي مثل شلال وأنا في غاية الإنهاك من كثرة ما بذلته من مجهود لمصارعة التيار، فكان الحل أن ألفت المصطافين القلائل الموجودين بالقرب من الشاطئ إلى مصيبتي. كنت أرفع يدي بصعوبة باذلا ما تبقى لي من طاقة في الصراخ والنداء طلبا للمساعدة. سأعرف فيما بعد أن رجال الإنقاذ كانوا قد غادروا الشاطئ لتناول وجبة الغداء، ومن حسن حظي أن أحد المصطافين انتبه إلى استغاثاتي، فسارع للبحث عن رجال الإنقاذ. لم تمر إلا بضع لحظات كانت طويلة بالنسبة لي وصعبة حتى رأيتهم يسبحون باتجاهي، وحينما اقتربوا طلبوا مني الاسترخاء على ظهري حتى أساعدهم في سحبي نحو الشاطئ. لم تكن المهمة سهلة إذ تطلب ذلك الالتفاف على التيار المائي للخروج إلى بر الأمان. كنت أشعر بالدوار والتعب وأنا أقف على رجلاي، كنت على أهبة أن أشكر الذين أنقذوني إلا أن التعامل الفض  والقاسي الذي واجهني به رئيسهم أيقظ بداخلي المتمرد الذي سكنني فكد أفقد صوابي  وأتشاجر مع من أنقذني، لكن لحسن الحظ التف حولي أحد المصطافين وجرني بعيدا عن الجميع وهو يزرع الطمأنينة بداخلي ويهنئني على سلامتي ونجاتي.

***

للكاتب الدكتور عزيز القاديلي

 

في بلاد اليَاقِ ياقْ

القريبةِ من بلاد الواقِ واقْ

اِجتمع أهلُ الحلّ والعَقد

والعقل والنّقد

تدارسُوا أوضاع البلاد

التي عَمَّ فيها الفساد

بعد التّنقيبِ والتّقليبِ والتّمحيصُ والتّنصيص

والتّحاور والتّشاور

في الأسبابِ والمُسبّبات

أجمعُوا على إلقاء القبض على الشّيطان

وحَبْسهِ إلى أبَدِ الآبدين وراءَ القُضبان

لأنّه سببُ الفسادِ في البلاد

تساءلوا كيف يُمسِكون بالشّيطان الرّجِيم اللّئيم

الماكر الشّاطر

أَحْكمُوا الخُططَ

أَفلتَ

اِستنبطوا الحِيَل

راوغَ

نَصبُوا الشّراك

نَجا

قالتْ لهمْ قهرمانةٌ عجوزٌ منَ الغابرين

أنا أُمسكُ بذاك اللّعين

وأمرتْ أن يُنادِيَ المُنادي

في السّاحاتِ وعلى السّطوح

ـ مَن يستطيعُ الدّخول في زُجاجةٍ

أنا رَهنُ إشارتهِ في كل حاجةٍ ـ

سُرعان ما لبّى الشّيطانُ النّداء

وقال فرِحًا مسرورًا

ـ ها أنا ذَا

ودخل الزّجاجةَ

أسرعتِ القهرمانةُ وسَدّتها بالغِطاء

صارَ الشيطانُ في الزّجاجة حَبيسًا تَعيسًا

فمَا وَسْوَسَ ولا غَوَى

تنفّسَ النّاسُ الصُّعداء

مَضى يومٌ… أسبوعٌ… شهرٌ… فَصلٌ..

وعامٌ

أمستِ البلادُ بلا حَراكٍ

النّاسُ كأنّهمْ نيامٌ في سُباتٍ

لا فلاحةٌ،لا مِلاحةٌ،لا سياحةٌ

لا مالٌ ،لا أعمالٌ

لا شَوقٌ ،لا تَوقٌ

لا جمال ،لا ذوقٌ

لا ورودٌ ،لا مواعيدُ

ولا زواجْ

حَطّ الكسادُ على البلاد

ذاتَ ليلةٍ ليلاء وفي الظّلام الدّامس

قامتِ العجوزُ تمشِي

على عُكازها

فلمْ تشعُرْ كيف دَحرجتِ الزّجاجةَ

يا ويحَها

تهَشّمتْ فاِشتعلتِ الأضواءُ من النّوافذِ وفي السّاحاتِ

وعندَ الفَجر

عادَ الدّبيبُ إلى الطّرقاتِ

والمُؤذّنُ صاحْ

...حَيَّ على الفَلاحْ

***

سُوف عبيد ـ تونس

 

مهداة لمن قال في لهيب النار:

{ولعت ومضى}

{حلل يا الدويري وعانق السما}

***

لا تسألوني عن حرمة دمي،

فدمي مباح بين أخوتي،

مسفوك في مجاري بلادي،

بحمم القنابل،

بمزن الرصاص،

وحقد الغاصب للتراب،

الغذاء،

الماء،

الهواء،

الدواء،

فدمي؛

يسقي الحرية في عروق أطفالي،

يعبد معارج الأرواح للسماء،

يدفن الأشلاء والأطراف في الذاكرة،

شرائط أحداث الأحياء،

من سكنوا بلادي،

رسموا الصور والذكريات ملامح على الوجوه،

وجدران المدينة،

وصفحات الكتب،

للخلود في أسماء الشهداء،

وشواهد القبور والفناء،

وقوافي الرثاء،

ودموع البكاء ...

*

نحن مازالت أيدينا على الزناد،

تحرر الأعراب من الأغراب،

والغربان،

ترقى بهم في مدارج الفراغ والنار،

لعلهم يستفيقون على عروبة سكنت؛

ما بين البحر والنهر،

والبراري والصحاري،

تنادي خيمة نصبت فوق بئر،

وأخرى عند جوار حسان،

وكأس من ذهب وفضة ونحاس،

ملئت بيد يزيد من سيل الكروم،

ما أردى الرجولة عبدا مكبل اليدين،

تحت القدمين، وَهْماً من شر أنياب من خشب،

لفهد الورق،

أن استفيقوا واستيقظوا من رقاد الكهف،

ورماد النار ...

*

جبروت القتل لا القتال،

من تحطمت أسطورته فوق الرمال،

وفي فتحات الأنفاق،

وتحت بقايا المنازل،

أسمال البذل،

ونجوم الرتب،

ونياشين الصدور،

ومبعثرات الجسد بالراجمات،

ومصائد الدبابات،

في الأكياس، تذكر بالذي جرى،

مجاهد من غزة حفر الخندق وزرع العبوة ومضى،

إلى النصر أو الشهادة سيان في طريق التحرير،

منذ، أن قال للأعراب: حيا على الجهاد؛

فردد الصدى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون،

اتفاقيات وتطبيع يحمينا، يظللنا، ينعشنا،

يحيينا ...

***

عبد العزيز قريش

فاس في:13/02/2024

لم يحفل، ولم يحاول حتى، إخفاء ترنح مشيته على طول إسفلت الشارع البارد الذي أدمن- حد الضجر- وقع أقدامه خلال رحلاته اليومية عديمة الجدوى.. كل همه الآن كان التفكير في أن الحظ سيحالفه هذه المرة.. وأنه سوف يراها مرة أخرى، كانت في عينيه نظرة جادة قوية سكبت فيه الجرأة، كأنه عاش كل دقيقة من عمره، بكل كيانه وإحساسه، استعداداً لهذه اللحظة.

لم يكن يكترث كثيراً لارتجاف قدميه وارتباك خطواته، ولا لانحناءة جسده المرهق وانكفاءه في مشيته، والأهم..إلى حقيقة أنه لم يعد بإمكانه أن يخفي ضعف قدرته على السيطرة على نفسه، وأنه أصبح عاجزاً لا يعي ما يمكن أن يكون، كانت الأصوات التي تضج في رأسه تزداد لكنه لم يأبه بأي شيء سوى استعادة تلك الابتسامة الصغيرة التي فرشت أمام أيامه المجدبة أملاً مشتهى بحياة أكثر وفرة واخضراراً..

وبالفعل، وبعد أن مر من أمام منزلها مبتعداً خطوات قليلة، سمع فجأة صوتها هو يغرد بما خيل إليه أنه اسمه، اتسعت ابتسامته وهو يلتفت بنصف جسده المتاح لكي يجيبها، أدار رأسه، وانتظر بسكون أن يعود النداء ليطرز آذانه آملاً أن تشع تلك الابتسامة مجدداً في عينيه، ولكن بضع هنيهات من الزمن كانت كافية لجعل ابتساماته هباءً منثوراً عندما ذبحته صدفة لقاء عينيها وهي تتقدم نحو زوجها وتقبله مودعة إياه عند باب المنزل،ناثرة في وجهها له كل الابتسامات التي في الدنيا، تلك التي كان مستعداً ليهب ما تبقى من عمره مقابل النزراليسير منها..

تلقى الأمر بهدوء لم يتوقعه، تعجب كيف أنه لم يدرك قبل الآن أنه قد أهدر عاماً كاملاً في محاولة استعادة ابتسامة عابثة لا معنى لها، وما الذي كان ينتظره من قطع ذلك الطريق يومياً بدأب وثبات لم يقطعه الا فترات أزماته القلبية المتكررة، وكيف كان يذرع ذلك الإسفلت البارد لأشهر وهو يتصور أنه يمكن أن يكون الشخص الذي يسكن قلبها ويشغل بالها،

تغير إحساسه فجأة،وهبت إليه في وقفته رائحة اليأس، لمعت عيناه بالدموع واشتعلت الثورة في صدره، سار مبتعداً وهوشبه مذهول، محني الرأس.. وقد تجلت أمامه أخيراً كل الإجابات التي حاول أن يحمي خياله منها، كل شيء قد انهار وانتهى، بل أنه لم يكن هناك من شيء أصلاً.. لكنه لم يستطع أن يطرد صورتها من رأسه، ولا مقاومة رغبته في أن يراها، أدار رأسه مجدداً ليلتقي بعينيها وهي تقف على عتبة دارها، وليذبح مجدداً بنظرات التقزز التي ارتسمت على وجهها من منظره الغريب، والخرق الفاقع الذي كان يبدو عليه، والذي فاقمه ارتباكه وخطل محاولته تلبس الهدوء وإخفاء انجذابه و إعجابه بها، وحرصه أن لا يظهر لهفته وانشدادهُ إليها،وانسحاقه أمام الضغط الذي كان يرزح تحته في مشقة الهروب من ابتسامتها التي غابت تماماً عن وجهها..

للحظةٍ أحس بألم ورعشة شديدة انتابت يده، حاول مسح العرق الذي أخذ يتصبب منه ولكن يده لم تطاوعه.. ولا قدميه.. شعر بخيال لم يألفه من قبل،وطنين وخفقات أجنحة وحركات غريبة، تراجع مهزوماً محاولاً التشبث بأي شيء.. لم يعد قادراً على تحمل كل هذه الاضطرابات .. وكان آخر ما مر على خاطره وهو يلامس الأرض ..هو أن الإسفلت لم يكن بارداً كما كان يتوقع..

***

أنوار حسين الدليمي

بـحـرُكِ الـذي عَـبَـرتُـهُ قُـبـلـةً قـبـلـة:

أحـبُّـهُ عـنـد الـجـزر ..

يـكـشـفُ لـي

جَـواهِـرَهُ ولآلـئـَهُ ومُـرجـانـه

وزغـبَ أعـشـاب " كـلـكـامـش "

فـتُـغـريـنـي رطـوبـةُ سـاحـلِـهِ الـضـوئـيِّ

بـارتـشـافِ نـدى رمـالِـهِ الـنـاعـمـة

نـعـومـةَ مـرايـا جـيـدِك

*

أنا لـسـتُ " سـيـزيـف "..(*)

وأنـتِ لـسـتِ  "الإلـه زيـوس" ..

فـلـمـاذا كـلـمـا أتـسـلَّـقُ سـفـوحَ سـاقـيـكِ

نـحـو قـمَّـةِ رأسِـك

تُـعـشِـي عـيـنـيَّ مـنـارتـا هـضـابِ صـدرِكِ

ومـلاسـةُ مـرايـا سـهـوبِ الـخـصـر

فـأتـدحـرجُ فـي مُـنـتـصـفِ الـطـريـقِ

صـخـرةَ  شَـبَـقٍ وحـشـيٍّ

بـيـن وسـادةِ رجـولـتـي ومـلاءةِ أنـوثـتـك

مُـشـتـعـلاً بـمـائـي

ومُـنـطـفـئـًا بـنـيـرانـك

فـأسـقـطُ مَـغـشـيَّـًا عـلـيـكِ

مـن أثـر الإنـتـشـاء!

*

أحـتـاجُ عُـمْـرَ "نـوح"

لأُكـمِـلَ قـضـمَ فـاكـهـةِ أشـجـارِ فـردوسِـك ..

فـردوسِـكِ الـمـمـتـدِّ مـن قِـمَّـةِ بَـدرِ وجـهـكِ

حـتـى أخـمـصِ واديـكِ الـعـمـيـق!

...

....

......

آهِ ..

لـو أنَّ لـي ألـفَ  فـمٍ

لأحـصـي مـسـامـات جـسـدِك بـالـقـبـلات

*

آه ..

لـو أنـكِ كـأسُ مـاء

فـأشـربـه وأسـتـريـح !

*

مـنـذ  أورثـنـي " أنـكـيـدو " غـابـةَ الأرز

وأنـا أقـضـي أيـامـي  بـيـن صـبـاحِ وجـهــكِ

ولـيـلِ جـدائـلِـك  ..

أقـودُ:

قـطـيـعَ قُـبـلاتـي نـحـو مـرعـى شـفـتـيـكِ ..

ومـحـراثـي نـحـو تـنّـورك  ..

ورمـادَ احـتـراقـي نـحـو مِـكـحـلـتِـك

ولا ثـمـة مـا يـقـودنـي إلـيَّ !

*

أنـتِ لـسـتِ " رومـا " ..

فـلـمـاذا كـلُّ طُـرُقـي

تُـؤدّي إلـيـك؟

*

ثـغـري الـصـغـيـر:

كـيـف اتـسـعَ لـكـلِّ هـذا الـعـطـش؟

*

وشـفـتـاكِ:

كـيـف اتـسـعـتـا لـكـلِّ زهـور الـقـرنـفـل والـرمّـانِ

فـي

حـدائـقِ وبـسـاتـيـن الـدنـيـا؟

*

أنـتِ أورَثَـتْـكِ " لـيـلـى " حِـكـمَـتَـهـا  ..

وأنـا أورَثـنـي " قـيـسٌ " جـنـونـه  ..

فـمـا الـذي سـأورِثُـهُ للأحـفـادِ

غـيـر نـهـرٍ بـلا مـاء

وبـسـتـانٍ  شــاسـعٍ  بـدونِ شـجـر؟

*

أنـتِ لـم تُـعـيـدي الـشـيـخَ الـى صِـبـاه ..

إنـمـا

أعَـدتِـهِ الـى طـفـولـتِـهِ ..

لـذا

كـلـمـا تَـوسَّـدتِ فَـيءَ خـيـمـتِـهِ

مَـصَّ زهـرةَ الـلـوزِ فـي روضـةِ واديـكِ الـعـمـيـق

مُـمَـسِّـدًا بـشـفـتـيـهِ أجـمـلَ يـاقـوتـتـيـنِ

فـي كـنـز صـدرك

*

إذا لـم أكـنْ مـجـنـونَـك

فـكـيـف أُثـبِـتُ لـلـعـالـمِ أنـنـي عـاقـلٌ

وأن هـذيـانـي حـكـيـم ؟

*

لِـقـلـبـي عـقـلٌ يُـفـكِّـر

ولـعـقـلـي قـلـبٌ يـعـشـق

*

بـتـلـتُـكِ ـ وحـدهـا ـ كـافـيـةٌ لـتـطـريـز صـحـاراي

بـالـعـشـبِ والـغـدران  ..

*

أنـتِ ـ ولـيـستِ الأمـطـارُ والأنـهـارُ والـيـنـابـيـع ـ

مـا جـعـلَ كـهـفـي حـديـقـة ضـوئـيـة الأزهـار

ورمـادَ احـتـراقـي كُـحـلاً لـلـعـصـافـيـر

*

إنَّ قـطـرةَ  نـدىً واحـدةً

أغـلـى وأعـزُّ عـنـد الـفـراشـةِ الـظـمـآى

مـن كـلَّ بـحـار الـدنـيـا ..

الان فـهـمـتُ مـعـنـى قـولِ الأولّـيـن :

" الـقـنـاعـةُ كـنـزٌ لا يـفـنـى "

فـأنـا اكـتـفـيـتُ مـن كـلّ نـسـاءِ الـدنـيـا

بـامـرأة واحـدة

وبـسـريـركِ وحـده

مـن بـيـن كـلِّ "الـسُّـرُر الـمُـتــقـابـلـة"**

***

يحيى السماوي

السماوة 14/2/2024

............................

(*) الإله زيوس: كبير الآلهة في الأساطير الإغريقية، الذي غضب على "سيزيف" فعاقبه بأن يحمل صخرة ثقيلة من أسفل الجبل الى قمته ، فإذا وصل قريبا من القمة ، يُسقِطها الإله من على ظهره فيعود سيزيف الى حملها من جديد .. وتتكرر المحاولة مرة بعد أخرى  أبد العمر .

(**) السرر المتقابلة: إشارة الى قول الله تعالى في سورة "الصافات": (ونزعنا ما في صدورهم من غلٍّ إخوانا على سرر متقابلين لا يمسّهم فيها نَصَب وما هم منها بِمُخرجين)

لجسر من الحلم يوما أتيت

أبوح له والبوح يلغي الرقاد

وكل الذي أحببته واشتهيت

وأني به عارف

كذلك يعرف كيف انتهيت

إليه

وأني سأعبره  عنوة

مرغما

وقلبي على الجرف

ودعته واهتديت

ملاذي هناك

ودربي هناك

وكل المنافذ بين يديك

فهبني أتيتك حالما

وحيدا غربيا

ومسحت أركان كل بيت

لعل من المسك آخذ نفحة

تضوع فتحيي الذي قد كان ميت

أسألهم  والطريق الطويل

يحدثنا عن بقايا الرياح

بقايا الصفات الملاح

بقايا الجذوع

بقايا الربوع التي

تود لو أنني بينها

أصافح جدرانها

وأعبر في الليل نحو الصباح

بأحزانها

وأحصد بعض الذي قد جنيت

نهيت كثيرا

عن غيها

ولكنني ما انتهيت

وكيف تراني أعيش

بغير نسيم العراق

أعب ويسعدني أنني ما ارتويت!!!

***

د. عبد الهادي الشاوي

 

جلس عند زاوية هادئة من المكان، كان الجو باردا بعض الشئ، راح يحتسي كوب قهوته، أشاح بوجهه قليلا نحو شابة كانت تتصفح جهاز الحاسوب الذي أمامها، كتب في دفتر مذكراته بعض العبارات، ثم أغلق صفحاته التي ابتلت ببعض قطرات من القهوة التي انسكبت فوقها، ذهب بتفكيره، يقلب الماضي، انداحت أمام بصيرته صورة بداية دراسته في الجامعة ولقائه الأول مع زميلاته، في حينها وقف الاستاذ بطلعته البهية، ليتحدث عن نظرية القيمة، وكيف أن هذا المفهوم يدخل في معنى الانسان، حقيقته المادية، معنى وجوده في هذا الكون، صار يتأمل مرة أخرى وهو يتذكر كيف أن للزمن قيمة، مثلما أن لفعل الانسان قيمة أكبر، وضع نفسه أمام معادلة يحدها الزمن من جانب، والفعل من جانب وتلكما المسار الذي يحدد قيمة وجوده في هذا العالم، اكتفى بذلك وقرر أن يذهب إلى المكتبة التي كانت بجوار الكافيتريا ليشتري كتابا يبحث عن ذات الموضوع، بينما تزاحمت صور عديدة في ذهنه تدعوه لأن يعود إلى مكانه الأول طالبا في الجامعة التي ابتدأ بها حياته الدراسية، ولذلك انداحت بصيرته أمام تلك الشابة التي بقيت أمام شاشة جهاز الحاسوب تكتب شيئًا ما.

***

عقيل العبود - ساندييغو

2/14/2023

 

حُزْن ٌمِنْ صُرَّة الهَابُوتَايْ

شَكْلَةُ مفَاتِيحِي ليْسَتْ منْ نضارٍ

عِيَّارُهَا تَحْتَ الصِّفْرِ..

لكنْ في لمْلَمَتِها مِزْلاَجٌ منْ تِبْنٍ لمَدْخَلِ الَهاوِيَّةِ والتِّي قَدْ أدْخُلهَا لانِّي أحدَ أعْمِدةِ الضَيَّاعِ َ

وقدْ أتَجنّبُهَا لأنِّي لا أقْبَلُ دَوْرِي بَوَاباً لهَا..

ولا حتَّى بواباً لأحد..

فالأبوابُ حِينَ تُفتحُ لِغَيْرِنَا وَجَبَ عَلينا هَزْم رِتَاجِهَا...

طَمْس تَارِيخِها

وَلِمَا لاَ بثْرَ الأصَابِعَ التِّي صَنَعَتْهَا

حتَّى لا أجنّ وأقولُ :

إحْرَاق الغَابَة التِّي بِهَا نَشَأت..

شَكْلَةُ مَفَاتيحِي مِنْ فَخَارٍ

وعِيارُهَا فَوْقَ الصِّفْرِ...

حِينَ تَتَعَطَّرُ بالتِّبْنِ كَذلكَ يَخْلُدُ الاوْلِيَاء لِنَوْمٍ عَمِيقٍ..

وتَتبَخْتَرُ بِالميَّالِ الفَرَاشَات المذْبُوحَة

عَلَى إيقَاعِ الطُّبُولِ

Bass drum

وغالباً ما أجْرُؤُ كَعَازِفِ أمَانْ علَى

عَقْدِ صُلْحٍ بَيْنَ الشَكْلَتينِ..

أحْياناً ولسوءِ تقْدِيرٍ مِنِّي

أجدُنِي مُضْطَرٌ لِمفْتَاحِ الرَّبطِ،

لأنَّ الأصْل

فِي جَيْبِ الشَّيْطَان

ويَدِي قَصيرةٌ جِداً..

بتُّ أَرْعَاهُ كَمَا أرْعَى دَمْعَةَ العَيْنِ

وهَالَتِي السَّوْدَاء..

مِنْ كَفْكَفَةِ الأيَادِي الجَامِدَةِ لِلْمَوتَى..

منْ تُلْمَةٍ مُتْرَبَة فِي عُنُقِ الجَبَلِ..

مِنْ رَعْدَةِ رِيحٍ أزِيبِيَّة تَحْمِلُ سُحْقَ الحَجَرِ..

من غدْرَةِ عائنٍ لا يَرْحَمِ

لِتحُدَّ منْ تَدفُّقِ السَّرابِ أمامَ العُيُّونِ الزَّائِغَةِ فِي الوَرَائِيِّاتِ..

أتَجَرَّدُ حتَّى مِنْ عَرَائِي

أتَخَلَّى عَنْ بهائِي..

أهُدُّ الدِّنانَ الخشَبيَّة التِّي تَحْوِي عَرَقي..

أرَتِّقُ بعُرُوقِي ثَغْرَةَ الزَّمَنِ التَّليدِ..

أتَقَوَّلُ حَكْياً يَقُودُنِي لِمَخَافرِ

دَرَكِ القيَّامةِ..

وأرَقِّعُ فَرْطَقةَ الأفُقِ بِرُقْعَةِ الُّلوڤِيسْ

لِضَبْطِ حَرَارَةِ الوَقْتِ..

أجْلَدُ حتَّى المِئة بِسَوطٍ الِمعْزَاءِ

ولا أبُوحُ باليدِ التِّي تَصْفعُنِي..

أخْتَفِي عنْ حَاضِرِي في قَبْوِ الأزْمِنَةِ الغَابِرَةِ وأخرُجُ شَبَحاً ضاجّاً..

كلُ هَذا سِيَّانٌ

مَادَامَ

بَابُ العَالَمِ السُفْلِي تَحْرُسُهُ كِلاَبٌ البُولْدوغْ..والجُثثُ مَجْرُورَة لِمجَازرِ الأيْتَامِ..

آه....

كمْ أنتَ عُدْوَانِيٌّ سَيِّدِي عَوْنَ النَّظَافَةِ

بِأزِقَّةِ المتَاهَةِ

ودُرُوبِ الحِرْمَانِ

والقَادِمِ مِنْ أرَقِ الشُعُوبِ

تَجُرُّ للْحَاوِيةِ الأسْوَدَ والأبْيَضَ

وَتَشْكُو وَسْخَةَ الأصَابِعِ وبُقَعِ الجَبِينِ

عُدْ لِلصَّوابِ

ثُبْ..ثُبْ..ثُبْ..

عُدْ للصَّوَابِ...

مَاخُورِ الأشْقِيَاءِ تَتَوسَّطُهُ حَدْبَةٌ خَشَبِيَّةٍ مِنْ نُتُوءِ البَوَارِ..

ولسْتُ منْ حَطَّ لهُ حَجَرَ الأسَاس...

ولاَ أنا المِقَصُّ الذِّي قَصَّ شَرِيطَ التَّدْشِينِ..

في الأَصْلِ

تُرْعَشُ الأبدانُ قَبْلَ خَوْضِ الظّلامِ

ترْثِيبِ مكْرِيَاتِ المُحِيطِ

لكنْ، شَطَّاحةُ المآسِي تَقُودُكَ بِعَيْنٍ بَلَاسْتيكِيَّة لِحجْمِ الخَسَارةِ..

قِنِينَةُ شَامبَانْيَا

وَمَزِيداً مِنَ المُسْتَهْلَكَاتِ...

إكْراميَّات بلاَ حِسَابٍ..

ولا تَسْأَلُونِي عَنْ صُبْحٍ قَادِمٍ..

الاحْتِمَالاتُ كلُّهَا وَارِدَة

منْ هَرْبَةِ العَاهِرَةِ بِالبِطَاقَةِ البنْكِيَّةِ

إلى آخِرِ سَطْرٍ فِي مَحْظَرِ الشُّرْطَةِ...

لَسْتُ مُجْبَراً علَى حَرْقِ مُسْوَدَّتِي باللَّفْعِ الأزْرَقِ لأَزُفَّ للْقَمَرِ شُيُوعَ الإغْتِصَابِ..

الوَجْهُ عُملةٌ صدَأتْ فَفرَّ مِنْها مَاءُ الحيَاءِ..

لا تُوقِفُنِي الحَسْرَةُ

بلْ تَتَقَاطَرُ مِنْ جُيُوبِي حُرُوف عَرَبِيَّة تَحْتَرِقُ   ِبالأمْسِ تَهَلْهَلتْ أوْتَارُ قِيثَارتِي َ

تدَلَّتْ بُؤْبُؤَةُ عَيْنِي في الترَابِ

تَرَعَّدَتْ مُؤَخِرَتِي

ومِنْ تَحْتِي الارْضُ

رَاهَنَتْ علَيَّ الخَلِيلةُ بالمزْهُوِ المُعْتَادِ

وعَليَّ أمِّي بالمَصْعُوقِ بِلُهْبَةِ أهْلِ الحَالِ..!

وانا أراهِنُ علَىَ نَفْسْي

بصنِّيعِ التِّيهِ والضَّلاَلَةِ..

وياتُرَى الرَّبُ لَهُ مُجْمَلَ الرِوَايَة لِفَناءِ صَرْحِ الإخْتِلافِ  َ

لسْتُ جُوكِيرَ المُفَاجَأةِ ولا لُغْزَ المُطَابَقَة

بَيْنَ إنْسَانيَّتي وإنْسَانيَّةِ الخَلْقِ..

ويَارِيتْ نُبُوءَة الأنبياءِ تَصْدُقُنِي لَهْفتِي

لِتَتْوِيجِي أكْبَرَ المَجَانِين

مَا كُنتُ مَشَّاءاً بيْنَ الضُحَى ودُجَى اللَّيْلِ،

أحْمِلُ دلْوَ ماءٍ ِللْجُدْعَانِ،

الهَاويَّةُ مِنِّي فِي البَدْءِ والخَتْمِ...

مهدَ التَّكْوِينِ ولَحْدَ التَّهوِينِ..

لهَا شِبْه نافِذَة مُطلَّة علَى المَوْتِ..

لهَا وَادِي يَجْرِي بالدِمَاءِ..

لها أعْشَاشٌ تَنْمُو بِدَاخِلهَا الخُرافَة

لهَا قَبْرٌ جَمَاعِي ِللفَرَاشَاتِ البَلِيدِةِ..

لها صَخْرَة مَكْشُوفَة للرِّيحِ يحرُسُها سَادِنٌ مَجْنُون..

أنا أخْفَيتُ بِدَاخِلِهَا دِيوَانَ قَصَائِدِي..

بُندُقِيتِي..تَارِيخَ مِيلادِي..أسْمَالِي الحَرِيرِيَّةِ... سَاعَاتِي روليكس..  فيستينا.. وكل أمتعتي.. أمَامَ ممْشَى الجَبَّابرةِ للصَّلاَةِ..

تَكْثرُ قَوَافِلُ النَّملِ..

تَكْثُرُ الدَّعَوَات الوَاقِيَّة منْ سَقَمَاتِ الوجهِ..  وظُهرّانِ العَبِيدِ تَتمرَّسُ الإنْحِنَاء بِلاَ كَللٍ.. كَسَنواتِ الهُزَالِ

الجُرْو يَنْبحُ خَارِجَ الدارِ

وصَاحِبهُ مِنْ وَراءِهِ بالعَصَا

خُرْدَة مِنَ الألْوَانِ

حَيَّاحَة فوقَ الرُؤوسِ..

الأبواقُ مهتَزَّة بالقَوْلِ الغَلُوطِ  َ

طابُورُ اليَمِينِ عُمْيٌّ

وطابورُ اليسَارِ عَمْيَاءُ..

والأكُفُ للضَّرَاعةِ..

المُسَرْبَلُونَ بالجِلْدِ

والمُبَرْطَلُونَ بالذهَبِ والمُجَوهَرَاتِ..  والمِظليُّونَ..

والخيَّالة وأصْحَابَ اليَمِينِ..

والمسنتَرُون أسْفَلَ الجبَلِ وأعْلَاه..

وأشْبَاهُ الرِّجالِ..

وجَوَاسِيسُ العَهْدِ الجَدِيدِ..

زَغْرِدِي يَا أمَّ البَنَاتِ وَسَطَ الحَرِيمِ..

مِبْخَرَتُكِ بالعُودِ الشرِيفِ

في كوَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ

النَّوَاقِيسُ ألمعُ مِنْ عَيْنِ الشَّمْسِ

الحَظُّ يَقْتَرِبُ..

.  كُلَّمَا دَنَوْتُ منْ هَاوِيتِي

أفْتَقِدُ عُلْيَائِي وتَمرُّدِي

تُشَاطِرُنِي أطْيَافِي لَحْنَ الهَجِيرِ..

المَسَافةُ ضَوْئيَّة تَطْوِي الذِّكْرَياتِ

تَذَّكَرِي جَيِّدًا سَيِّدَتِي امُّ البناتْ

منْ صُرَّة الهابُوتَاي (الحرير)   َ

تسْقُطُ دَمْعَة

يَسْقُطُ حُزْنٌ....

***

عبد اللطيف رعري - مونتبولي

12/02/2024

استفاق ظهر ذلك اليوم وقد انتابه شعور بالاضطراب وانقباض الروح. كان يحلم على الدوام أحلاماً مزعجة، وفي الكثير من المرات خلال الأيام العشرين التي قضاها مع عائلته في بغداد، فكر بهذا الأمر ورغب دائماً بأن يعاف قيلولة الظهيرة لما تسببه من كرب بعد أن يجد نفسه متعباً تعساً إثر أحلام لا بل كوابيس تتكرر وتجرح النفس وتثقلها بالهموم. كان يعجبه أن يتحدث عنها لزوجته أو لابنه الكبير، ولكنه في النهاية  يجد نفسه ممسكا عن هذا الأمر. ونادراً ما ينجح في لملمة شتات تلك الكوابيس ليتذكر تفاصيلها بعد النهوض.

لم يبذل في ذلك اليوم جهداً يعينه للملمة ما دار في ذلك الحلم المقلق، وكان الصداع  يطرق رأسه بحدة. كان شيئاً مثل حبل ثخين مضفور يلتفّ حول رقبته، وراح يضغط بشدة. شعر بالاختناق وكانت الأشياء من حوله قد بدأت تختفي ملامحها وتضمحل. قاوم الحبل بكل ما أوتي من إرادة، ثم وجد نفسه يصرخ ملء حنجرته بصوت مكتوم. هذا وليس غيره كل ما ورد في باله عن كابوس الظهيرة الذي نهض منه بعد أن ذاق سكرات الموت. عند تلك الساعة عقد العزم على العودة إلى مدينته دون إبطاء. استمع وهو ساهم لحديث ابنه حول استعادة الحكومة السيطرة على مدينة الناصرية وعودة الأوضاع إلى طبيعتها السابقة. شاهد مقدار الارتياح الذي ظهر على وجه زوجته.

كان يشعر بأنه يفكر لوحده، ويحاور نفسه، حين عرض عليهم رغبته العودة إلى مدينتهم بالرغم من جمل الإطراء والتضامن التي قدموها له. أخرج جملته بتثاقل وكأنه يلوكها تحت أسنانه.

ـ قد تكون النتائج غير سارّة، وقد نواجه قرارات صعبة أخرى، وربما نجد هناك من يتربّص بنا سوءاً، ولكن المهم أن لا نفقد السيطرة على أعصابنا ولا نتصرف بما يثير الحنق والبغضاء.

وبدوره، فإن الابن لم يحر جواباً وبدا وكأنه استعد لذلك منذ وقت ليس بالقصير قائلاً:

ـ ولكن الحكومة استردّت مواقعها وانتهى الأمر واستتبّ الوضع في جميع أنحاء المحافظة.

أنعشه هذا القول، فنظر نحو ابنه نظرة ثناء واستحسان، واتجه نحو الكرسي الوثير القريب من النافذة وهوى بجسده المتعب فوقه، كما لو أنه كان قد قام بعمل بدني مجهد، ثم راح يفكر ملياً بأمر العودة. ففي حالات الريبة من هذا النوع، فإن الإنسان لا يبخس ذكاءه ليذهب مباشرة إلى الاحتمال الأفضل، وإنما عليه البحث في جميع الاحتمالات، السيئة منها والحسنة. شعر بعض الشيء بالاسترخاء فشرع يدندن بصوت خافت بأغنية خطرت له تلك اللحظة.

لم تكن العشرون يوماً التي قضوها في بغداد مبعثاً لراحته، فلم تبد له معالم العاصمة بذات أهمية،  رغم ما انتابها من تجديد. ووجدها على غير ما عرف عنها في زياراته السابقة. وجولاته في أحيائها كانت في الغالب مبعثاً  لذعر وكدر، وكم تمنى، لولا مرافقة عائلته له، أن يلزم الغرفة المركونة في الطابق العلوي من الفندق، ليقضي بقية أيامه دون أن يواجه عيون الناس. تلك العيون الجاحظة الخائفة الحاملة لأسئلة حائرة ومحّيرة تجوب بها شوارع كئيبة مسكونة بالفزع والرهبة.

لاذت الزوجة بالصمت، ومثلها فعل الباقون، في حين راح هو يعبث بجهاز المذياع دون أن يوقفه عند محطة إذاعة بعينها، وكانت عجلات السيارة تلهب الأرض، مولية الأدبار خارجة من بغداد باتجاه الجنوب. لم يستغرق اتخاذ القرار بالرحيل غير القليل من الوقت، ولم يخطر في باله ما سوف ينتابه من خوف، أو ما يواجهه من مصاعب عند عودته إلى مدينته. علت وجه زوجته ابتسامة حزينة خائفة وهو يطالعها في مرآة السيارة الأمامية، حيث لاذت بالصمت في المقعد الخلفي. كان الحزن بادياً على ملامحها وكأنه والذعر قد لازماها طيلة حياتها. كان صوت محرك السيارة وعجلاتها يخرق الصمت المطبق الذي لفّ الجميع، وهذا ما كان يجعله يضغط على عتلة الوقود بقوة. الهواء العليل الرطب يبث رذاذاً خفيفاً يوحي بالنعاس، ولكنه بقي يحملق في البعيد بعيون جاحظة.

لم يشاهد مثلما المرات السابقة حزام الضوء الذي يحيط مدينته حين كان يعود إليها أوقات المساء. فحين اقترب منها ذلك اليوم كانت وكأنها استسلمت كلياً لغول الظلمة الثقيل، فشعر بالشفقة المشوبة بالاشمئزاز والخوف.

***

لقد أمضى الشطر الأكبر من حياته في كدّ وتعب من أجل الظهور بمظهر محترم يليق بمقام عائلة ميسورة، وكان ذلك مفتاحاً لحياة سهلة رغيدة يجدها اليوم مع تفتت الزمن تتسرب نحو هاوية المجهول مثلما المرة السابقة.

اليوم  تـُعاد التجربة مرة أخرى. فكر بذلك وهو يطالع من خلال النافذة لون المساء المغبرّ الذي تبرق فيه، بين الحين والآخر، ومضات من ضوء كان يعرف مصدرها. فقد خبرها سابقاً في العام الواحد والتسعين،واليوم مثلما السابق ثمة وحشة تتجول في الجوار وتملأ روائح الرعب أزقة الناصرية جميعها.

كان النعاس يداعب جفونه، ولكن لم تكن له رغبة بالنوم، شعر بأن رأسه  فارغ كلياً من أية أفكار تحيط بما يحدث، لا شيء أمامه غير هلام ممكن أن يصير أي شيء أو كل شيء. يعدّهم الآن جميعاً واحداً واحداً، أبناء مدينته التي احتضرت واستفاقت ألف ألف مرة، رعباً وجوعاً وقهراً وإذلالاً.

ساءت الأمور  وأخذت بالتدهور منذ أول أمس. لا يقين يوقف ما يحدث، لأن الرجال الذين يحيطون المدينة الآن ليسوا هم رجال شوارتسكوف عام واحد وتسعين. أولئك الذين تقدموا ثم كبلتهم قياداتهم بأوامر، وحددت لهم خطوطاً حمراً، ليتركوا بعدها الناس في هياج وربكة، وليأتهم الموت مع دبابات وصواريخ وطائرات صدام.

لقد جاء الآن آخرون دون خطوط  منع أو مصدات. جاؤوا لإنهاء خصومة وبتر عضوٍ فاسدٍ علق طويلاً بأجسادهم. لا يخفون إعلان نواياهم، بل يصرحون بها على رؤوس الأشهاد. يختارون نقطة الانطلاق مثلما يبحثون عن ركائز عميقة في الأرض. وقائع تصورها محطات الإذاعة والتلفزيون. مشاهد تبعث الرعب في الأوصال . جنود ودبابات ومصفحات تجتاز الترع والقفار والبساتين، وكأنها أسراب جراد تلتهم الزرع.  يقضمون الأرض بسرفات عجلاتهم قطعة إثر قطعة دون عدوّ يواجهونه، سيل جارف تنبئ عنه غمامة تراب تتخم الأفق وتحجب الشمس.

***

فرات المحسن

 

مدي يديك

وعانقي صمتا يدي

لا تعجلي

اني جعلتك يا ملاكي قِبلتي

فتمهلي

وتمهلي

فالوقتُ مُلكُ يَمينَنا

الوقتُ وردٌ قد يُساقِطُ وَردَهُ

قبلًا شَقيّات الفَمِ

لتذوبَ فوقَ شِفاهِنا

فلَعَلّنا

نَنسى الزّحامَ لعلنا

ونَضيعُ صَمتًا وحدَنا

بِزِحامِنا

***

طارق الحلفي

 

للحبِّ ذكرى

وللذكرى عيدْ

يُحْييها في كل عامٍ

بأَحْمَرِ قَانْ:

حَدَقَاتُ الإضاءةْ

طَقْمُ الستائرْ ...

نخْب السعادة ِ...

وَهْجُ الأحاسيسِ...

عَزْفُ الزمانْ

*

والقمران الأنيقان

والقُبَلُ البِيْضِ

تَغْشَى الأناقةَ

والمَنْدَل الرَّطْب...

والشمْعَدانْ !

*

والزمنُ المَار بالحُسْن ِ

يُعْرِبُ عن (فرحة العُمْرِ) شدواً:

ســـــــــــــــــــــــلامْ

هنيئاً لكم ...

يانقاء القلوب ِ

غرام المقام ِ

دوام الوِئامْ

وكل (فلانْتَيْن ِ)..أنتم بخير ٍ

وحَيَّ على احْتِفاءٍ عظيم ٍ

فريد المكانْ!

*

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

 

يحق لمن أراد أن يصيح كالديك

أن يعتلي كنبة عائمة

أو ينعق كالحمار المربوط الى عمود الانارة

أن يستعمل مكبرات الصوت

ليستمع رجع صداه

*

يحق لمن أراد أن يتعقب طريدة انثوية

أن يمتطي عكازا كهربئيا

ويجوب السواحل القطبية

بطائرته الورقية

*

يحق لمن أراد أن يحرس بيت الراهبات

وفي جيبه مفاتيح مدلسة

أن يخلع حزام العفة

ويقيم  معهن علاقة حب

عبر الانترنت

*

يحق لمن أراد أن يكتب شعرا

أن يعصر خمرته في بيت الخلاء

ويشرب نخبه من كأس الشيطان

لكي تغلي برأسه المشتعلة

*

يحق لمن أراد أن يتزوج خارج العشيرة

أن يجلب الماء من بئرعميقة

وأن يدلو بدلوه

قبل أن يندلق الماء

فيرث شرف القبيلة

*

يحق لمن أراد أن يخون نفسه

أن يستحضر الأرواح المنسوخة

في ليلة مقمرة

ثم يضاجعها

على سرير الموت

*

وهل يحق لرعاة البقر

ان يحكموا العالم بأسره

وهل يحق لأبله أشرس

أن يصول و يجول ويعربد

في قارات الدنيا الخمس

بلا جواز سفر؟

ما أبلدك أيها الزمن المخادع

*

لكن يحق لنبي مجهول

أن يرجم أتباعه

وأن يضرم النار في أعشاش الطيور

ثم يتشاجر مع جيرانه على سكب اللبن

حتما لن يرضى عنه  الشعراء

فقد تعلكه الخراف

وتلوكه الذئاب..

***

بن يونس ماجن

تغيب الشمس فجأة.. بدون اي انذار. تبدأ الاجواء بالاكفهرار. نجد انفسنا، امي.. ابي وانا صغيرهما، مجتمعين على ترقب وخوف . نحن لا نعرف ماذا تحمل لنا اللحظة القريبة المقبلة، لكننا نشعر بالخطر الداهم الزاحف، كأنما هو امامنا ومعنا، يحيط بنا من كل ناحية وجانب. المجهول يتساءل في اعيننا عما تخفيه اللحظة المخيمة مثل شبح مميت.

تخرج امي عن صمتها: "اشعر اننا على مفترق درب".

ابي يقول: "بالتكاتف نواجه الفراق"..

ترسل امي نحوي نظرة اقرأ فيها تاريخ الهزائم البشرية المتتابعة. اذا مرت هذه اللحظة.. سنكون الاسعد في العالم. الآن ابتدأت اعي نعيم الوجود.

التصق اكثر بثوب امي وسروال أبي..

اشعر بقطرات الماء تحاول انتزاعي منهما. تتزايد قطرات الماء.. نلتصق اكثر. نصير كتلة واحدة. السيول لن تفرقنا. تبدأ الامطار بالتدفق، شلالات تتدفق من السماء الغاضبة فوقنا تغمر أرضنا.. وجه الارض حولنا يختفي.. كأنما هو لم يكن.. نتشبث بالأرض اكثر. تهتف الوالدة. يضغط والدي على كتفي ضغطة ذات معنى، اشعر به لكنني لا افهمه. هل هو الوداع؟

تشرع المياه في جرفنا معها.. نتباعد.. نتقارب.. ارى ابتسامة تعلو وجه امي.. اراها تتشبث بلوح خشبي.. تحاول الاقتراب مني. تبعدها السيول. ابي يحاول الالتحاق باللوح، دون ان يتمكن.. تشردنا المياه.

السيول تعبث بنا تفرقنا لتجمعنا. وتفعل العكس. ما أقساها من سيول. اشعر بيدين من حنان تحتضناني. انهما يدا امي. انظر في عينيها. ارى فيهما تصميما جبارا. لن تفرقنا السيول. سنبقى معا.

يتمكن ابي، اخيرا، من الالتحاق بنا. يتشبث بشيخوخته الواهنة.. بطرف لوح الخلاص. تشبث ابي يشعرنا انه لا مكان لأكثر من شخص واحد على اللوح... وان احتضان امي هو الذي وسع المساحة.. وجعل منا كتلة بشرية واحدة.. اتكور في حضن امي. اعود جنينا كما كنت قبل ستة او سبعة اعوام. ينتفخ بطنها مجددا. ها هي تبدو حاملا بي للمرة الثانية، بعد ولادتها لي قبل كل هذه السنوات.

يتغضن وجه ابي. اول مرة اراه خائفا الى هذا الحد. مع هذا اقرأ في وجهه ملمح امل وارى شعاعا من ضوء يطل منه.. ما زال لدينا رجاء.. "تشبثا باللوح".. تقول لنا عيناه..

المياه تتحول الى بحيرة.. اشعر بنوع من الطمأنينة. لا يخرجني منها الا ذعر اراه في عيني والدتي. ارسل نظرة الى مصدر خوفها. ارى والدي متعبا منهكا. يكاد لا يقوى على مواصلة التشبث بلوحنا المُخلّص. ارى امي وهي تفسح المجال لوالدي ان يأخذ مكانها على اللوح الخشبي، تناولني له، يحتضنني أبي بحنو.. اشعر انه قد يكون الاخير. ما أقسى هذا.

من موضعي في حضن ابي، ارى امي تتشبث بطرف اللوح. عينُها لا تغيب عني. يشتد الصخب المائي حولنا، اشعر ان يديّ ابي وهنتا.

"اياك ان تتركه"، تصرخ والدتي بوالدي.

"يداي مرهقتان". يقول ابي بتراخ.

ترسل امي نظرة اسية الى وجه ابي. نظرة اقرأ فيها ما لا يمكن لأنسان آخر سواي ان يقرأه. اشعر ان لحظة الفراق تقترب.

يرسل ابي نظرة متعبة الى البعيد. يقول:

"لا استطيع المواصلة"، يهتف بأمي، ويتابع" ابننا هو الامل الباقي..".

تصل الرسالة الاقسى في العالم الى امي. تعيدني الى حضنها، وتعود الى موقعها على اللوح الخشبي، فيما ارى ابي يعود الى تشبثه بطرف اللوح.

يمضي بنا لوحنا المُخلّص شاقا سحب الليل والمجهول. يطفو الظلام على وجه الماء. بعد ساعات يعمُّ هدوءٌ مريب. ابي لم يعد يتحرك في الماء. نسمعُ آهةً عميقة. بعدها تتوقف آهاته. تحتضنني امي. بقوة حنانها تهتف بي:

" لا تخف".

يزداد خوفي. ارسل نظرة الى امي.. لا اراها.. العتمة تحول بيننا.. اشعر بالدفء الغامر في حضنها. هل تشعر هي بمثل ما اشعر به الان؟

اسمع طيورا غريبة تحمل لي حفيف الحياة.. يتحرك الدم حارا في عروق امي. اشعر به كأنما هو يسري في عروقي. تأخذ الحياة بالدبيب في جسدي الصغير. اشعر باقتراب الفرج والخلاص. ينقشع الظلام رويدا رويدا. ها انذا اعود لرؤية عيني امي.. التعب يطل منهما.

"لا تخف يا ولدي" تقول لي. اشعر بيديها تتراخيان.. ما أقسى هذا..

تضعني على اللوح الخشبي..

"تشبث به بقوة"، تهتف بي..

"ستبقين معي؟"، اهتف بها من اعماق رغبتي والمي.

لا ترد.

"اين انت يا امي؟". تملأ صرختي الصامتة المكان.

اتشبث باللوح.. كما اوصتني.. واتابع نحو الخلاص.

***

قصة: ناجي ظاهر

كملاَيينِ النسَاء ملَلْت

ومِلْت نحو الطَّوافْ

بِأكُفّ تعانقُ الدُّجى

وأنتَ تمْلأ الظَّلامَ السَّحيقَ

بصَراخَاتِك المَعْدنيَّة

*

مَللْت وتوقَّفتُ عن الحَنينِ

وأَوقَدتُ من مِصباحِ التَّنورِ

هزائِمي العَربيَّة

*

أسْكبُ صُورِي خَمرا وتِبغا

وأَنا مثْقلةٌ من رأسِي

حتى أخْمصِ قدَمَي

بوصَايَاك العسْكريَّة

*

أَيا رجلاً يرتدِي قرونِي

المثْقلَة بالشَّقاء

ويطْوِي عصُورِي الرمَاديَّة

جَليدا ليُقدمهَا حُجُباً

حِين  يؤدِّي الأَدْوارَ الدّرامِية

*

لمْ تعُد وصايَاكَ تثِير دهْشَتي

لمْ أعُدْ أَتَلعثَم

حينَ أُحصِي وِشَايَاتِك الأُسْطورِيَّة

لم أَكُن يوما تلْك الصَّبيَّة

مذْ مزقَتْ فرُوضَها المدْرسِية

*

مِن هُتَافات الرِّيح

أَقمْتُ على شرفِك مائِدةً جنائِزيّة

وآرتَديتُ أنغَاما قُمْريَّة

وفِي مدخَل المَغارَة

شدَوتُ للربِيع وشَتمْت روحَك

الهَوائِية

*

اعذرْني ...لقَد ألغَيتُ منذُ

الفتُوحاتِ الأندلسِيَّة

طقُوسكَ الأَنانيَّة

*

منذُ قرنَين وأَنتَ تتْلو

وراءَ القضْبانِ مزامِيرَ شيْطانِية

أمَا تعبْت ...

منْ نفْث عاصِفةِ تبغِك الجَليدِية؟!

*

تعبتُ ومَللتُ ...

أحْرقْت مرَافِئي

ومعَها صُورِي التذْكاريَّة

وسنَداتِ تملِيكٍ عاطِفيَّة

وأسدَلْتُ سِتارَ المسْرحِيَّة

لأَرفضَ وصَاياك العسْكريّة

وأُعلنَ الآن...

اِقفَالَ بُنودِ القضِيَّة.

***

لطيفة أثر رحمة الله

المغرب

 

لم أشعر إلا وأنا أتزحلق، قوة ما باغتتني ودفعتني إلى الخارج، خارج المكان الذي شكل عالما لا مثيل له من السكينة والهدوء. صحيح أنني لم أكن موجودا هناك بشكل ما، ولم أكن واعيا بالمكان الذي تزحلقت منه . ما أعرفه هو أن ما حدث كان مفاجئا وغير منتظر: دون سابق إنذار دون إخبار أو اتفاق وجدتني بين أحضان عالم آخر غريب. تم الإمساك بي  وتم سحبي بشكل من الأشكال كي أرغم على أن ترك عالم السكينة ورائي وأخرج لأصطدم بعالم مجهول وسيظل مجهولا باستمرار. لم أكن أستطيع الكلام ولا معرفة لي به، فلم أكن قادرا على التعبير عن سخطي أو عدم قبولي بما يحدث لي. الشيء الوحيد الذي وجدتني أقوم به هو الصراخ، كيف ذلك؟ لست أدري. لا أحد استطاع أن يفهم معنى صراخي، بل لم يحاولوا فهمي. كانوا يريدون فقط إسكاتي بطريقة ما لأن صراخي كان يسبب لهم إزعاجا هم في غنى عنه. كانوا يحاولون تهدئتي كي أتوقف عن الصراخ. وصار صراخي المتواصل وسيلتي الوحيدة للاحتجاج. بدؤوا يبحثون عن شتى الطرق لإلهائي، كنت أستجيب بين الفينة والأخرى، لكن كان مفعول ذلك ظرفي إذ يفقد موضوع الإلهاء بريقه فأنتفض ضدهم، لأعود إلى الصراخ مرات ومرات، فدخلوا وأدخلوني معهم في دائرة متكررة ومملة وبلا أية معنى من الاستبدالات اللامتناهية والفارغة، ولو صرفوا كل هذا الجهد وكل هذا الوقت في فهمي لتوقفت هذه اللعبة السمجة ولانتهى تاريخ طويل وعريض من الانتفاضات والقلاقل والزلازل.. ولعرفت كيف أستوعب تزحلقي غير المفهوم.

و منذ ذلك التاريخ وأنا أتزحلق من حدث إلى آخر، من واقعة إلى أخرى، من كارثة إلى أخرى. لم يكن التزحلق سوى وسيلة للتكيف مع العالم الجديد الغريب، لأن المكان الأصل الذي منه تزحلقت لأول مرة سيظل عالقا في الذاكرة والأحاسيس، وسأحاول على مر سيرتي الذاتية أبحث عن تعويض ببناء أمكنة أخرى استبدالية أتوهم أن بداخلها السكينة والهدوء لكن الاستبدال يبوء بالفشل الذريع والمقيت. وأثناء مسار من التشتت والشتات، ومسار من الخيبات كنت أستريح بين الفينة والأخرى لسكينة متوهمة لكنها عارضة ومؤقتة لأنني منذ البدء فقدت الثقة في استمرار أية وضعية أو حالة، فأصبح التزحلق هو الدائم أما غير ذلك فهو وهم وخيالات لا يعول عليها.

***

د. عزيز القاديلي

 

لا تَتَمَهَّلْ في خُطاكَ

فالحب جميلُ

وبادر من قال:

إِنَّهُ لَغَبٌ وَوُجومُ؟؟

هو روضۃ غَنّاءُ

كيف تُراه يتأتّى ذلك؟؟

وقد  تَغَنَّتْ بجمالها العنادلُ

و تغنّى ٱلْحَمامُ ..

لا تَخَفْ إِنْ جَرَّكَ

نَسيمُها ٱلعليلُ

نحو الهوی

فكله أمن و سلامُ

وَٱصْدَحْ بِشَدوِكَ

وكُلُّكَ أَمَلُ

عسی الذي بقلبك

يصحو يوماً وَيَتَكَلَّمُ

وَٱسْتَمْتِعْ بِعِشْقِكَ

من قال: إنه قاتل؟

وَمَنْ ٱدَّعى ٱلقَوْلَ

حقّا : هو المجرمُ

لا تَتَأَلّمْ من جرحِ ٱلهوى

فالجرح قليل

فكم من فارس

بعد الْوَغى

أضحى و هو  كَليمُ !!

وَٱصْبِرْ على هجر الحبيب

فاٱلصبر جميلُ

فكم من ليلی

جَمَحَتْ قَيْسَها

فأضحی وَهُوَ فَطيمُ!!

كن الطبيب لقلبك

وٱصْطَبِرْ فما ٱلْعِلَلُ

إِلاّ بَلاءٌ

فَكذلِكَ هو ٱلهُيامُ ..

***

إلهام العويفي

 

ما ضرك أن يكون

مؤمنا ملحدا

عاقلا أو ذا جنون

ما ضرّك أن يكون

أبيض، أسودَ اللون

أو مِن غير عيون

ما ضرّك أن يكون

عربيا أعجميا

أو كائنا من يكون

أتراك خَلَوْت من العيوب

و هجرتك الشجون

أم تُرى لك رأسا

وللناس قَرون

ألا تَرَى أنّ لك شأنك

وللناس شؤون

وأنك على هيئة

والخلق فنون

فما ضركّ أن يكون

غيرك على خلافك

أو..  حتى لا يكون.

***

عبد الوهاب البراهمي

 

بين انتظارٍ وانتظارٍ

يشهقُ الوقتُ

ويبتهجُ لنا الأمسُ

ببعضِ الذكرياتِ

وحاضرنا كسيحٌ

تلسعهُ عقاربُ الوقتِ

وتبقى خطاهُ ثابتةٌ

يخافُ المستقبلَ

يرقبهُ بعينينِ غائرتينِ

في حفرةٍ عميقةٍ

تغتسلُ بالوهمِ

بينَ حاضرنا وماضينا

لحظةَ تمنّي

بمستقبلٍ سعيدٍ

تتكاثرُ لحظاتُ التمنّي

وتتطايرُ

من حولنا كفراشاتِ الضّوءِ

ترمي نفسها على المصباحِ

لتحترقَ

فبينَ انتظارٍ وانتظارٍ

الكثيرُ من الانبهارِ

والاحتراق …

***

سلام البهية السماوي

 

أعود من موتي وأضرم النار في قش الحياة، أرشُّ الأرض وردًا، وأقول للموت تأخّر فإنّ في القلب متّسعٌ للحب.أعزف في ركني معانقًا كماني بوداعة، كأنّه يصغي إلى الكلمات التي أردت قولها ولم أستطع. أنا المتفرج الباقي مع الكراسي وستائر المسرح وخشبته الخالية.أنا في النهار طبيبُ أسنانٍ عادي يؤدّي واجباته الروتينية دون أن يشتكي، كأيّ خروفٍ في القطيع، ولكنّني هنا في هذه المقامة أستجمع شجاعتي وأنفجر من البوح.

صاحب المقامات يخاف من الحب ومن سيرة الحب ويظنّ أنّه أعرف بالحب من أهله..يدّعي زورًا بأنّه بارعٌ في استقراء العلامات ورصد الومضة في عين من يحب، وإنّه يعرف ذلك من الكتب والأفلام والأغاني .. يختبئ في مقاماته ويخاف أن يقول (أحبّكِ) في الواقع، يرتجف هلعًا ويرتبك ويحمرّ عندما يحبّ.يسحب أوراق التاروت باستمرار، ويهمل الواقع وإشاراته، ويعود فجأة في هذه المقامة ليغنّي مع أم كلثوم ويقول:

ياما الحب نده على قلبي ما ردش قلبي جواب

ياما الشوق حاول يحايلني واقول له روح يا عذاب

٢

"الشوقُ يسكن باللقاء، والاشتياقُ يهيج بالالتقاء. ما عرف الاشتياق إلا العشَّاق. للنار التهاب وَمَلَكَة، فلابدّ من الحركة.والحركة قلق، فمن سكن ما عشق. كيف يصحُّ السكون؟وهل في العشق كُمون؟ هو كلُّه ظهور ومقامُه نشور"

محيي الدين بن عربي -الفتوحات المكية

٣

كلّه بأوانه يا رزق. والحب رزق ووعده في السماء. نعوذ بالله من هوى لا يستلذّ مع مرارته، ولا يستطاع لشدّته، ومن زفرات الحُب، ومن فقدان اللُب. فمن ابتُلي به فقد دهُي بعظيم، وكُرب بسقيم.وأنا يا رزق مبهوتٌ باليسير، ومضطربٌ من طعناته، ولا أراني إذا جرّبته إلا ضعيف العقل، مرتجف الجسد، مشتت الأفكار. وأنا والله غريبٌ عن أرضه ودياره، بعيدٌ عن دروبه وأسواره، وجاهلٌ رغم بصيرتي ومعرفتي بأهله عن ألغازه وأسراره.وأسراره قيدٌ يا رغدة.من عرفها كان فيها مكبّلًا كالأسير. طول عمري بخاف من الحب وسيرة الحُب وظلم الحب لكل اصحابه. هذا ما قالته الست بعدما تغنّت بسيرته لسنوات.والهوى ضيف الكرماء، وحلية الأدباء، وخدن الظرفاء. وكثيرٌ من العشّاق قد ابتلوا بالتهيام، والسقوط والغشيان، وخلع الأعذار، وفوران الدم، ومجادلة العذّال .ومنهم من كتم سرّه وستره، ومنهم من لم يعرف له شيء ولم يكن له ذكر، الإ من افتضح وعُرِف.والعقل في صون الود على أن ينصرف القلب عن التدبير.فالعقلُ أحسنُ ما خُلِق، وخير ما العبد رُزِق.وما يجمعه الله لا يفرّقه إنسانٌ يا مسرّة .العقل والقلب إمامان قاما أو قعدا.متآلفان. ولا يفرّقهما غير الحب وشيطانه. ولستُ بحال من أنحله الحب، وعبث به الوجد، واستحكم به الحزن، وتعبّد به الهوى، وخالطه الأسى إلى ما ترون .ولست من العاشقين الذين ممّن ذابوا وما تابوا.فأنا مثل الست لا أقوى على الشوق ولا عذاب القلب. ولست يا رند من المتأسّفين أو على الأقل هذا ما أحاول أن أبيّنه. وسيّدتي أشد عليّ فلا هي ترحمني ولا ترثي لضعفي وتدهور حالي.

(مصدّعة مكلومةً رضّها الهوى

ترى السقم في أعصابها يتحطّمُ

إذا ما نسيم الريح هبّ تعلّقت

وحلّ بها صعبٌ فليس تكلّمُ)

قصص الحب لا يرويها العشّاق يا ميس.فالعاشق مشغولٌ بمعشوقه عن الناس والقصّة .فات من عمري سنين وسنين. شفت كثير وقليل عاشقين اللي بيشكي حاله لحاله، واللي بيبكي على مواله. والذي يتشاغل بالروي بكلماتٍ جافّة أملًا بالنسيان. والذي يرتجف شوقًا مرتديًا معطفًا من حنين، والمستعين بنجمة تختلس الضوء من شمس نائمة، المرتعد من صوتٍ فيه أناشيدُ العائدين من القتال، وصاحب المقامات التائه، الذي يحن لضلعٍ معوَجٍّ من الوحدة ويتلمّس خاصرةً مطعونة بالنسيان. يتأمّل عقارب وقتٍ معطّلة بالتكلّس، ويردم ثقوب الأصدقاء، والهوّة السحيقة المظلمة في روحه. صوفيٌ وحيد يدور حول نفسه ويتلاشى فيها، يغيب فلا يرى أحدًا ولا أحدٌ يراه. وحده يناجي نجمه والوجوه دخان.يعبث بكتب التراث وينبّش في سير العشّاق ويروي بوقاحة أخبارهم في مقاماته وينشد:

(تعبّدني الهوى فبقيت صبًّا

وخامرني فذاب القلب حُبّا

وأضناني الهوى فشربت كأسًا

يقطّعني الأسى بثًّا وكربا

رميت من الهوى بسهام حتفٍ

فما أبقت لنا وهمًا ولُبّا

فما لي غير جفنٍ ذي انسكابٍ

يفيض الدمع في الخدّين سَكبا

بِعَيني طَفلَةٌ هيفاءُ وردُ

تشير جفونها في القاب حربا

إذا نظرت بأحشاءٍ مراضٍ

يدبّ الموتُ في الأحشاء دبّا).

٤

الحرمانُ من المحبوب يحرّق القلب، والمنعُ عن المعشوق يعوّق الأنفاس بالاحتباس.. وأما في الهُيام، فإن القرب والبعد واحد ! ومن هنا قال القتيل الهائم صاحب "الصيهور في نقد الدهور" الحسين بن منصور:

يا مُنية المتمنّي،

أدنيتني منك حتى،

ظننتُ أنك أنّي

فقه الهيام-يوسف زيدان

٥

ألا أيّها الركبُ النيامُ ألا هبّوا

نسائلكم هل يقتل الرجلُ الحبُّ

بل تقتله ألسنة العذّال وهمسات النمّامين وثورات الغضب الزائفة يا قيس. لا يأخذنّك قلبك بعيدًا يا أمين، الله خلق الأرواح وطبع الأنفس.إذ أنّ الحُب إذا اعترض أهله، دهاهم على غير اختيار، بل بجبر واضطرار، والمرء يلام على ما يستطيع من الأمور، لا في المقضي عليه والمقدور. وقد خلق الله الإنسانَ ضعيفًا.ولو كان لذي هوى اختيار، لاختار أن لا يهوى، ولكن لا اختيار له .وقيل أن وقوع العشق بأهله ليس باختيارهم ولا بحرصهم عليه، ولا لذة لأكثرهم فيه، ولكنّ وقوعه كنزول العلل المدنفة، والأمراض المتلفة. وإن العشق من تحميل ما لا يطاق**أي التحميل القدري لا الشرعي. أنظر رعاك الله إلى المتلهّفة أنفاسهم، المتأسّفة حركاتهم، سكونهم ضعف. وعظامهم جريش.وطعامهم أليم وشرابهم وصب. وهل يخفى عليك البَيت واليأس والشجى والهجر. وقيل أنّ أشدهم حبًا أعظمهم أجرًا. وأرواح العشّاق يا صاحبي عطرة لطيفة، وأبدانهم ضعيفة، وكلامهم يطرب الأرواح، ويجلب الأفراح، وتدور أخبارهم وتروى أشعارهم ولا يبقى لهم غير العشق ذكرٌ يخلدّهم .ولولاه لما ذكر لهم اسم.ولا جرى لهم رسم. ولا رفع لهم رأس ولا ذكر مع الناس. ولم يسلم منه أحدٌ غير الجلف الجافي الذي ليس له فضل ولا عنده فهم وقيل في ذلك:

(إِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْشَقْ وَلَمْ تَدْرِ مَا الْهَوَى

 فقم فاعتلف تبنًا فأنت حمارُ)

ولا يخلو أحدٌ من صبوة، إلا منقوص البنية أو جافي الخلقة على خلاف تركيب الاعتدال. (وَقِيلَ لِبَعْضِ الْعُشَّاقِ: مَا كُنْتَ تَصْنَعُ لَوْ ظَفِرْتَ بِمَنْ تَهْوَى؟ فَقَالَ: كُنْتُ أُمَتِّعُ طَرْفِي بِوَجْهِهِ، وَأُرَوِّحُ قَلْبِي بِذِكْرِهِ وَحَدِيثِهِ، وَأَسْتُرُ مِنْهُ مَا لَا يُحِبُّ كَشْفَهُ، وَلَا أَصِيرُ بِقَبِيحِ الْفِعْلِ إِلَى مَا يَنْقُضُ عَهْدَهُ).

 وأنت أيها الجاهل الغارق في مقاماته، والمنشغل في ذكر بطلاته المتخيّلات، ومصادره العلمية، ورسالته السامية في الحياة في بعث فن لا يقرؤه أحد، وإحياء علومٍ اندثرت وعلوم لم توجد بعد. ألم تفهم قول الست وأنت تكتب هذه المقامة عن القلب وتنهيده عند الوصال والفراق؟ وهل عرفت الدنيا وحلاوتها يومًا؟هل غنّيت بطرب ولقيتني بحب واذوب في الحب مسحورًا بشموع الشوق؟ الْعِشْقُ يا صاحب المقامات لِلْأَرْوَاحِ بِمَنْزِلَةِ الْغِذَاءِ لِلْأَبْدَانِ، إِنْ تَرَكْتَهُ ضَرَّكَ، وَإِنْ أَكْثَرْتَ مِنْهُ قَتَلَكَ، ونحن على معرفتنا بك نعرفُ سلفًا أنّك شهيدٌ قتيل وإن أنكرت. ونعرف أنّ ملاك الهوى قد قبض روحك وألّفها. وإنّك على حالك هذا تحاول الفكاك من قيدٍ محكم وموت محتم.

(بنفسي فتى سهل الخلائقِ طيبٌ

يمازحُ دهراً عابساً لا يُمازح

ويُكثِر قول الشّعر في الحربِ لا الهوى

لأن الهوى لو قِيسَ بالحرب جارح

ففي كلّ حربٍ ثَمَّ حقٌ وباطلٌ

وفي الحبِّ لا هذا ولا ذاكَ واضحُ

فإن قال لا أهوى فليس بصادقٍ

وإن قال أهوى أخجلتهُ المذابحُ)

٦

كل حبّ لا يتعلق بنفسه وهو المسمى حبّ الحبّ لا يُعوَّل عليه: فالأصل حبّ الحبّ، وحبُّ بلا حبٍّ للحب ينفي عن صاحبه ذوقَ الحبّ والشرب من بحره، فمن شرب شراب الحب أحبَّ الحب، وطلب المزيد منه، وذلك هو التعلق بالمحبوب المرتبط بالضرورة بالتعلق بالحب وحب الحب لذاته.

محيي الدين بن عربي -رسالة ما لا يعوّل عليه

٧

الحب أقسام يا شيماء:هوىً وصبابة، شغفٌ وكلف عشق ونجوى ثمّ هيام.لست بصدد شرحها فأنا كما يزعمون لا أنطق بالحكمة إلّا متنورًا بالوهم.وقعت على سيرة أهله وشاهدتهم يسقطون صرعى واحدًا تلو الآخر.كانوا آتين لتوّهم من جلسة CBT* أسّستها عيادة السماء، وأشرف عليها الملائكة.ليأس العشّاق يا أطياف رأسٌ تائه يتدحرج في الشوارع. فضائهم زفيرٌ شمسي.والشهداء منهم يفحصون جثثهم المتناثرة على ضفاف من أمل.

وأنا خذني الحب لقيتني بحب، لقيتني بحب وأذوب في الحب، وأذوب في الحب وصبح وليل، وليل على بابه.. لا ضوء كمثل الضوء الذي شعّ من وجه أمّك عندما سمعت سيرة الحب، وأدركت صوت الست (التي لم تعرفه )وأطربت عليه. في قلبي مجرّات حبٍ تدور، وفي رأسي تدور سيرة أهله المساكين. اتّكئ على الزمان وأجوب الأكوان عاشقًا. قلبي يخفق بسيرتهم جميعًا، فيه أكفّ لأدعية الأمّهات، وغبار على وجوه التائهين والغرباء والعطاشى والمتعبين.

((كنتُ ينبوعًا في ما مضى

أغنية في قلب عاشقة

أمنية في صلاة طفلة

نسيمًا في كمنجة

وردةً على سور،

موعد حبيبين تحت المطر

…ثمّ بدأتِ الحرب).

٨

قال العجوز المشلول الذي فقد زوجته وحبّه الوحيد إنّ رأسه مغروسٌ في الأرض.وإنّ تربة العراق الخصبة ستنبت له رؤوسًا أخرى.وإنّ جسمه المشلول محبوسٌ في زنزانة .وإنّه يجهل السجّان.كان أبو غايب مقطوعًا من شجرة، ولم يورق له في حياته أيّ غصن.زار كواكبَ شبه منطفئة، وتزلّج سلالمَ غير مرئية، وسمع أنغامًا تتصاعد من آلاتٍ تتقلّب في أحضان الأثير. تعكّز على أشعّة تلبس الظلال، ورأى مجازر العصر ومذابحه والمقابر التي تحفر في السماء. تتبّع ضوءًا يخيط للفضاء معطفًا كأنّه الليل، وكنّس طرقًا مملوءة بأقدام لم تعد قادرة على السير .تعثّر بقرابين، ومقابر، وأجسام مطحونة، ورؤوس مقطّعة، وأنبياء مغدورين. عقد مآتمًا للغبار، وأعراسًا للغيم، باحثًا عن ماءٍ جديد يروي جذوره.قلت لوسناء إنّ سيرة أهل الحب أنهكتني. وإنّني سأضطر لحذف المقامة. حتّى دخلت امرأة وهي تدفع عجوزًا مشلولًا يعاني من أعراض ذهانية بعد أن فقد زوجته .كان أبو غايب صامتًا. لكنّ ملامحه المنطفئة روت قصّته بدلًا عنه .وقالت أنّ أهل الحُب صحيح مساكين.

***

أمين صباح كُبّة

كاتب من العراق صدر له مقامات إيلاف عن دار الرافدين ٢٠٢١

...........................

* العلاج المعرفي السلوكي (CBT)

** إشارة إلى قوله تعالى (ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به)

 

ولمّـــا احتوانــا الطريــقُ الطويــــل ُ

وغابَ المطــارُ مـــــع َ الطــــائــره ْ

*

غفـــتْ فوق َ صدري كطفـل ٍ وضمّتْ

يـــــديَّ كعصفـــورة ٍ حائــــــــــره ْ

*

أحبّـــــك َ ــ قالــــــت ْ ــ وأنفاسُـــــها

تطــوّق ُ أنفاســـــي َ النافــــــــــــره ْ

*

لأجلك َ أعشــق ُ نخْـل َ العـــــــراق ِ

وأعشــــــق ُ أهــــــــواره ُ الساحره ْ

*

وأعشـــق ُ مصْر َ لأنّــــك َ فيـــــها

تمجّـــــد ُ آثـــارهـــــا النـــــــــادره ْ

*

صمــتُّ وحــرْت ُ بماذا أجيــــــب ُ

تذكّــــرْت ُ أيّامــــــــي َ الجائــــره ْ

*

تمنيّت ُ أنّـــي نســـــــيت ُ الوجـــود َ

ونفســــي وعشــت ُ بلا ذاكـــــــــره ْ

*

فقلْــت ُ وإنّــي أحبّـــــــك ِ جـــــــدا ً

بكُثْـــــــــر ِ نجـــــوم ِ السما الزاهره ْ

*

مكـــــانك ِ في القلْب ِ يا حلوتــــــي

وليس َ ببغـــــــداد َ والقاهـــــــــــره ْ

*

وخيّــم َ حزْن ٌ علــــــى وجههـــــا

بلوْن ِ غيــــــــوم ِ السمــــا الماطره ْ

*

وقالت حبيبي إذا غبت ُ يـــــــوما ً

فلا تحْسـَــــبنْ  أنّـنــــــــي غــادره ْ

*

ولا تحـــزننْ سوف َ آتـــــي إليك َ

وتشعــــر ُ بي اننــــــــي حاضــره ْ

*

سيحملنـي الفـــــلُّ  والياسميــن ُ

إليــــك َ بأنفاســـــــه ِ العاطــــــره ْ

*

وســـالت ْ علــى خدّهـــا دمعة ٌ

فضقْـــــت ُ بأفكـــــــاري َ الحائـره ْ

*

نظـرت ُ إليها أريــد ُ الجـواب َ

فردّت ببسمـتهــــا الســــــاخــــره ْ

*

قصــــدْت ُ المزاح َ فلا تقلقَـنْ

خيــــــالات ُ عابثــــة ٍ شاعــــــره ْ

*

أجبت ُ هو َ البحـر منتظــــــر ٌ

يريـــــــد ُ لقاءك ِ يا ساحـــــــــره ْ

*

هنالك ّ في المـــوج ِ نرمــي الهموم َ

وأوهـــام َ أزمنـــــــة ٍ  غابـــــــره ْ

*

نخـــطُّ علـــى الرمْل ِ أسماءنـــــا

كطفليْــــن ِ في دهْشـــــة ٍ غامـره ْ

*

ونرشــف ُ في الليل ِ كأسَ الهوى

تســـامرُنــــا نجمــــــة ٌ ساهــره ْ

*

ويوقظنا البحر ُ عنْـــد َ الصباح

فنصغـــــي لأمـــــواجه ِ الهادره ْ

*

ومـــرّتْ على البحْـــر ِ أيّــامنا

ســـراعا ً وعادت بنـــــا الطائره ْ

*

فقـــدْ كان َ هــــذا اللقاء الأخير

فقــدْ رحلـــــتْ جنّتـي الناضــــرهْ

*

وليس سوى الجرْح يحيـــــا معي

كوقْـع ِ  السكاكين ِ فــي الخاصره ْ

***

جميل حسين الساعدي

.......................

*  بعد عودتنا من مصر، اختفت الحبيبة فجأة، وبعد أسبوعين أو ثلاثة أخبرتني صديقتها أنها ذهبت الى بلادها سويسرا، لتموت هناك فقد كانت تعاني من مرض عضال، أخفته عني طيلة الوقت، خوفا من وقع الصدمة عليّ، فقد كانت تعرف مدى حبي لها. لكن كتمان أمرمرضها لم يغيّر من الأمرِ شيئا، فقد كانت صدمتي كبيرة حين علمت بسبب اختفائها. هذه القصيدة تصور آخر لقاء لنا في مصر. 

الى روح صادق هدايت*

عندما أَصبحَ هواءُ العالمِ

فاسداً وخانقاً وقبيحاً

قرّرَ  (صادق هدايت)

الساردُ الفارسيُّ الامهرُ

والمُحلّقُ طائراً في فضاءِ الحكاياتِ

والرواياتِ والمهازلِ الأرضية

قلتُ: كانَ الصادقُ قدْ قرَّرَ:

أَن يستحمَ بجرّةِ غازٍ وطني

حتى يشتعلَ جسدُهُ المقهورُ

كطائرِ فينيقٍ عنيدٍ

دائماً ينهضُ من رمادِهِ

ويستحيلُ شعلةً وهّاجَةً

تُضيءُ ظلامَ الشرقِ الكئيب

وبلادَ فارسٍ المُحترقة

من هولِ الفتنِ والمآربِ

والذرائعِ والفجائعِ

والحروبِ المريرةِ

التي جعلتِ الناسَ

يكرهونَ أَنفسَهم وبلدانَهم

وكلَّ شيءٍ فيها

لمْ يروا من جوهرهِ الغامضِ

أيَّةَ نافذةٍ للأمل

أَو باباً للخلاصِ

أَو كوّةً لتنفسٍ هواءٍ

ليسَ فاسداً ولا خانقاً

ولا قاتلاً مثلَ هواءِ البلادِ

وجرارِ غازاتِها غيرِ الصالحة

للاستحمامِ والتنفّسِ

والموتِ العميقْ

وأَعْني: الموتَ السعيد

الذي اختارَهُ "صادقُ هدايت"

بمحضِ رغبتِهِ الباسلةِ

وإرادتِهِ الحديديةِ

للتحرّرِ والتحليقِ من بلادٍ

لا رغبةُ فيها ولا أيّ مزاجٍ

لإنسانٍ مثل "هدايت"

و" فروخ فرخ زاد"**

الشاعرةُ السينمائية المغدورة

و لا " كَوكَوش"*** الجميلة

و"قاسملو"**** الشاعرُ العنيد

وغيرهم الكثيرون جداً

نعم ، ليس لأَيٍّ من هؤلاءِ

الطاقةُ  والقدرة

على العيشِ في تلكَ البلادِ

التي ينبغي أَنْ تُسَمّى

بلادَ النارِ

وبلادَ الموتِ:

حرقاً

وشنقاً

وخنقاً

وبلادَ الغيابِ الاختياري

سواءً بالغازِ الوطني

او بأحزمةِ الضحكِ الإنتحاري

آآآآآهٍ …

يا الصادق بن هدايتْ

لقدْ جارتِ الدنيا عليكَ

وأَطبقتْ علينا بفخاخِها

ومخالبِها ورحاها

ثمَّ عاثتْ بمصائرِنا

وعلى رؤوسِنا الجريحةِ

غارتْ ثمَّ داسَتْ

آآآآآآآآآآآآآهٍ منكَ وعليكَ

أَيُّها الصادقُ في كلِّ شيء

حتى في طريقةِ موتِكَ

وأَعْني: إنتحارَكَ،

بجرَّةِ غازٍ سامَّةٍ

كانتْ كافيةً للخلاصِ

من هذهِ الحياةِ القاسيةْ

***

سعد جاسم – كندا

في 2023

***

.......................

 * صادق هدايت: قاص وروائي فارسي أَنهى حياته إنتحاراً .

*فروخ فرخزاد وكَوكَوش وقاسملو: شعراء وفنانون فرس .

 

كــيفَ  الأَمــاجِدُ أصــبحوا أنــعاما

وإلــى الأعــادي أصــبحوا خُــدَّاما

*

إن الــكُماةَ عــلى الــثّغورِ رباطُهمْ

لا  يــمــسحونَ الــخُفَّ و الأقــداما

*

وإذا الــجــيوشُ تــحوَّلتْ لــعصابةٍ

ضــمَّتْ لــصوصاً ســذَّجاً ولــئاما

*

كــلُّ الــجحاجحِ غُــيِّبوا واسْتُبْعِدوا

والــتــافهونَ تــصــدَّروا الإعــلاما

*

والــلصُّ أصــبحَ فــي البلادِ مقدَّراً

والــنّــذلُ  أصــبحَ فــارساً مــقداما

*

وعــلى ابــن جــلدتِهمْ تفجَّرَ حقدُهمْ

صَــبّوا  مــن الــحقدِ الكريهِ الجاما

*

ونَــسَــوا لــتــاريخٍ عــظــيمٍ تــالــدٍ

فــجرُ  الــحضارةِ مــن هنا قد قاما

*

جعلوا الحدائقَ كالكواكبِ في السّما

قــد نــافسوا مَــنْ شــيَّدوا الأهراما

*

والأبــجــديّةُ أوجــدوهــا لــلــورى

والــنــاسُ  تــأخذُ مــنهمُ الأحــكاما

*

عــادوا  لــعصرِ الــتّيهِ بــعدَ هدايةٍ

فــنسوا الإلــهَ وقــدَّسوا الأصــناما

*

تــبــاً  لــقــومٍ هــجَّــروا أعــلامَهمْ

كــي يــرفعوا الــجُهَّال والأقــزاما

*

فــانعِ الــرجالَ إذا خَــلَوا من عزّةٍ

يــالــيتهمْ  لـــو يــصبحونَ عــقاما

*

وانـــعِ  الــنساءَ ولاتــكنْ مُــتَعَطِّفاً

مــا لــم يــلدْنَ مُــحَجَّلاً ضِــرغاما

*

كــنتمْ  أمــاجدَ مــن ســلالةِ مــاجدٍ

فــعــلامَ تــرجــونَ الــزَّنِيمَ عــلاما

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

 

جاءت ذات يومٍ

من غير موعد

ولا استئذان

حضرت مثل غيمةٍ

تحملُ حملاً كاذباً

بالمطر

مثل سنبلةٍ خاويةٍ

تتعالى بكُلِّ صَلفٍ

في فضاءاتِ المدى

مثل ورودٍ بلاستيكيةٍ

في أصيصٍ

في فندقٍ فارهٍ

مضت كما جاءت

لا ماءَ منه يُرتَوى

ولا زرعٌ في الحقلِ

يُحصدُ

غادرت كما أتت

فلا وهجُها دفأني

ولا نسائمُها أنعشت

وحيداً أجترُ حكايا جَدتي

وأعيد رسوم كل الأحداث

في مسلسل أحلامي

ثم أعتنقُ الصمتَ

في انتظار قدوم

شهرزاد

***

جورج مسعود عازار ستوكهولم السويد

 

يأتي الصباحُ الباكرُ مُحمّلا بأشياء كثيرة؛ فإلى جانب روائحه العطرة ونسيمه البارد الرقيق، توجد المفاجأةُ والدهشةُ. يرن الهاتف صاخبا، وأنا غارقٌ في نومي الطويل؛ أسعى إلى نفض التعب الذي تكدس فوق جسدي أياما طويلة، وأروم حملَ الثقلِ الذي يجثم على روحي الخفيفة، ومع رنينه تنبلج المخاوف والوساوس في خلدي، وتذهب بي الظنونُ أشواطا بعيدةً في عالم الحلم والخيال، عالم المشاعر المقدسة التي تؤثث روحي، وتزرع الرهبةَ في قلبي الفسيح. تتساءل عيناي الجاحظتان عن السر الخفي وراء هذا الاتصال، فأحمل هاتفي بيديّ المرتعشتين كأنهما اقترفتا جرما كبيرا، فأضغط على الزر بخفة، لأسمع صوتا مضطربا مسرعا:

- ولدي! الدائم الله تعالى.

تنقطع الكلمات، ولا تصلني إلا أصواتٌ مشوشةٌ، فأبادرُ بالسؤال، وفي القلب لوعةٌ تتقد، وفي العين دمعةٌ ساخنةٌ متلألئةٌ تنزلق من بين الجفنين:

- لم أسمع جيدا، من المتوفى؟

- خويا، عمك أحمد توفي هذا الصباح.

انقبضت نفسي واسودت الرؤية في عيني الدامعتين، حاولت أن أداري حزني الذي ملأ نفسي حزنا وألما، فقلت كلماتٍ تعودناها في مثل هذه المناسبات:

- إنا لله وإنا إليه راجعون، الدوام لله، والرحمة والمغفرة للعم.

انقطع خط الاتصال بعدما ترددت كلمة "آمين.. آمين" مرات متتالية، فأخذت نفسي تسرح في الطريق البعيد، وروحي تحلق على بساط الريح نحو المجهول، إلى حيث حلقت روح عمي، إلى الذكريات البعيدة التي ظلت محفورة في الوجدان، ووشما على الذاكرة المثقوبة. تذكرت أيام كنت صغيرا، تذكرت القرية والحقول الخضراء، والخضر والنخيل والأشجار التي زرعتها يدا عمي، وسقتها روحه حبا وشغفا.. أيقنت أني فقدت عزيزا يحب الأرض كثيرا، ويعشق رائحة التراب الندي، ويؤثر قضاء أغلب يومه متنقلا بين الحقول والمروج المقمحة المخضرة؛ يزرع الأرض، ويزيل الأعشاب الضارة في الصباح الباكر، وما إن تحل الساعة العاشرة صباحا حتى تكون خضر وجبة الغداء موجودة في الدار، يحضرها عمي الذي زرعها وسقاها.

مرت كل هذه الذكريات مسرعة مشوهة على ذاكرتي، وحاولت القبض على نتف متفرقة منها، بيد أن محاولاتي كلها باءت بالفشل. لكن في القلب حدثا أغر لم ولن ينسى أو يمحى من الذاكرة؛ إنه حدث اختيار اسمي.

أخبرني الأهل بعدما تجاوز سني العاشرة أن عمي هو من اقترح أن يطلقوا علي اسم "محمد". قالوا إن هذا الاسم مصدره حلم راود العم في ظهيرة يوم حار، كان نائما تحت نخلة وارفة، فحلم أن العائلة سترزق بمولود اسمه محمد، وسيكون خلفا لجده الذي توفي منذ ثلاثة أيام.

سمعت هذه القصة مرات كثيرة، فازداد حبي لعمي، وأيقنت أن اسمي سيظل ذكرى وآية على هذا الحب الصغير في قلبي، والذي أخذ ينمو يوما بعد يوم. ذهب من سماني محمدا، وذهب معه حب الأرض وثراها، والخضرة والبهجة التي كانت تملأ الحقول والمروج في أيامه المشهودة.

سيظل مكانك، أيها الرجل الشامخ، جرحا غائرا في قلبي، ولا أظن أن الأيام الآتية قادرة على تضيده، وعلى ملء فراغك بغيرك من الأناسي. كنت كبير العائلة بعد موت الجد والجدة، والوشيجة القوية التي تشد أواصرها، والمنبع الذي يسدي النصيحة، ويروي بطيبة قلبه قلوبنا العطشى حبا وتلاحما، والطود الذي يشد العائلة لئلا تميد، ويحضن نفوسنا كي لا تمور وتضطرب، ويطفئ نار الصراع التي تشب بيننا.. إنك السند المتين الذي نتكئ عليه، ونضع عليه رؤوسنا كلما أثقلها التفكير والحيرة.

إلى روحك الطاهرة الزكية الرحمة والمغفرة عمي الحبيب، وإلى قلوبنا المكلومة الصبر والسلوان، وإنا على الدرب لسائرون.

***

محمد الودراشي

 

وقائع حياته،عمله، مكاسبه، عائلته، الناس المحيطون به، سهراته، أفراحه وأتراحه، كلها ارتبطت بوثاق قوي مكين. شبكة من خيوط محكمة الحبك، لم يشأ أن يدعها تضمحل أو تتمزق وتذهب هباءً. لقد عززها برباط متين حاكه مع الآخرين بعناية ودقـّة ، رجال السلطة والحزب، نساء ورجال هامشيّين وذوي دالـّة من أهل المدينة. كان يعرف جيداً التنوع الغريب لعلاقاته تلك، ولكن روابطه مع رجال السلطة والحزب كان لها طابعٌ خاصٌ. وكان يدرك أيضاً أن تلك العلاقة، رغم ما انطوت عليه من مصالح مشتركة وتوسعت لتكون علاقات اجتماعية وصداقات، وصل بعضها حد التشابك في الخصوصيات. بالرغم من كل ذلك فقد كان يشعر بأنها بعيدة كل البعد عن هواه ورغباته الروحية والمعرفية، فهو يمقت مقتاً لا حدود له تلك الأفكار والنقاشات السياسية الحزبية، وما كان ليتخلى عن اعتقاده، بأن الرجل العملي هو آخر من يمارس العمل السياسي، أو حتى  الشروع في حديث حول مشاكل ومسائل حزبية، والركض وراء مناصب حزبية لا قيمة عملية لها، وعَد هذا الحال مضيعة للوقت أو لهواً  فارغاً، فالعمل الحزبي  يجعل المرء يلج مسالك هو في غنى عن السير فيها، ويبدو معها المرء غير واضحٍ في سلوكه وخطواته، ومتعصباً لمواقفه ومراوغاً  ومهاتراً حتى في البسيط منها. وفي الغالب لن يكون قادراً الإفصاح عن ذاته.

 كل ذلك كان حقيقة ماثلة أمامه. ولكن المصيبة كانت تتسرب من تحت قدميه، ويشعر بها مثل حية رقطاء تلتف صاعدة لتحيط جسده بالكامل. شباك تحاك بنشاط  وغرابة فتلتف خيوطها لتربط حياة  البشر دون أن تسألهم عن خياراتهم  بمعنى من المعاني. ورغم أن الفعل يظل غامضاً، ولكنه في النهاية يتجلى بوضوح في جميع زوايا ومقتربات الحياة وعلى مدار الساعة. تلك الأيام بمرارتها ولؤمها، ما زالت لحد الساعة ماثلة في ذهنه، حاضرة حيّة متيقظة وفاقعة.

يتذكر اليوم تلك الوقائع بحيثياتها وتشوهاتها. عند الباب الأمامي لمبنى البلدية، بادره أبو مصعب المسؤول الحزبي لمنطقة حيّ البكر، السلام والتحية. للمرة الأولى يتحدث معه، رغم أنهما سبق والتقيا في مرات متباعدة  لقاءات عابراة، دون حديث أو حتى سلام. أمسك بكفـّه وهزّ يده بحرارة وبوجه رضي وابتسامة مشرقة، سأله إن كان يوافق على دعوة خاصة في بيته. يتذكر جيداً تلك الساعة حين جاء لمبنى البلدية وسط المدينة ليقدم عرضه الخاص لمقاولة تشييد بناية الجيش الشعبي في حي البكر. كان يستحيل عليه رفض الدعوة، وقرّر دون تردد تلبيتها. كانت تلك الجلسة بداية البدايات، لا بل كانت مفتاحاً لأحداث جسام تلتها.

منذ البداية أسترسل أبو مصعب بكلام مبهم، بعدها راح بمبالغة فجة توصيف شخصيته وقدراته، ثم ولج حديثاً جديداً عن السلوك والأخلاق ومصالح الناس وحاجات الحزب وبرامجه المستقبلية، ومن ثم، وبكلام واضح وصريح، طرح ما أراد الوصول إليه، فكانت المساومة وكانت هناك حجج ونيات، كان عليه أن يكون دقيقاً وحذراً في توصيفها وفهمها، ومع كل ذلك الحذر والتطيّر، سمح لنفسه  في النهاية أن يوافق أبو مصعب رغباته، مع الحذر وتفادى الزلل. وجد نفسه يذعن شيئاً فشيئاً لتلك المساومات التي كانت صفقات في الحصول على المقاولات مقابل رشىً. وكان الاضطراب والاشمئزاز مع تقدم الصفقات قد اختفيا كلياً من روحه. صحيح أن البداية كانت صغيرة بمكاسبها، ولكنها فتحت له الأبواب ومهّدت له مسالك، ما كان بمقدوره الولوج وسطها. وصارت بناية المحافظة والكثير من موظـفيها، وكذلك أعضاء مهمّون في الحزب، مجرد معابر مهيأة ووافرة بالطمأنينة. لم تكن الحياة خالية من كلمتي  " فيد وأستفيد " ولكن هذا المعنى اختلف بالنوع والحجم، وبدت الأمور تأخذ منحىً آخر، فكان يفرحه معها أن تتاح له فرصة اكتشاف العالم الخاص بهؤلاء الرجال. وبالرغم من التظاهر عن عمد بعدم الاهتمام أو ملاحظة ما يدور في حياتهم الحزبية والمهنية، فقد كان يحتفظ في ذهنه بجميع المشاهد الخاصة بحياتهم، رغباتهم وأهوائهم والكثير من أسرارهم، حتى العائلية منها، وهو يدرك أيضاً  أنهم يعرفون مثل هذا الأمر بشكل أو آخر، ولكن هذا لم يكن ليمنعهم في أن يودعوه أسرارهم وأسرار غيرهم دون تحفظ.

هل كان عليه أن يميز بين سلطة الشيطان وسلطة الرحمن، في ذلك الوقت وتلك الحومة التي زلـت إليها قدماه دون رغبة التوقـّف أو الحذر. ولِمَ الحذر والخوف ؟ هل كان عليه أن يصبح شخصاً آخر لينأى بنفسه بعيداً عن تلك الأجواء؟ ولو خُيّر في ذلك، فهل يمتلك القدرة على دفع الخوف جانباً ورفض ما يعرض عليه؟ ما كان سيصبح عليه الحال؟ هل كان من الممكن للأمور أن تسير بشكلها الطبيعي؟ أم أن كل شيء سيتعرض للانهيار؟ بين هذين الأمرين، لا يمكن أن يرجح غير خيار واحد. الحيرة والتردد لا يمكن للمواعظ والنصائح أن تفك عقدتهما، بل ترتسم هناك صورة واضحة لرغبات مكبوتة كانت ترزح بعيداً في روح البشر، هي كومة من عقد ووجدانات وأمانٍ دون تسميات واضحة، ترتسم عند لحظة الخيار بين حالين، بين مشهدين، بين حياتين، لا بل هما، وفي ذلك المنعطف، خيار بين الموت والحياة، فأين من كل ذلك نصائح الروح والوجدان. قباحة  وحماقة كانت، وظلت كذلك وسوف تبقى. ولكن الخوف لم يكن في ذلك الاختبار شذوذاً، نتفاً من شظايا لخيار آخر. كل تلك الصفقات والمساومات ما كان القلب ليبتذل بها، ويلغي معها كلياً ما يمليه الضمير والروح الشغوفان بحب الناس من أهل مدينته والعطف عليهم. هؤلاء القوم الذين قادتهم الأقدار نحو مرارات لا حدود لها. هؤلاء المعذبون الواقفون يتفرجون على ما يحدث، ولا يملكون من قرارهم شيئاً، والخوف يلفهم بقسوته ويسلـط عليهم وحشته، هؤلاء البشر ما كانوا غير عيون تتلصّص فتراها مسّهدة معذبة مع كثرة ما تلتقطه وتخزنه من صور الخسارات والنكبات.

أحَبَ في تلك العيون استكانتها وقدرتها على كتم الألم، وبدوره، ما كان ليوّجه لأحد من أهل مدينته كلمة قاسية أو يواجههم بصدود. صحيح أنه يفعل هذا وفي كثير من الأحيان إشفاقاً وتأسياً. ولكن دخيلته حَوت شغفاً وحباً كبيرين لهم لا يمكن المساومة عليهما

هذه اللحظات الحارقة أيقظت في روحه عواطف محبة ومودة غريبة وطافحة،لأهل مدينته. شقياً كان ساعتها وهو يدرك المجهول الذي لا يفقه كنهه والذي راح يلف المدينة ويثقب سماءها بدويّ الرصاص ولعلعته.

كانت نفسه المكروبة قد جادت اليوم بألمها وهي تلملم ذكرى الماضي القريب. ذاك الأمس المرمي ثقيلاً راكداً في الذاكرة. أيام موحشات صعاب، أيام انتفضت فيها تلك الأرواح المعذبة الكظومة لتفصح بقوة عن خزين عذابها ووجعها. تلك انتفاضة الناس الذين أُطلقوا من قمقمهم الدهري يبحثون عن زمن ينصفهم، ويستعرضون في وجه جلاديهم بأس شجاعتهم وتحدّيهم. يتذكر الآن أيام انتفاضة مدينته، وكيف حُشر وسط مجموعة من الرجال في غرفة ضيقة من بناية البلدية. دُفع بخشونة وسط الحشد تصاحبه شتائم لم يعهد أن وجهت له مثلها من أبناء بلدته. لم يكن ليتعرف في بادئ الأمر على تلك الوجوه التي سحبته من أمام باب مكتبه ودفعت به نحو جوف السيارة، ولكن راوده اعتقاد بوجود بعض ممن كان قد شاهدهم سابقاً من بين تلك الوجوه المنقّبة. كانت هتافات التكبير تتردد في أنحاء المدينة وصوت الرصاص يلعلع وصفيره يخترق الرأس بحدّة، دون أن يعطى المرء فسحة من تفكير. امتد أمر الحجز حتى المساء حين بدأت حركة فوضى تعمّ المكان، وكان هناك صراخ وعويل وثمة أشخاص يدخلون ليسحبوا أحداً من الغرفة، ثم بعد دقائق يأخذون شخصاً آخر، ولم يرجع أحد من هؤلاء المسحوبين إلى الغرفة بعد ذلك. كان ينتظر أن يحلّ دوره حين دخل أبو ساطع حاملاً سلاحه وطالع الوجوه ثم صرخ

ـ أبو قصي ...شتسوي هنا..منو جابك.. يمعودين شني... شصار بيكم...شتسوون ..جا هذا ما تعرفونه ؟

ثم سحب رجب من يده، وكانت وجوه عديدة تطالع الأمر بوجوم واستغراب. تقدم به نحو غرفة مجاورة حيث يجلس وسطها رجل معمّم يقف قبالته ثلاثة رجال بثياب رثة يتأبطون أسلحتهم. دون تردد وبلغة فيها الكثير من الحزم، طلب أبو ساطع إطلاق سراح رجب مع ضمانة من قبله، وتم الأمر بعد حديث طويل مرتبك وكلمات فيها نوع من الجفوة والمماطلة.

كان أبو ساطع صاحب سيارة  قلاب، عمل طويلاً مع رجب في مواقع عمل كثيرة ويشعر بقيمة الروابط التي جعلته يحتفظ بمكانة خاصة لتلك العلاقة ولشخص رجب بالذات. فرجب هو من ساعده على امتلاك تلك السيارة القلاب، وقدم له العون المالي، وكفله في أمر شرائها. وقد عمل في أكثر المقاولات التي كان رجب يقوم بتنفيذها. وبالرغم من أنه كان مهذاراً متطيراً وسكيراً في الغالب، لكنه كان يحمل قلباً طيباً وروحًا تفيض محبة، وفوق هذا فهو يعمل بإخلاص منقطع النظير وينجز عمله بتفان وإتقان شديدين.

بعد أن أعاده أبو ساطع إلى بيته وتحاشياً من تكرار اعتقاله، فقد صحب رجب عائلته تاركاً وراءه بيته ومكتبه ومدينته التي سقطت بيد المنتفضين. اجتاز بسيارته طريقاً صحراوياً وصل في نهايته وسط مدينة النجف، فوجد أن الأمور ليست مثلما توقعها، وكان حال المدينة مثلما مدينته، فهي ملتهبة وتمور بالثورة، والغضب أخذ مأخذه من أهاليها. وبالرغم من انتصاف الليل، فقد قرر عدم البقاء ومتابعة طريقه نحو بغداد وبدأت الشكوك تساوره، فربما الانتفاضة قد تجاوزت الحدود ليجد بعدها بغداد كباقي المدن والقصبات التي مر بها.

***

فرات المحسن

 

في نصوص اليوم